جُودة دحمان: أسلاك التربية تدقّ ناقوس الخطر وتحذّر من تصعيد قد يصل إلى مقاطعة الامتحانات    ويتكوف يكشف موعد المرحلة الثانية من اتفاق غزة    تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة    طقس اليوم: ارتفاع في درجات الحرارة    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    فوز المرشح المدعوم من ترامب بالانتخابات الرئاسية في هندوراس    تطوير خدمات الطفولة المبكرة محور لقاء وزيرة الأسرة ورئيسة غرفة رياض الأطفال    فاطمة المسدي تنفي توجيه مراسلة لرئيس الجمهورية في شكل وشاية بزميلها أحمد السعيداني    الفنيون يتحدّثون ل «الشروق» عن فوز المنتخب .. بداية واعدة.. الامتياز للمجبري والسّخيري والقادم أصعب    أمل حمام سوسة .. بن عمارة أمام تحدّ كبير    تحت شعار «إهدي تونسي» 50 حرفيّا يؤثّثون أروقة معرض هدايا آخر السنة    قيرواني .. نعم    كأس إفريقيا للأمم – المغرب 2025: المنتخب الإيفواري يفوز على نظيره الموزمبيقي بهدف دون رد    الغاء كافة الرحلات المبرمجة لبقية اليوم بين صفاقس وقرقنة..    نجاح عمليات الأولى من نوعها في تونس لجراحة الكُلى والبروستاتا بالروبوت    الإطاحة بشبكة لترويج الأقراص المخدّرة في القصرين..#خبر_عاجل    مناظرة 2019: الستاغ تنشر نتائج أولية وتدعو دفعة جديدة لتكوين الملفات    كأس افريقيا للأمم 2025 : المنتخب الجزائري يفوز على نظيره السوداني    الليلة: الحرارة تترواح بين 4 و12 درجة    هيئة السلامة الصحية تحجز حوالي 21 طنا من المواد غير الآمنة وتغلق 8 محلات خلال حملات بمناسبة رأس السنة الميلادية    من الاستِشْراق إلى الاستِعْراب: الحالة الإيطالية    عاجل : وفاة الفنان والمخرج الفلسطيني محمد بكري    بابا نويل يشدّ في'' المهاجرين غير الشرعيين'' في أمريكا: شنوا الحكاية ؟    تونس 2026: خطوات عملية لتعزيز السيادة الطاقية مع الحفاظ على الأمان الاجتماعي    الديوانة تكشف عن حصيلة المحجوز من المخدرات خلال شهري نوفمبر وديسمبر    في الدورة الأولى لأيام قرقنة للصناعات التقليدية : الجزيرة تستحضر البحر وتحول الحرف الأصيلة إلى مشاريع تنموية    القصور: انطلاق المهرجان الجهوي للحكواتي في دورته الثانية    عاجل: بعد فوز البارح تونس تصعد مركزين في تصنيف فيفا    زلزال بقوة 1ر6 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    عدّيت ''كوموند'' و وصلتك فيها غشّة؟: البائع ينجّم يوصل للسجن    تزامنا مع العطلة المدرسية: سلسلة من الفعاليات الثقافية والعروض المسرحية بعدد من القاعات    قفصة: إصدار 3 قرارات هدم لبنانيات آيلة للسقوط بالمدينه العتيقة    عاجل/ بعد وصول سلالة جديدة من "القريب" إلى تونس: خبير فيروسات يحذر التونسيين وينبه..    قائمة سوداء لأدوية "خطيرة" تثير القلق..ما القصة..؟!    حليب تونس يرجع: ألبان سيدي بوعلي تعود للنشاط قريبًا!    هام/ المركز الفني للبطاطا و القنارية ينتدب..    عاجل: هذا موعد الليالي البيض في تونس...