هي أستاذة موسيقى، وهي صوت جبل قفصة، وهي الشّامة المزروعة على صحراء تونس الأعماق. امرأة مؤمنة بجذورها حتى النّخاع . غنّت لتونس بصوت جنوني.رأت ان التراثَ كائن متحرك لا يمكن له ان ينمو الا بالرعاية والايمان به. وأضافت عليه ايقاعات عالمية فأتت موسيقاها تراثا حداثيا. مع زهرة الأجنف كان هذا اللقاء لتحدثنا عن سرّ اهتمامها بالاغنية التراثية والى أيّ مدى تريد ايصالها: ❊ زهرة الأجنف : اشتغالك منصبّ كليّا على أغاني التراث، ما مردّ هذا الاهتمام؟ منذ طفولتي شعرت ان هذا الغناء فيه بهاء وهالة، فأنا وكما يعلم الجميع أصيلةقفصة وتحديدا من أحد جبال »سوينة« كنت أشعر دائما وانا فوق قمة الجبل بشموخه وشموخ كل العناصر المكملة له انطلاقا من الانسان الى الغناء الجبلي الباذخ. صحيح انني كنت أسمع كل الموسيقات العربية بمشرقها ومغربها خاصة الاغنية الجزائرية حيث كنا نستمع بشكل يومي الى الاذاعة الجزائرية بما ان قفصة على الحدود مع الجزائر. فتشبعت أذناي بجميع النغمات حتى الغربية منها، لكن كنت انتصر دائما الى صوت الجبل الذي أنا منه والى صوت والدتي ومحيطي والمرأة المنشدة طواعية وهي بصدد القيام بأشغالها اليومية. ❊ هذا الاشتغال على المرأة البدوية رأيناه في كليب »ردّ النبا« فماذا عن التجربة؟ بالفعل تجربة »ردّ النبا«، كانت مميزة وهي عن طواعية وتلقائية من بعض خريجي معاهد السينما في تونس، وأشكر بالمناسبة مخرج الكليب رضا التليلي الذي فهم وحشد وأردت طرحه في هذا الكليب حيث عملت على إظهار المرأة التونسية والبدوية في تلقائياتها اليومية دون مساحيق ولا اكسوارات. المرأة البدوية بتجاعيد وجهها ووسائل عملها التقليدية. ❊ الطّبوع التونسية متنوّعة حسب الجهات، هل من الضروري أن يكون الفنان أصيلَ منطقة معينة حتى يقدم تراثها بالشكل المطلوب؟ لا، ليس من الضروري، حيث ان الموسيقى لغة عالمية وكونية يفهمها كل انسان ذي مشاعر وأحاسيس، المهم ان يشعر بعمق ذاك الموروث والاجواء الآتية منه، فأنا مثلا بامكاني ان اشعر بعمق اغنية اسبانية تحكي عن الفجر دون ان تكون لي صلة بمحيطهم، لكن في إنصاتي إلى أغانيهم استشعر هذا المحيط والتاريخ والمرجعيات. وعندما استمع الى أغنية من بلغراد اشعر بحروبهم ومآسيهم وعندما استمع الى أغنية جربية أشعر انني امام يوميات التاجر الجربي، فأرى الزورق بألوانه وأشم رائحة السمك الاتية من البحر في حين انني أصيلة منطقة جبلية. الموسيقى لا تٌفسَّر بل تٌحَسٌّ. ❊ كيف يمكن اليوم لفنان يشتغل على التراث أن يستفيد من الفسيفساء التراثية الحاصلة في الجهات؟ ربما، علينا الآن وقبل اي وقت مضى ان نعيش نوعا من التعصب لتراثنا لثقافتنا لهويتنا، دعنا نعرف من نحن، وماذا لدينا، وكيف نتعامل معه، العمل وحده هو الذي يفتح كل الابواب، علينا مراجعة أوراقنا واعادة ترتيبها لتقديمها بالشكل الجيد لأبنائنا. قد أجد الاعذار لمراهقينا الذين عودوهم على سماع عبد الحليم وفيروز ووردة، فلا يمكن لي بأي شكل من الاشكال ان أتعسف عليه عندما لا يستمع الى اسماعيل الحطاب مثلا لأن مرجعيته وللأسف غير تونسية فحتى كلامنا بتنا لا نستعمله الا في الخصام اما في الحب فنتحدث بلهجة شرقية او بلغة فرنكوفونية، فمن الطبيعي ان لا نلوم هؤلاء. ❊ لكن هذا التعصب قد يحلينا إلى الانغلاق الكلي؟ لا، هي مرحلة في اعتقادي لابد منها، فقد انفتحنا في مرحلة سابقة بما فيه الكفاية حتى باتت كل المفاهيم هي نفسها، هناك أناس عاشوا وماتوا وهم لا يعرفون من هم وماهي أصولهم وفنونهم، حتى في الموسيقى هناك جمهور خاتلوه بأن عوّدوه على حب فنان ما، هناك سعادات ضائعة وغربة مع الذات، فحتى الحلول اصبحنا نستوردها كأعيادنا المستوردة. ❊ وما هي برأيك شروط الإبداع في المجال التراثي؟ على الانسان ان يكون متصالحا مع نفسه أولا وقبل كل شيء حتى يبدع، انا من زمن معين وبيئة معينة وعندما أفهم ما أنا عليه أستطيع أن أكون أنا. أنا ضد ان يكون المواطن في حالة انفصام مع ذاته، وان يكون في البيت انسانا وفي الشارع انسانا آخر. ❊ استباحة غناء التراث هل هو لأسباب إنتاجية أو لفقر إبداعي؟ لكل فنان اسبابه ودوافعه. بالنسبة إليّ تشبثي بأصلي وجذوري وهويتي هو دافعي وهناك من يرى ان هذا اللون هو الان في أوجه فيقتحمه لكن اي شيء غير حقيقي لن يدوم، حيث أذكر انني في مرة من التراث شكوت لأستاذي سمير الشيشتي من بعض الفنانين الذين استباحوا أغانيّ، فأجابني قائلا: »لن يستطيعوا أخذ شيء منكِ فالصدق الذي فيك لا يُنتزَع«. ومهما كانت الأسباب فبالنسبة إليّ ان يغني الفنان أغنية تراثية تونسية حتى للأسباب مادية أفضل من أن يغني اللبناني والمصري، وعلى الاعلام ان يواكب هذا النهج من خلال إعطائهم حق البث وان لم يطلبه الجمهور فلك ان تغيّبه لاحقا. الجمال ليس بمعطى قبليّ بل نتربّى عليه من خلال قيم خاصة، هناك أناس من البادية غنوا ولم يسمع بهم أحد وأنا يشرفني ايصال صوتهم للعالم. ❊ شاركت مؤخرا في اختتام الأسبوع الثقافي التونسي بتلمسان، فكيف كان وقع هذه المشاركة على الجمهور الجزائري؟ ما شجعني على المشاركة في الاسبوع الثقافي التونسي بتلمسان أولا، هو احتفاء هذه المدنية بكونها عاصمة للثقافة الاسلامية، وهذا نفس توجهي حيث اعمل منذ مدة على ترسيخ الثقافة العربية الاسلامية وقد حظيت بشرف تقديم سهرة الاختتام، وقد كان تفاعل الجمهور الجزائري معي كبيرا، لما قدمته له من موسيقى غير بعيد عنهم على اعتبار انني وكما أسلفت أصيلة منطقة حدودية مع الجزائر. هي سهرة فيها التحام كبير بالجذور والجمهور الذي أحب كثيرا غنائي لدحمان الحراشي حيث رأي في أدائي لأغنية »خبّي سرّك يا الغافل« ليس نوعا من المجاملة بل وكأننني أغني لجذوري. ❊ ما هي السهرة التي بقيت لك في البال؟ كل حفل لي معه حكاية وتضيف إليّ الكثير، أذكر ذات مرة حينما غنيت في مالطا شعرت بإحساس غريب هو أقرب الى التحلي حيث شعرت وزني الافتراضي قد نقص وكأنني طائر يطير بين السماء والأرض. ❊ المعروف عن زهرة الأجنف أنك تغنين للتراث في حين أنك تكتبين وتلحنين، فلماذا تم حصرك في الغناء للتراث فقط؟ ربما لأن نوعية ما أقدمه من غناء تم حصرها في التراث، والحال انني كتبت ولحنت أغانيَ حديثةً لكن ربما بروح تراثية ففي ألبومي الاول مثلا »رڤراڤ« كتبت ولحنت أغنية »يا جبل يا عالي« كما لحن لي لطفي بوشناق »عرجون الدڤلة« من كلمات آدم فتحي، لكن الناس حصرتني في أغاني التراث ولم يعد هذا يقلقني بالمرة، المهم صدق ما أود ايصاله للجمهور. ❊ نلاحظ في أغانيك التراثية مزج بين موسيقى »الجاز« و »البلوز« فأين يلتقي »الصّالحي« التونسي بالموسيقى العالمية؟ أعتقد ان الالتقاء ليس في القوالب بل في التقارب الموجود بين الشعوب حيث أنهم جميعا اشتركوا في الآهات والآلام وأنا تعمدت في أكثر من مرة اقحام »جَازْمَانْ« بلجيكي في غنائي لايماني بأن التراث ليس فلكلورا محنطا بل هو متحرك ومتجدد. مثالي في ذلك مثال الطبيب الذي يتعمد مصارحة المريض بمرضه حتى يتحمل المريض مسؤوليته في الشفاء. وأنا كنت ومازلت صابرة ومؤمنة بما أريد ايصاله إلى الجمهور، بعيدا عن الاحكام المسبقة والنمطية، المهم عندي ان تصل ايقاعاتنا الى الأخذ في شكل تعبيرة انسانية، وهذا من الطبيعي ليس بمعزل عن شخصية زهرة وصوتها، وصوت والدتها وجدتها، المهم ان اعبر على نفسي وعلى بيئتي بآلياتي الحالية. ❊ كلمة أخيرة؟ رفقا بأبنائنا الصغار مما يعيشونه اليوم من فروسيات سياسية ومصطلحات غوغائية فنحن ذاهبون وهم القادمون وعلى عاتقهم يقع مستقبل تونس وهذا المستقبل لا يٌبْنى بالكلمات الفضفاضة والخاوية.