عاجل/ صراع جديد بين المنظمة الشغيلة ومنظمة الأعراف    عاجل/ العاصمة: ضبط اكثر من 18 الف قرص "ليريكا" في نزل شعبي وايقاف اجنبي    القصرين: تسجيل 331 مخالفة اقتصادية وحجز أكثر من 45 طنا من الخضر والغلال خلال شهر أكتوبر المنقضي    الإيطالي مانشيني مدربا للسد القطري    عاجل/ تأجيل القضية الاستعجالية ضد المجمع الكيميائي بقابس الى هذا الموعد    القيروان: إيواء تلميذتين بقسم الإنعاش بعد تناولهما داخل المعهد مبيدا للفئران    حمدي حشّاد: تونس تحت موجة حر متأخرة    عاجل: للتوانسة... ديوان الافتاء يحدد مقدار زكاة الزيتون والتمر لسنة 1447 ه    عاجل/ تحديد قيمة زكاة الزيتون والتمر    ارتفاع حصيلة شهداء العدوان الصهيوني على غزة..#خبر_عاجل    عاجل/ اتحاد الفلاحة يحذّر التونسيين من استهلاك هذه المادة..    مفتي الجمهورية يعلن عن مقدار زكاة الزيتون والتمر وسائر الثمار    زغوان: تخصيص اعتماد بقيمة 17 مليون دينار لتهذيب 3 محطات لمعالجة المياه المستعملة وتجديد تجهيزاتها    اتّحاد الفلاحة يطالب بتخفيض أسعار الأجبان لحماية صحة المواطن    المنتخب الوطني للأصاغر والأواسط للتايكواندو يتحوّل الى الدوحة    تونس تشارك في بطولة العالم للشبان لكرة الطاولة برومانيا    قبلي: المجمع المهني المشترك للتمور يضع مخازن تبريده على ذمة الراغبين في تخزين محاصيلهم    9% من التوانسة مصابين بأمراض الكلى    أزمة صحية عالمية.. انفجار في معدلات ارتفاع ضغط الدم بين الأطفال    منهم إيوان والأخرس وهالة صدقي.. ألمع النجوم المرشحين لنيل جائزة نجوم تونس    ميزانية أملاك الدولة 2026 ترتفع إلى 94 مليون دينار.. أين ستذهب الأموال؟    عاجل/ السجن لموظف بقباضة استولى على 20 ألف دينار..وهذه التفاصيل..    وزارة السياحة تحذر المعتمرين من التعامل مع مكاتب أو أفراد غير مرخصين لتنظيم العمرة    غوغل تحذر مستخدمي أندرويد من تطبيقات VPN مزيفة تهدد بياناتهم المالية والشخصية    انطلاق مناقشة مشروع ميزانية مهمّة أملاك الدولة والشؤون العقارية لسنة 2026    الأطباء الشبان يعلنون إضرابًا وطنيًا بيوم واحد في كليات الطب والمؤسسات الصحية يوم 19 نوفمبر    جريمة مروعة: مقتل عروس على يد زوجها بعد 25 يوما فقط من زفافها..!    تونس: قافلة في المدارس باش تعلّم صغارنا كيفاش يستهلكوا بعقل    كأس أوروبا 2028: الافتتاح في كارديف والنهائي في ويمبلي    تونس تتألّق في الكراتي: إسراء بالطيب ذهبية ووفاء محجوب فضية    عاجل/ انقلاب قارب "حرقة".. وهذه حصيلة الضحايا..    التاكسي الطائر يبدأ التجارب في سماء الإمارات!    العجز التجاري لتونس يبلغ 18,4 مليار دينار مع موفى أكتوبر 2025    الإتحاد المنستيري: المدير الفني للشبان ينسحب من مهامه    وزير الفلاحة يؤكّد الالتزام بمزيد دعم قطاع الغابات وإرساء منظومة حماية متكاملة    اغتيال مهندس نووي مصري ب13 طلقة وسط الشارع في الإسكندرية    انتقال رئاسة النجم الساحلي الى فؤاد قاسم بعد استقالة زبير بية    هام/ ترويج وتمويل صادرات زيت الزيتون والتمور محور اجتماع تحت إشراف وزير التجارة..    