كل الي يلزمك تعرفه    قابس: أيام قرطاج السينمائية في الجهات ايام 25 و26 و27 ديسمبر الجاري بدارالثقافة غنوش    عركة كبيرة بين فريال يوسف و نادية الجندي ...شنوا الحكاية ؟    درجة الحرارة تهبط...والجسم ينهار: كيفاش تُسعف شخص في الشتاء    هذا هو أحسن وقت للفطور لخفض الكوليسترول    عاجل: تغييرات مرورية على الطريق الجهوية 22 في اتجاه المروج والحمامات..التفاصيل    صفاقس: تركيز محطة لشحن السيارات الكهربائية بالمعهد العالي للتصرف الصناعي    تونس: حين تحدّد الدولة سعر زيت الزيتون وتضحّي بالفلاحين    بول بوت: أوغندا افتقدت الروح القتالية أمام تونس في كأس إفريقيا    مع بداية العام الجديد.. 6عادات يومية بسيطة تجعلك أكثر نجاحا    عاجل/ العثور على الصندوق الأسود للطائرة اللّيبيّة المنكوبة..    اتصالات تونس تطلق حملتها المؤسسية الوطنية تحت عنوان توانسة في الدم    عاجل: اصابة هذا اللّاعب من المنتخب    وزارة التجهيز تنفي خبر انهيار ''قنطرة'' في لاكانيا    عاجل/ قضية وفاة الجيلاني الدبوسي: تطورات جديدة..    كأس الأمم الإفريقية المغرب 2025: برنامج مباريات اليوم والقنوات الناقلة..#خبر_عاجل    دعاء السنة الجديدة لنفسي...أفضل دعاء لاستقبال العام الجديد    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    في رجب: أفضل الأدعية اليومية لي لازم تقراها    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بطاقة معايدة متمردة : الشيخ خالد مهنا
نشر في الفجر نيوز يوم 17 - 08 - 2010

هذا المساء أعتذر إليكم لأني قادم إليكم مخالفاً للرأي السائد والمعتقد..
أجيء إليكم مكسور المشاعر كالإناء لأسألكم:
ما بالها كل عام وانتم بخير تنطق بها كل الشفاه؟
ما بال صحفنا ومجلاتنا وقنواتنا وهي ترفع تهانيها للأمة في المناسبات توقع تهانيها بمثل هذه ألتغيصة؟ ومع كل عيد تتسابق الإعلانات لترفع التهاني والتبريكات....
لا تنظروا إلي هكذا باندهاش وكأنني من كوكب المريخ آتٍ..
عفوا إذا اذا نغت علكم، لكن طبيعتي تأبى التصنع والرياء فمتى ذاقت هذه الأمة معنى الخير حتى تهنئ به؟
هل كان الخير مصاحباً لنا قبل رمضان، فنستحق التهنئة؟..
منذ زمن طويل انفجر الخير... أعدم شنقاً.. أحرقوا أرضه واغتالوا أشجاره فأي خير نلبسه بعد احتراق جذوره وأغصانه وأوراقه؟؟
كل أمم الأرض اجتمعت حاملة خناجرها وطعنت غيوم الخير في مقتل فهل يمكن لامتنا ان تهنا بالمطر او يتسافط عليها القطر والندى والغيث؟..
وهل تهنئةُ عابره فيها الكثير من التكلف والتصنع ستصنعه؟
لقد أوقفوا الريح كي لا تمر على بغداد وفلسطين ولبنان وكل أقطار الأمة... صادروا أدوات الكتابة من الشعراء والكتاب والمبدعين....
وطننا يحترق من البحر إلى البحر فأي خير سيأتينا رعاكم الله، ألم يكن الأجدر بطوابير المهنئين أن يشيعوا جثمان هذا الرجاء ويستبدلوه برجاء آخر؟..
ويسألني المهنئ أي كلمات اكتبها لك بهذه الُمناسبه حتى أرمم الخطأ...
فيا ايها المهنئون إن كنتم ولا بد مصرون فإني لكن ناصح أمين..
بدل كل عام وانتم بخير فلتصبح ما كل عام وانتم ب شّرٍ..
