لا أعرف إلى أين غادرتني ذاكرتي منذ الرابع عشر من جانفي 2011، بعد ارتباك الضياع الاول سلمت امري لخيال سابح في المستقبل إلى مدى غائم خُلّب غير مكتمل الملامح. أيقنت بعد فترة أن فيروسا ملعونًا قد تسلّل إلى قرص الذاكرة وخرّب كل اللحظات العميقة التي اختزنتها سنوات الرقابة والقمع الممنهج. قنعت بما أنبأني به ذهني من علّة ضياع او خراب الذاكرة. ولم يَعد يستهويني إلصاق الصور على جدران ذاكرتي بل تركتها فراغا يعمره الغياب. لم أتذكر فيما اضعت من ذاكرتي انني كنت قد علقت على احد جدرانها صورة متخيّلة لمحاكمة الطاغية بن علي فقد كان وجودا سرمدا استوى على العرش غير مبال بشقاوة الطيبين، لذا فقد كان مروري يوم الاثنين 20 جوان 2011 بشارع باب بنات محض صدفة وأنا في طريقي الى مستشفى شارل نيكول فقد تأكدت ساعتها فقط تأكدت وانا أرى الجموع تحتشد امام المحكمة بان ذاكرتي قد غادرتني فعلا، فقررت نكاية فيها ان اسقط هذا الحدث من اهتمامي وأمرّ إلى حيث قرّر لي خيالي الخُلّب ان اتجه. مساء عاودتني الذاكرة مصحوبة هذه المرة بعذاب الضمير وبمرارة في القلب، قد قفر إلى العقل سؤال »لماذا لم أُبْدِ اي اهتمام لمحاكمة المخلوع؟« استبدّ بي السؤال وحاصرتني الذاكرة وهي تستعيد ذكريات 23 سنة من الكرنفالات البنفسجية المخضبّة بدماء شعبنا الحمراء رايات واعلام للنفاق والتملق والقهر الدعائي. عجزت عن الاجابة فاستفتيت صديقي ليحلّ هذا اللغز الذي أدمى ضميري ومنع عني الطمأنينة. ❊ ❊ ❊ حدثني صديقي قال: »استفاق الشارع التونسي يوم 20 جوان الجاري على خبر محاكمة الرئيس المخلوع وزوجته وسط حالة من الذهول والازدراء وتشكيك صريح في مدى جدية المحاكمة وفاعليتها في تهدئة شارع ملّ المناورات السياسية والمسكنات النفسية التي تقدمها الحكومة المؤقتة لامتصاص الغضب وتأمين الطريق إلى موعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بأقل ما يمكن من الاحتجاج.. في قاعة المحكمة جمهور كبير واعلام واعوان امن يتأملون كراسيَ شاغرةً لمتهمين اجرموا في حق البلاد والعباد وقاضٍ مرتبك.. ينادي الحاجب ثلاث زين العابدين بن علي.. ليلى بن علي.. فلا مجيب سوى رجع صدى من اللعنة والسخط والتراجيديا التي تجمعت خارج المحكمة لتحاكم المخلوع باحلامها ودموعها وجراحها... تطوع المحامون للدفاع عن الذات البشرية الغائبة في محاكمة الغياب وجلس القاضي الذي تعود ان يتلقى بعض التوجيهات المفيدة من قضاة مدربين على مثل هذه القضايا التي يساق لها أبناء الشعب من السياسيين والمعارضين، هم لم يتصوروا يوما انهم سوف يسترجعون حريتهم وانهم سيحكمون دون وصاية جهاز الهاتف او الفاكس. دقت ساعة الحكم فلم تكن سوى حشرجة وغمغمة وطعم لم يبْلعه الضحية الذي عمد مستقبله بأضرحة الشهداء الذين لم تجف دماؤهم بعد 35 سنة من السجن وبعض المليارات حكم ثوري جدا في محاكمة الشكليات والرسميات والمضحكات المبكيات هكذا تأوّه ابناء شعبنا مع سؤال بسيط جدا لماذا القفز على محاكمة مجرمي الداخل قبل الخارج؟ من قتلوا ابناءنا ومن نهبوا ثروتنا ومن تآمر وعاد في جبّة الثورة »أولائك اعداؤك يا وطني« اما توجيه الرأي العام الى المعركة الخطأ، في الزمن الخطأ في مسرحية مهزلة سيئة الاخراج والتمثيل فرقص على جثث الشهداء وطعن ل