طقس اليوم: ضباب محلي والحرارة بين 21 و27 درجة    بعد أكثر من 200 عام..أمريكا تتوقف عن إصدار العملة المعدنية من فئة السنت    لافروف: أوروبا تتأهب لحرب كبرى ضد روسيا    سوسة: طفل العاشرة يحيل شيخ إلى غرفة الإنعاش    تصالح أيمن دحمان مع الحكم فرج عبد اللاوي قبل مباراة تونس وموريتانيا    ترامب يوقّع قانونا ينهي أطول إغلاق حكومي في تاريخ أمريكا    عاجل: ألعاب التضامن الإسلامي بالرياض: وفاء محجوب تهدي تونس ميدالية فضية في الكاراتي    توقيع برنامج تعاون ثنائي بين وزارة الشؤون الثقافية ووزارة الثقافة الرومانية    في ذكرى وفاة عبد القادر بن الحاج عامر الخبو    في بيت الرواية بمدينة الثقافة .. .جلسة أدبية حول «تعالق الشعر بالسرد»    المهدية: مواد خطيرة وحملة وطنية لمنع استعمالها: طلاء الأظافر الاصطناعية و«الكيراتين» مسرطنة    الليلة: سحب قليلة والحرارة بين 10 درجات و15 درجة    سليانة: انطلاق مهرجان "نظرة ما" في دورتها الثانية    تعاون ثقافي جديد بين المملكة المتحدة وتونس في شنني    "ضعي روحك على يدك وامشي" فيلم وثائقي للمخرجة زبيدة فارسي يفتتح الدورة العاشرة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس    ليوما الفجر.. قمر التربيع الأخير ضوي السما!...شوفوا حكايتوا    معهد باستور بتونس العاصمة ينظم يوما علميا تحسيسيا حول مرض السكري يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025    اسباب ''الشرقة'' المتكررة..حاجات ماكش باش تتوقعها    تقديرا لإسهاماته في تطوير البحث العلمي العربي : تكريم المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي في الإمارات بحضور كوكبة من أهل الفكر والثقافة    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسيرة التّعريب في تونس
وجهة نظر
نشر في الشعب يوم 08 - 10 - 2011

والتّعريب هنا هو اعتماد اللغة العربيّة في التّدريس منذ الاستقلال، فقد كان خلال فترة الحماية يعتمد اللغة الفرنسيّة في كل مجالاته. وكان النجاح في المدرسة وفي العمل يتمّ حسب حذق اللغة الأجنبية، ولم يكن هذا مقتصرًا على فترة الحماية، بل امتد إلى فترة ما بعد الاستقلال.
أطرح موضوع اللغة محاولاً إبراز اثرها وتأثيرها في الساحة الثقافية. ولئن كانت الساحة الثقافية هي وليدة المنظومة التّربوية، فإنّ المؤسسة التعليمية (بكل مستوياتها) تعتمد كليّا على المنظومة اللغوية، فهي أداتها، واللغة هي الوصل وهي الفصل بين المصدر والمتلقي. فما هي نسبة امتلاك المُربّي والتلميذ والمثقف من لغة المنشإ (لغة محيطه) وماهي اللغة الغالبة (إن لم تكن اللغة المُهيمنة) وهل تكفي للقراءة والكتابة، فكم يقرأ وماهي سرعة القراءة، وإن كتب، فكم يكتب وبأي أسلوب [عندما يصدر عن ألف تونسي كتاب (عُنوان) فإنّ ألف أوروبي يصدرون 30 عنوانا، فالنّسبة هي 1 / 30].