***
منذ زمن طويل- نسينا تاريخه- إذا تكلم المواطن العربي والمسلم على الهاتف يدخل في الخط معه دراكيولا وهيتشكوك...و نحن لسنا طماعين .. كل ما نرجوه أن ينأى الشر عنا (وملحقين على الخير)..
منذ زمن بعيد وأنا أمشط صفحات التاريخ عبارة عبارة وصفحة صفحة ،وفاصلة فاصلة، ونقطة نقطة، فلا أرى بشرى خير قادمة في الطريق بل كل ما أراه يومياً قصف جوي للمدنيين وخيام جديدة للمشردين والمعذبين ، ولا أرى إلا مؤامرات تحبك هنا وهناك، وليس في الأُفق القريب ما يبشر أن المعتصم قادم.
نحن مجرد كذبة فعلى الأقل ليهنئنا الُمهنئ أن يبعد عنا شر أن نكون من الكذابين..
وطننا بدون نوافذ.. شوارعه هربت.. مصابيحه أطفأت، والسياسة عندنا وحدها مستنقع ...فماذا بعد أن التقت السياسة بالغباء، والبغاء، وكل الكلمات التي تحمل البشرى نستنشقها كبريتا، وليس هواء صافياً، فمن أين يأتينا الخير؟؟..
اللهم سلِمنا من الشر!!!..
منذ زمن بعيد لا يقال لنا في المناسبات والأعياد إلا هذه الكلمات الأربعة، ولم يأت الخير بل ازداد الشر تجذراً في واقعنا، الم يئن الأوان أن نجرب جملة أخرى.. فلربما من كثرة تكرارها _ تتدفق الأنهار من تحت الصخور الصماء..
ولربما في (ما كل عام وانتم ب شر) ،من هذا الخاتم الفيروزي الجديد يأتي المشمش الحموي والصفصاف والدفلى وعطر الجلنار...
***
منذ أعوام مديدة –نسيت عددها- كنا نعيش حالة هناء وصفاء ورغد ، ومنذ أصابنا داء الوهن والغثائية حاولنا مرارا وتكرارا أن نعود لسالف عهودنا الذهبية ولم ننل غير الفشل.... تسلقنا المشروع الوطني القومي على اعتبار انه مفرج الكروب فزحلقنا وتزحلقنا معه....تسلقنا المشروع الإسلامي الضيق...قشرنا ليمونه وبرتقاله فلم نحسن أن نطلع منه عصير أو ماء ...تحمسنا لوحدة عربية إسلامية ثم انفرط العقد فصرنا على بعضنا اشد باسا...تزوجنا عن حب ثم طلقنا، ويشهد الله أن امتنا لم تستحق شرف رفع التبريكات لها إلا حين تصرفت مع فلسطين تصرفا جميلا عكس مدى انتماءها وحبها لها، وانسجمت مع إيقاعها العام حتى بلغت بعزفها إلى ذروة التفاني والسمو ونكران الذات....وقد كانت سيمفونية فلسطين يومذاك أهم واكبر كل سمفونيات الدنيا، بل كانت هي الهم والعمل الوطني الوحيد الذي استطاع أن يصل إلى وجدان كل عربي ومسلم ويهزه من مرقده لان المقاومة الفلسطينية حينذاك كتبت بالحبر الأحمر نوتة هذه السمفونية ...
منذ عقود جاءت مناسبات وأعياد....جاءت رمضانات وأدبرت...جاءت أعياد الحب!!وغادرت..وأعياد الميلاد جاءت تحمل الأشجار المكسوة بالثلج ورحلت،وأعياد رأس السنة جاءت ووضعت المزامير والطراطير والبالونات ورحلت.. ومئات أعياد الأضحى جاءت وذبحت فيها الخراف السمينة واستراحت .جاءت أعياد ومناسبات ولم أعايد أحداً بالجملة المعهودة المألوفة الممجوجة،وشخصياً أؤمن أنني حين أقول لأي عربي"كل عام وانتم..." أشعر نفسي ضئيلاً جداً، بل أحس أنني أضع بين يديه نجاسة أو عصفوراً ميتاً أو أعطيه صكاً مالياً مزيفا بل أعطيه ملعقة سم....
