نصف قرن بالضبط بلياليه وأيّامه وأعياده ومناسباته المختلفة بفصوله الصيفية والشتائية والربيعية والخريفية نصف قرن واكثر... قلت بالضبط لا هو نصف قرن وبضعة اشهر وعدة اسابيع منذ ان غادرت ارض الوطن الى أين...؟ إلى فرنسا.. إلى «بلاد العكري» مثلما يقول آباؤنا وأجدادنا الى التي استعمرتنا طيلة 75 عاما لتستقبلنا بالاحضان.. بالفرح والسرور والورود دون تأشيرة ولا يحزنون دون عراقيل ولا مشاكل لا في ميناء مرسيليا ولا بمطار «أورلي» وكأني بأعوان الحدود الفرنسية من رجال شرطة وجمارق يردّدون المقطع المعروف من الاغنية الشهيرة لعبد الحليم حافظ... تعالى... تعالى... نعم يا فرنسا... ها اني أتيتك ضمن مئات الآلاف من التونسيين الذين قرروا الهجرة اليك... إلى احضانك.. إلى كل شغل شاق ساهم في بناء اقتصادك والذي لا يقدر عليه احد ابنائك... اذكر ان الوالدة رحمها الله كانت تسأل في تلك السنوات: أين جارنا فلان؟ وابن فلان؟ وابن عم فلان؟ والحوانتي؟(العطار) والخباز؟ والحلاق؟ والملاخ؟ والبيّاض؟ وأين من كان يزوّدنا بالماء؟ (القرباجي) وخضّار الحومة؟ والسيكليست؟ (الذي يصلح الدراجات) وعم الصادق الفطايري؟ ويأتيها الجواب الذي كان واحدًا: يا خالتي نفيسة هؤلاء الذين تسأل عنهم والذين كنت تشاهدينهم كل يوم وتتعاملين معهم وغيرهم وغيرهم كثيرون... كلهم هاجروا وتركوا ارض الوطن وسافروا الى فرنسا. فأجابت مستغربة: «ايكبْ سعدهم الكُلْ.. طردو فرنسا وخلطو عليها» لقد خرجت عن الموضوع موضوع تونس والهجرة رمضان... رمضان بعد الثورة المباركة ثورة 14 جانفي 2011، لاعود... لقد تعودت ان اقضي شهر رمضان في تونس صيفًا كان ام شتاء، وحتي مشغّلي يعرف ذلك وهو مقاول البناء الشهير بمدينة «سترازبورغ» وزوجتي وابنائي وبناتي واحفادي وحفيداتي كلهم يعرفون ذلك وتعودوا عليه.. خاصة وقد فضلت مواصلة الاقامة هناك ببلاد الهجرة بعد التقاعد.. شهر رمضان هو شهر التسامح والكرم والعبادة والتقارب والصلاة والصوم وهو بالخصوص شهر «الشاهية» والزلابية والمخارق والبريك والشربة و«السلائط» بأنواعها والبوزة والحلويات وهو في تونس شهر «الشكبة والرامي» و«الشيشة» وهو ايضا شهر الاسترخاء والخمول والركون الى الراحة القيلولة كيف لا وهو يصادف هذا العام خاصة شهر اوت بأكمله؟ هذه كلها اشياء تافهة ولا قيمة لها... لكن الذي يقلقني تلك الاخبار التي تتحدث عن رمضان «حار» لا بفعل حرارة الطقس.. بل بما ينتظره من أفعال اخرى يتوقعها التونسيون والتي ستنغّص عنهم ايام صيامهم وليالي سهراتهم كل ذلك لا يمنعني كالعادة من تمضية شهر رمضان بالكامل بمسقط رأسي بين الحلفاوين وباب سويقة مهما كان ويكون.