يكمن تقدير نسبة مخزون المواطن التونسي من اللغات تتراوح ما بين 40 و50 بالمائة لإحدى اللغتين العربية والفرنسية و10 بالمائة للإنڤليزية وهي نسب لا تخلق الشعور بحاجة القراءة والكتابة. ذاك هو حصاد المنظومة اللغوية بعد الاستقلال رغم الضخّ المادّي غير المتكافئ لتغليب اللغة الفرنسية بإعطائها الدّور القيادي وتخصيصها لتدريس العلوم والطب والتكنولوجيا.
إصلاح 1958، إصلاح الاستقلال:
كانت المنظومة التعليمية، في فترة الحماية، تتكوّن من تعليم مدرسي وتعليم زيتوني.
يزاول التلميذ في التعليم المدرسي جُلّ المواد باللغة الفرنسية وينتهي التعليم الابتدائي بمناظرة الدخول للتعليم الثانوي، وبعد اجتياز شهادة الباكالوريا بجزئيها الأول والثاني، يلتحق بالجامعات الفرنسية لإنهاء التعليم العالي.
أمّا التعليم الزيتوني فهو يعتمد اللغة العربية بالأساس في تدريس العلوم والرّياضيات، مع ميْل إلى الدّرس الديني، ينتسب إليه التلميذ الذي زاول تعليمه في مدارس أهلية في مدارس أهلية أو الذي حفظ القرآن في الكتاتيب. وقد أنقذ كثيرا من التلاميذ الذين لم ينجحوا في مناظرة التعليم المدرسي. يُتابع الدراسة فيه لمدّة ثلاث سنوات وبعد اجتياز شهادة الأهلية (مثل شهادة التاسعة) يواصل المرحلة الثانوية، وبعد النجاح في شهادة التّحصيل بجزئيه الأول والثاني يلتحق بالجامعات. وكانت الدولة التونسية ترسل الطلاب بمنح دراسية إلى الجامعات العربية. مثلما كانت تعطي منحا للطلاب الذين يقصدون الجامعات الأوروبية.
هذا ولابد من الإشارة للدور الوطني للتعليم الزيتوني فقد انتشرت فروعه (مستوى المدرسة الاعدادية) في المناطق النائية مثل مدنين وتطاوين وربما توزر. وإذ نعرف أنّ المواطنين كانوا يتعاونون لبناء المدارس الابتدائية وحفر الآبار فإنّ القليل من تلامذة الحي الزيتوني بصفاقس يعرفون أن معهدهم بناه الأهالي، وقد يكون المعهد الثانوي الوحيد، وكان عند الاستقلال أحد المعاهد الثانوية الثلاث بالمدينة. ولا ننسى أنّ التعليم الزيتوني لعب دورا فاعلا في الحركة الوطنية من خلال نضالات طلبته في منظمتهم صوت الطالب. وحسب رأيي فإنّ إصلاح 1958 لم يلغ محتوى برامج التعليم الزيتوني، إنّما قسّمها حسب المرحلة العمرية للتلميذ. ففي المدرسة الابتدائية والثانوية يتلقى الثقافة العقدية ضمن برنامج التربية الدينية والمدنية، وفي برنامج الفلسفة، ويدرس التاريخ الاسلامي في برنامج التاريخ. ومن أراد التعمق في التعليم الديني يلتحق بمدرسة الوعظ والإرشاد التي استحدثت لتكوين الاطارات الدينية. كما أُنْشِئتْ كلية الشريعة وأصول الدين التي أصبحت جامعة الزيتونة.
وللحديث على أوّل إصلاح تربوي لابد من الاشارة لمكانة اللغة في الهويّة، فمن المهام الأولى للحركة الوطنية بعد تونس الأمن والدّفاع هو وضع برنامج تعليمي للدولة المستقلة. تطلّب وضع برنامج الاصلاح أكثر من سنة وبدأ العمل به في أكتوبر 1958.