بل وأكلمه فسوقاً، وأقدم بين يديه رشوة لشراء ذمته..
ألم نتعلم أن حين يكون تحت الاحتلال يخلق لنفسه -غصباً عنه -مصطلحات وأدبيات وغنائيات مختلفة؟.
من المعروف أن ألحان الأغاني في أي بلد هي انعكاس للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والجغرافي. فالبلاد التي يسودها جو بارد تكون الألحان فيها هادئة، أما البلدان الحارة فيطغى اللحن الصاخب على أغانيها كما نلاحظ ذلك في أغاني الشعوب الإفريقية.
وعندما يكون الوضع السياسي والاقتصادي حاداً يتميز بالصراعات السياسية والظلم الاجتماعي فإن الألحان تتسم بالحدة والسخط والحزن.
أما إذا كانت الشعوب تعيش حياة مرفهة فإنها تكون هادئة البال خالية من المشاكل والهموم اليومية فينعكس ذلك على نصوص وألحان الأغاني أيضاً حيث يزول النغم الحزين وتختفي الآهات والونّات والدمدمات والغصات.
((وتاريخ العراق يتميز بتفاعل الفرد مع الأحداث السياسية والاجتماعية، ويعود ذلك إلى الحس المرهف الذي يتميز به العراقيون. وقد ظل العراق ردحاً من الزمن عرضة للغزو الأجنبي، فقد جاء الاسكندر المقدوني بجيشه الجرار إلى بابل ثم تحول العراق فيما بعد إلى مستعمرة فارسية عام 538 قبل الميلاد عندما احتل قورش بابل، وقد ساعده اليهود في ذلك بأن أخذوا يرمون في الآبار الفئران، فانتشر الطاعون في مملكة بابل، حتى جاء الإسلام إلى العراق بقيادة المثنى بن الحارث سنة 16 هجرية، فكان عاملاً لتحرير العراق من الفرس وتأكيد الهوية العربية.
وعندما تأسس الحكم العباسي في العراق، إثر سقوط الدولة الأموية سنة 132 هجرية، توسعت مصالحه الاقتصادية وازدهرت التجارة ونشأت طبقة تجارية كبيرة، وذاق الخلفاء والأثرياء لذة الحياة المرفهة، فكان لابد من الدفاع عن هذه المصالح الذاتية إزاء أي نقد أو معارضة خوفاً من أن تتضرر هذه المصالح. وعندما تغلغل الأتراك والفرس في المجتمع العباسي اضطربت الأمور، وكان الخلفاء يتآمرون بعضهم على البعض؛ فمثلاً أحد الخلفاء مات مسموماً بعد أن دست الجارية في طعامه السم لقاء رشوة معينة. وقد أمر الأتراك أحد الخلفاء بالوقوف حافياً على الرمل في سامراء في شهر تموز الذي تبلغ درجة حرارته 50 درجة مئوية فمات في الحال.
وكان الخليفة العباسي لا يسمح لأحد بانتقاد سياسته وأسلوب الترف والبذخ المفرط ورغم أن رقعة الخلافة كانت واسعة، وأغلب الأموال كانت تتدفق على بيت المال والمجتمع البغدادي، إلاّ أن الثروة لم توزع بصورة عادلة؛ فرغم هذا الثراء كانت بغداد حينذاك تعج بالمتسولين والمشردين واللصوص، حتى أن اللصوص كانوا يدفعون لرئيس الشرطة في بغداد الرشوة لقاء السماح لهم بالسرقة من منطقة معينة. وأضحت حياة الناس مهددة بصورة متواصلة حيث كان اللصوص يدخلون على الناس في البيوت وبيدهم المشاعل. وقد أدى ذلك إلى مآس عصفت بكثير من الأبرياء فاحتدم مرجل الغضب، وكان الناس يعيشون في رعب وخوف مستمرين. أضف إلى ذلك أن رجال الشرطة السرية كانوا ينتشرون في مقاهي بغداد وحاناتها ومواخيرها، وكانوا يقتادون من يتهجم على الخليفة إلى مدير الشرطة فيعطي أمره بتنفيذ حكم الموت في الضحية ويقتاد الشرطة الشخص إلى ساحة متحف (الكلة خانة).