وكان على المبرمجين إيجاد أساتذة المواد العلمية بالعربية، وكانت معظم الدول العربية في حاجة إلى الأساتذة، فهي امّا استقلّت حديثا أو مازالت تحت الاحتلال.
استبدل نظام التعليم في مرحلة الحماية بنظام تعليم موحّد، وينقسم لغويا إلى شعبتين: الشعبة (أ)، وهي الشعبة القارّة، تدرّس المواد العلميّة والفلسفة والتاريخ والجغرافيا باللغة العربية، والثانية هي الشعبة (ب)، وهي الشعبة المتحوّلة، تدرّس كل المواد باللغة الفرنسية. وكانت الحاجة إلى متعاقدين أجانب من فرنسا وسويسرا وبلجيكا هي سبب عدم تعميم الشعبة المعرّبة والتي أراد المبرمجون لها أن تنمو، وتعوّض بالتّدريج المتعاقدين الأجانب، ثمّ الاستغناء عن الشعبة المتحوّلة (ب) (القارّة والمتحوّلة هي تسميات من الأصل).
تمّ توزيع التلاميذ الناجحين في مناظرة انتهاء التعليم الابتدائي حسب الأعداد في تلك المناظرة، فالذي كان مجموعه في مواد العربية وٌجّه الى اشلعبة (أ) والآخر الى الشعبة (ب) من التعليم العام. وتمّ وضع الشعب في معاهد منفصلة، وكان التقسيم هو ما بين 4 أو 5 معاهد للشعبة القارة (أ) من بين 12 أو 15 معهدا في كامل الجمهورية آنذاك بما فيها المعاهد التقنية، أي قرابة الثلث بحساب المعاهد. وكان أول درس في الشعبة (أ)، هو محاضرة في التعريب من قِبَلِ المدير أو الناظر، ومنهم من واكب الحركة الوطنية. أمّا قرار التوجيه فهو صارم ولم يُسمح لأي تلميذ إبدال الشعبة رغم كل التدخلات (كان في معهد صفاقس أطفال 12 سنة جاؤوا من جربة وتوزر وسيدي بوزيد وأرياف صفاقس وتطاوين أي في دائرة شعاعها 300 كم).
كان إصلاح 1958 مُجدّدا في الهيكلة والمحتوى، ومن مظاهر التجديد نذكر:
1) إدخال اللغة الانقليزية كلغة أجنبية ثانية لتدرّس لمدّة 5 سنوات. (لم تكن موجودة في التعليم الزيتوني، وتدرّس لبعض سنوات في التعليم المدرسي).
2) فتح معابر في نهاية السنة الأولى ثانوي آنذاك (السابعة) يتوجّه التلميذ، ان شاء، للمسالك الأخرى: اقتصاد، تقنية، تعليم عام (أ وب).
3) تتمّ عملية توجيه ثانية في نهاية السنة الثالثة آنذاك (التاسعة) للتخصّص حسب مؤهله (خمسة اختصاصات في التعليم العام) لمدّة ثلاث سنوات تنتهي بباكالوريا في الاختصاص، بجزئيها الأول (الاختباري) والثاني، أحد الاختصاصات ينتهي بدبلوم المعلمين. وقد أولى اهتمامًا باللغة الأجنبية فكانت احدى شعب الآداب تسمّى شعبة الآداب العصرية لمن يريد دراسة اللغة الأجنبية. وهناك أيضا فرع الاقتصاد والتعليم التقني في معاهد منفصلة ينتهي بباكالوريا تقنية. فيما كان التخصّص في كل من النظام الزيتوني والمدرسي لمدّة سنة واحدة، ففي السنة الأخيرة هناك التحصيل العلمي والتحصيل في التعليم الزيتوني، أمّا في التعليم المدرسي فهناك الباكالوريا رياضيات، علوم، واداب. وللذكر فإنّ نسبة النجاح في الباكالوريا في الخمسينات كانت تقارب العشرة في المائة في تونس وفي بعض الدول الأوروبية.