وكلمة كلة كلمة فارسية تعني رأس وكان يقع على نهر دجلة في مكان أورزدي باك الحالي في شارع الرشيد ببغداد وتوثق يداه من الخلف ويبدأ الجلاد بسلخ جلد الوجه ويصرخ المسكين من الألم والناس حوله يبكون ويطلب من الجلاد أن يرأف به ويجيبه الجلاد باللهجة البغدادية قائلاً: "بعدين آني يسلخوني امبدالك.." ثم يقطع الجلاد رأسه ويعلق في الأذن اليمنى قطعة معدنية يختم فيها اسمه وتاريخ إعدامه ثم يحنط الرأس ويوضع في المتحف المشار إليه، وقد أشار إلى ذلك أيضاً الرحالة العربي ابن بطوطة أثناء زيارته لبغداد.
وقد كان هذا المتحف مصدر رعب وخوف للبغداديين، فكانوا يتحاشون المرور أمامه، وكان هذا المتحف أحد الأجهزة القمعية في العهد العباسي.
وفي القرن الثالث الهجري أيام خلافة المتوكل ابتكر وزيره محمد بن عبد الملك الزيات أداة جديدة للبطش بالناس والتلذذ بتعذيبهم فقد صنع قفصاً يشبه التنور، وكان يقول "الرحمة ضعف"، وعندما كان يمر أحد الناس من أمام داره ويسمعه يردد "ربي رحمتك" يأمر حراسه بالقبض عليه ويقول له لقد جئت في الوقت المناسب، فيأمر حرسه بوضعه في القفص ويطعنه الحراس بحرابهم من جميع فتحات القفص فيصرخ صرخات الموت ويسلم روحه إلى ربه.
وإزاء هذه الأعمال القمعية في إرهاب الناس دب الخوف والرعب في النفوس من جيل لآخر. فكان البغداديون يعلنون بسرعة تأييدهم للخليفة الجديد تحاشياً لشره وتملقاً له، ومن هنا زرعت أولى بذور الانتهازية عند الناس بسبب الخوف وانعدام العدل. وقد انعكس هذا الوضع على الأغاني نصاً ولحناً فأضحى نص الأغنية يتحدث عن آلام الناس لفقد عزيز لهم أو نواح امرأة على زوجها الذي أعدمه الخليفة أو سجن أخ أو زوج لعدة سنوات أو هروبه إلى ديار بعيدة خوفاً من ملاحقة جواسيس الخليفة له.