4) أمّا البارز في إصلاح الاستقلال فهو إعطاء اللغة العربية الدّور المفقود طيلة فترة الحماية.
لم يدم ذلك الدّور طويلا، فقد تمّ بداية من أكتوبر 1964 الحذف التّدريجي للشعبة القارّة (أ) وبقرار عجيب. فنسبة النجاح فيها هي النسبة المتداولة، وقد تكون فاقت عدّة معاهد (للباحثين في مجال تاريخ التربية العودة لنتائج الباكالوريا من 1965 إلى 1970).
وكانت القرارات في تلك الفترة تتخذ في دوائر ضيّقة فهل هو نتيجة لنزوة فكرية؟ (لم تندثر رواسب الفكر الإقطاعي)، وهل لذلك القرار علاقة بأحداث شهدتها المنطقة؟ فكانت معركة بنزرت، ثمّ محاولة انقلابية، والجزائر تستقل وتبدأ في تعريب التعليم، وكان قد زارنا رمز ثورتها ورئيسها أحمد بن بلّة ليحتفل معنا صحبة الرئيس جمال عبد الناصر بأوّل عيد للجلاء ببنزرت في أكتوبر 1963.
هذا وقد تضرّر آلاف التلاميذ، وربّما عشرات الآلاف، وفيهم من اضطر إلى الاغتراب ولم يعد الاّ بعد إتمام دراسته، كما أنّ لتوقيف برنامج التعريب اثر واضح في الفقر الثقافي الذي نعيشه، فماذا نفعل بنصف لغة؟ لا نقرأ ولا نكتب. والذي يكتب هو إمّا أستاذ لغة أو أحد المختصّين يكتب في اختصاصه، باللغة التي اكتسبها.
إصلاح 1989
لابدّ من الوقوف عند منتصف السبعينات، حيث تمّ تعريب الفلسفة والتاريخ والجغرافيا. وهناك انتصار للقرار التربوي (البيداغوجي)، فالأستاذ والمربي بصفة عامة ومن خلال دروسه اليومية ونصوص التلاميذ وأجوبة الامتحانات يعرف آثار الازدواجية اللغوية المقيتة المعتمدة في المنظومة اللغوية. فأستاذ الاختصاص يعرف أنّ نسبة كبيرة من درس اختصاصه تذهب إلى تعليم اللغة الأجنبية، ويعرف انّ ذلك مرهق للمربي وللتلميذ وهو أحد أسباب الإنهاك عند خرّيجي الجامعة في بلادنا. وكان هذا القرار قد أسعد طلبة التاريخ والجغرافيا، فاللغة هي التاريخ والجغرافيا، فمن أسماء المدينة والريف: سباط المدينة، الرّنقة، المسكوكة، العيثة والأرض القرار والرّتبة، وغيرها من كلمات العامّة موجودة في معجم لسان العرب. انبهرنا باللغة الأجنبية، فتركنا لغتنا، وتجاهلناها الى حدّ الجهل. (لأخذ فكرة أوّلية صرّف فعلا بلغتك ثمّ صرّفه بلغة أجنبيّة، وقارن بين المعلومات، نُطقا ورسما، ولاحظ الدقّة).
بداية من أكتوبر 1989 تمّ اعتماد نظامٍ لغويّ جديد في المدرسة الابتدائية وفي المدرسة الاعدادية وذلك بتدريس المواد العلمية باللغة العربية وهو ما يُعرف بالتعليم الأساسي. وأعتقد أنّ هذا كان استجابة لمطالب المربّين الذين مالبثوا يطالبون بتعريب المنظومة التعليمية. والتعريب هو قرار تربوي، وهو قرار وطني بالدرجة الأولى.