وكانت الأغاني تعكس أحلام الناس في الحرية والعدل كما تعبر عن الحرمان والبؤس الاجتماعي. كان الفساد قد نخر في جسم الخلافة العباسية وكان آخر الخلفاء، وهو المستعصم بالله، نموذجاً لهذا الفساد والغباء والجشع والعزلة عن الشعب، فعندما هدد هولاكو بغداد جاءه وزراؤه وأخبروه بذلك فقال لهم "لا يهمني ذلك إذا ما ضمن لي هولاكو قصوري وجواهري وأموالي.." ودخل هولاكو بغداد فوجد شعباً سلبياً منفصم الشخصية لأن الشعب المظلوم لا يستطيع الدفاع عن تراب الوطن. وكان البغداديون يعانون من عقدة الخوف والرعب، ووجد هولاكو الخليفة جالساً في غرفة بيت المال وهو يتطلع بشراهة إلى أكياس الذهب فقال له ساخراً لماذا لم تصنع من الأبواب الحديدية الرماح والسيوف لتقاتلني؟ ولماذا لم تقابلني عند الضفة الأخرى لنهر(جيحون) فقد كنت قادراً على دحري؟ وطلب هولاكو من الحرس والجنود أن يسجنوه لمدة ثلاثة أيام بدون طعام، ثم أتاه بصحن مملوء بالذهب وقال له "الآن أدركت بنفسك بأن الذهب لا يؤكل.." وروى ابن الأثير في كتابه البداية والنهاية بأن أحد المغول دخل بيتاً في بغداد فوجد فيه 17 شخصاً وطلب منهم أن يستديروا بوجوههم إلى الجدار ثم ذهب إلى الحجرة التي وضع فيها هؤلاء نساءهم ليختار أجمل امرأة ويعتدي عليها، ونظر أحد هؤلاء الرجال إلى الجندي المغولي فوجده لا يحمل سلاحاً وقال لزملائه إنه بدون سلاح فلماذا لا ننهال عليه ضرباً ونقتله؟ فأجابه زملاؤه: نخاف!
وخلال السيطرة العثمانية على العراق التي استمرت من عام 1534 حتى 1917ميلادية لم يطرأ أي تغيير على الحياة الاجتماعية، بل العكس. فقد زاد هؤلاء الطين بلة، وتفشت الرشوة وعم البلاد الفساد، وطغى الظلم، لأن منصب الوالي ينحصر في استرجاع ما دفعه للسلطان من رشوة ثم إرضاء السلطان بإرسال أكبر مبلغ من الضرائب السنوية. وكان لابد للوالي أن يجمع ثروة كبيرة له ولعائلته تحسباً للمستقبل.
وقد خرج العراقيون من احتلال ليدخلوا في احتلال ليدخلوا في احتلال آخر، وخلال فترة الحكم التركي حاول الفرس احتلال بغداد 7 مرات وكانوا يطوقون بغداد لعدة أشهر حتى أن السكان كانوا يأكلون الحمير والكلاب، ولكن صلابة أهل بغداد كانت قوية وتجلت الوحدة الوطنية حينذاك؛ فقد كان اللصوص والمشردون يقفون مع علماء الدين والجنود في خندق واحد.
وإلى جانب هذه الحملات فإن بغداد تعرضت إلى كثير من الأوبئة مثل اجتياح الكوليرا والطاعون والفيضانات والجفاف. وأثناء انتشار الكوليرا عام 1830 كان يموت من أهالي بغداد ألف شخص كل يوم، ولم تتسع المقابر لدفنهم. وكان الدفانون يرمون بالجثث في نهر دجلة. لقد كانت معاناة أهل العراق متنوعة ومتعددة فمن أوبئة إلى حروب إلى سيطرة أجنبية ثم إلى احتلال فحرمان وبؤس في جميع مظاهر الحياة. وكان الفقراء في العهد العباسي ينامون مع البيض ليفقس ليتمكنوا من تناول اللحم.
ومن هنا نستطيع أن نعرف لماذا بدأت الأغاني تتسم بطابع مميز، فقد ساعدت تراكمات الظلم والقهر وغياب العدل والحرية على إضفاء الحزن على الأغاني حيث كان العراقيون يعبرون عن ذلك في أغانيهم، فالأغنية العراقية تجسيد لمعاناة العراقيين؛ فهي سلوى وعزاء الإنسان. وقد كانت ألحان الأغاني حزينة دائماً وحتى يومنا هذا، ويستدر نص الأغنية مع اللحن الحزين الدموع من عيون الناس وهذه نماذج من بعض الأغاني:
أويلي يابه.. آخ كم آخ أكول..
أوف أوف يا ويلي الدهر خان بيّه يا أبو ناصر..
على الراح أبكي على الراح.. للحمزة رايح يا بويه للحمزة رايح..
لذبح ذبايح يا بويه لذبح ذبائح..
وتتحدث بعض الأغاني عن معاناة المرأة في العمارة في جنوب العراق في الثلاثينات فتقول:
ساعه وكسر المجرشة وانعل أبو راعيها..
ذبيت روحي على الجرش ثاري الجرش ياذيها..
هم هاي دنيا وتنقضي وحساب أكو تاليها..
ثم تقول إحدى الأغاني:
أويلي معلم على الصكعات قلبي..
أي أن قلبي تعلم على ضربات القدر.
وجميع المقامات والعبوديات وأغاني الدشت والمربع القديمة يطغى عليها اللحن الحزين وتبدأ ب "أوف يابه يا ويلي." أو "كم آخ أقول وكم أُوف أشهق".
وتقول إحدى الأغاني:
آخ يا أبو ناصر..
أي جئت اطلب نخوتك.
وتعبر الأغنية العراقية عن مقت الناس للحياة، وتقول إحدى الأغاني التي يستدر لحنها البكاء:
يومه يا يومه جبتيني للضيم..
أي لماذا ولدتيني يا أمي؟ فحياتي كلها حزن.
وآخر أغنية قبل سنوات تغنيها المطربة العراقية نادية عبد الوهاب، التي غيرت اسمها إلى أنوار عبد الوهاب، تقول:
عد وآني أعد وياك..
ياهو أكثر هموم من عمري سبع سنين وقليبي مهموم..
ويجد الإنسان العراقي في هذه الأغاني والألحان الحزينة وسيلة للتنفيس عن مكنون صدره ولواعج قلبه، وكواظم نفسه، وكوابت عواطفه. ويشعر العراقي أثناء سماعه لهذه الأغاني بالراحة النفسية، فالأغنية العراقية الحزينة تنقذ الإنسان العراقي من التمزق النفسي، لأنه يحمل في نفسه عبر أجيال عديدة ترسبات عهود القهر والكبت والظلم والبطش والقمع واختفاء العدل وغياب الحرية، فالإنسان العراقي يحلم من خلال سماعه لهذه الأغاني بالحرية وينفس من خلالها عن كبته العاطفي والاجتماعي، فهو يشعر بالارتياح النفسي، فهي خير علاج نفسي للعراقيين؛ ولذلك يستحيل أن تنجح أغنية في العراق يطغى عليها اللحن المفرح، فالألحان والأنغام الحزينة من خصائص الأغنية العراقية لأن تاريخ العراق مليء بالآلام والأحزان والقهر الاجتماعي.
وأغلب الظن أن التحولات الاجتماعية التي ستطرأ على المجتمع العراقي في المستقبل ستكون كفيلة بإحداث تغيير في نصوص وألحان الأغاني العراقية، وهذا منوط بالتطور السياسي والاقتصادي. وقد عمقت الحرب العراقية- الإيرانية جراح العراقيين وسيظل الناس يبكون موتاهم لسنين طويلة.
ومهما يكن من أمر فإن الطابع الحزين والمأساوي للأغنية العراقية سيظل هو المميز للأغنية العراقية، فالإنسان العراقي يطهر من خلالها عواطفه المكبوتة لأنها الوسيلة الوحيدة لذلك، وقد كانت أمهاتنا في العراق يشتركن في المأتم على أرواح الموتى، الذي يطلق عليه "عزه"، ولا زال هذا التقليد سارياً. وبدون معرفة مسبقة مع أهل المتوفى تدخل المرأة العراقية البيت فتبكي مع الباكيات، وتلطم مع اللاطمات، وهي بذلك تبكي مصيرها وموتاها، وتعبر عن همومها، وتنفس عن كبتها، فنراها ترتاح لذلك لفترة قصيرة كما يحدث مع المشاهدين للمسرحيات المأساوية (التراجيديا).
فهل يا ترى يستطيع الملحن العراقي اليوم أن يتحدى الذوق العام ويلحن للجمهور أنغاماً تطغي عليها البهجة والتفاؤل والأمل والفرح؟)) وهل يستطيع الشاعر والملحن الفلسطيني ان يعلن العصيان على الذوق العام؟...