وأذكر أنّه في سنة 1991 نزل أوّل قرار في تاريخ الجامعة التونسية، يتوجّه إلى الكليات العلمية والمعاهد العالية للتقنية والتكنولوجيا، لتدريس مادة علمية باللغة العربية، نعم بالعربية، (انتبهت واستبشرتُ مثلما انتبه واستبشر المواطنون بالثورة) وذلك لتأهيل طلبة الأستاذية لتدريس اختصاصهم في المدرسة الإعدادية. وتعيّنت لجان من أساتذة الجامعة في خمسة اختصاصات علمية وتقنية وأعدّت مسارد ثنائية للمصطلحات ووزّعت على المؤسسات الجامعية. وتمّ تدريس منهجيّة تعريب الدراسة لطلبة الأستاذية في الاختصاصات العلمية.
وكان تعريب المدرسة الأساسية كسبًا للتعليم، فارتفاع نسبة النجاح هي دليل على نجاحه. وكانت نقلة نوعية في التعليم نلمسه من خلال ارتفاع معدّلات الباكالوريا ونسب النّجاح فيها (من 10 في المائة في الخمسينات الى أكثر من 50 في المائة في السنوات الأخيرة). كما أنّ عدد الطلبة المشجّع هو من نتائج التعليم الأساسي المعرّب الذي تضافر مع عوامل أخرى ساعدت في ذلك نذكر منها التحسّن المادّي للأسرة. فالأمّ تعلّمت، والمعهد اقترب من الرّيف والجامعة انتقلت الى بعض الجهات. وجب ذكر ذلك حتى لا نكون من الجاحدين، كما أنّ النسبة العالية للطالبات هي بلا شك انتصار للمرأة مقارنة ببعض الدول الشقيقة، لكن عدد الطالبات المرتفع لا نجده (حسب معطيات سنة 2004 في موسوعة رقمية) في دول أوروبية متقدّمة، بل في دول في متأخرة أوروبا مثل البرتغال أمّا تفسير ذلك فنجده في الطابع الأسري المحافظ، حيث تلقى الفتاة العناية والتأطير. وأذكر انّ النسبة عندنا فاقت نسبة البرتغال، فربّما حُلم الهجرة والشعور بمسؤولية تكوين الأسرة هي من أسباب الانقطاع المدرسي عند الذكور.
غير أنّ برنامج تعريب العلوم توقف عند نهاية التعليم الأساسي، وازدادت ساعات تدريس اللغة الأجنبية مثل تدريس أكثر من 3 ساعات فرنسية لتلاميذ الباكالوريا علوم ورياضيات (مستوى برنامج اللغة الفرنسية لم يتعلّم مثله باللغة العربية) وهذا يأخذ من زمن مواد الاختصاص. فللمقارنة في هذا المجال مع إصلاح الاستقلال: فكان تلميذ الباكالوريا يدرس 18 ساعة بين رياضيات وفيزياء، واللغة الأجنبية الوحيدة هي اللغة الأنڤليزية ولمدّة ساعتين، ويُمتحن فيها شفاهيا بعد نجاحه في المواد العلمية. وهو نفس التوقيت الذي خصّصته بعض الدّول المتقدمة كلغة أجنبية وحيدة. ولم يحل مشكل اللغة في المرحلة الثانوية والعالية وربّما زاد الاكتظاظ اللغوي للتعويض عمّا فات (كأنّها خطيئة). ففي المرحلة الثانوية تتواجد اللغة الأجنبية بنسبة 90 في المائة أمّا في التعليم الجامعي العلمي والتقني والطبي فإنّ النسبة هي مائة في المائة بما فيها بعض المواد المكمّلة التي تدرس في المعاهد العالية التقنية.