*****
إذا كان الأمر لا يتصور فإننا وكشعوب مستعبده ومحتلة ومقهورة يجب أن تكون لغتنا هي الأخرى تحت الاحتلال والاستعباد،وبالتالي لا يجوز "ولا يمكن أن تكون المفردات راقصات باليه" حين يكون الوطن مذبوحاً من الوريد إلى الوريد،وتكون أشجار هذا الوطن مجبرة أن تقدم بياناً يومياً بعدد أوراقها.. وعدد أغصانها.. إلى الحاكم العسكري الإسرائيلي.....
"كل عام وأنتم....."
إنها أشبه بدعوة مني لرقصة باليه ولا يمكنني أن أرتكب مثل هذه الحماقة اللغوية ولو تجاوزا حين لا أنا بخير، ولا أنت بخير، ولا الأشجار والعصافير والورود بخير.
من منكم يقبل أن تكون له مرادفات لغوية ولغة وأدبيات وذوقيات منفصلة عن واقعه ومنفصلة عن لحم الأرض،فلكل لكلام جنسية،ومن المستحيل عليّ أن أتصور لغة لا تبكي.. ولا تحزن،ولا تدافع عن نفسها بشكل من الأشكال اذا كان الجو العام المحيط بها مبكيا ؟.
ولأنه من المستحيل عليّ أن أتصور لغة تفقد ذاكرتها الوطنية فإن أسوأ ما يمكن أن نمر به من انحطاط خطابي وسلوكي أن نقبل بانفصال لغة القرآن عن نفسها لتصبح لغة سوقية مبتذلة وحرفة من الحرف تفقدها حواسها الخمس وتفقدها القدرة على الفعل والانفعال..
إنني كإنسان واقع تحت الاحتلال مع اللغة والخطاب الذي يحتفظ بقدرته على الصراخ والمشاكسة والصخب والمعارضة،ولغتنا ولهجة خطابنا في هذه المرحلة الساخنة من حياتنا يجب أن تكون متوترة وعصبية وغاضبة جداً جداً ومتحفزة كنمر..
واحتلال إسرائيل وأمريكا لأرضنا يجب أن يكون حافزاً لنا لتكوين لغة ثورية جديدة تكون بحجم ما نألم وبحجم العدوان الواقع علينا.. لغة مقاتلة تكتسب مفرداتها من الصدام اليومي،لغة تكون طوال ساعات النهار والليل في أقصى حالات الاستنفار والتأهب.... لغة تحمل بارودتها على كتفها.. وتقوم بنوبات حراسة على طول شواطئ هذا الوطن..وعلى رؤوس جباله...
منذ احتلت فلسطين والعراق وغير العرب جلودهم حين سكنهم الجن الأمريكي والأوروبي فصاروا طوعا له وعبيدا لم يعد في حياتنا الشخصية، او مرادفاتنا اللغوية وقت للتبرج وتكحيل العيون، ووضع الزعفران على الجباه، وتركيب رموش اصطناعية للألسنة....
ما كل عام وانتم بِ همّ...
ما كل عام وانتم وانتم بكرب..
هذه هي بطاقة التهنئة التي نرفعها للعرب والمسلمين في مناسباتنا ،وكل عام وغزة وبغداد وكابول وهي مرابطة...
كل عام وانتم في حلوق العدا رابضون كالصبار ...كقطع الزجاج... هذه هي بطاقة التهنئة الحقيقية التي نعلقها على صدور منكوبي العصر في غياب الوحدة العربية ....
والى امة المليارد ونصف نقول: موعدنا وإياكم مع بطاقة تهنئه لائقة ومستحقة سيكون ساعة تحصلوا على عضوية (مجتمع القلب الواحد).
*رئيس الدائرة ألإعلاميه في الحركة الإسلامية القطرية
الداخل الفلسطيني رئيس الحركة الإسلامية في أم الفحم والضواحي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.