كيف نُعرّب؟
لنُذكّر بأن موضوع هذا المقال هو تناول المنظومة اللغويّة، أداة التّواصل التربوية وهي مُتفتّحة ومُواكبة للتّطور، خاصة أنّنا منذ نصف قرن نعيش ثورة تربوية (بيداغوجيّة). فقد اعتمد كثير من المعاهد العالية، ومنذ السبعينات، طريقة التّكوين المستمر وطريقة الدّروس المندمجة، وازداد التّأطير وتحسّنت الإنتاجية، كما أنّها متفتّحة على التطور التقني والتكنولوجي بفضل استقطابها للكفاءات المتجدّدة. هذا وإنّ تعميم اللغة العربية، لغة المنشإ للأغلبية العاملة، أساتذة، طلبة، مهندسون، فنّيون وعملة، سوف يزيد الكفاءة ويثّبت الجذور، فكيف نعرّب يا تُرى.
1) يتمّ مواصلة تعريب التعليم الأساسي لينتقل الى المرحلة الثانوية ثم إلى التعليم العالي. مع اعتماد المواصفات العالمية لعدد ساعات الدرس وسنوات التدريس، ونسبة اللغة الأجنبيّة المُخصّصة في كل المراحل (تُماثل الدّول المتقدّمة).
2) عند أوّل توجيه ومن الأفضل أن يكون بعد التاسعة، يتمّ إحداث شعبة آداب مُوجّهة للتّخصّص في اللغات الأجنبية، والترجمة والصحافة. وقد كانت هذه الشعبة في أوّل إصلاح (آداب عصرية) وأثبتت جدواها، فمعظم أساتذة اللغات الأجنبية في الثانوي والعالي تكوّنوا فيها.
3) يُحذف تنفيل أعداد اللّغات الأجنبية في الباكالوريا، فهو يرجّح الميسورين في الترتيب العام، والاستفادة من الإطار لتدريس شعب أخرى.
4) الالتماس من أساتذة التعليم العالي بتعريب دروسهم، (تعرّبت الفلسفة رغم مصطلحاتها المُعقّدة، ومُتوسّط عدد المصطلحات في الصّفحة العلمية الواحدة لا يتجاوز العشرة والكثير منه صار مُتداولا وتعلمه التلاميذ في المدرسة الإعدادية)، فالمسارد التي أعدّتها اللجان موجودة في الأقسام، موزّعة في كليات الجمهورية. كما أنّ الدروس هي دروس معتادة ومتداولة في كل جامعات العالم، ومعظم الكتب العلميّة العالمية مترجمة إلى العربية، وحتّى الفروع العلمية الدّقيقة تعتمد على مصطلحات العلوم الأصلية التي تفرّعت عنها، فالإطار متونس منذ أكثر من ثلاثين سنة، والكثير منهم من درّس تلك العلوم في إطار التعاقد مع جامعات عربية، والمعاجم الثنائية والثلاثية متوفرة. ومن لم يتعلم البتّة اللغة العربية (لا يزيد على الواحد بالألف) يمكن له أن يتخصّص في البحث العلمي وتأطير الطلبة.
5) إنّ برامج التعليم الطبّي المعتمدة في كليات الطب هي برامج مضبوطة ومُحدّدة، الالتماس، ترجمة تلك الدروس (تعريبها)، من قِبَلِ أساتذتها أو من مجموعات ثنائية أو لجان من المتطوعين، وتُعتمد في التعليم الطبّي المُعرّب (إنّ الفهم والاستيعاب يكون أعمق بلغة المنشإ كما أنّ الحفظ والتذكر هو أسهل، والذي تميّز في مادّة باللغة الأجنبية يكون أكثر تميّزا إن تعلمها بلغته)، وفي هذا الإطار، يمكن أن أدلّكم على المعجم الطبّي الموحّد ثلاثي اللغة، ويُعتبر مع المعجم العسكري الموحّد (فرنسي عربي) من أهم معاجم المصطلحات التي أصدرتها الجامعة العربية.
وبنفس الطريقة تُعرّب دروس الطب البيطري ومدارس الهندسة الزراعية ولابد أن تحتوي مكتباتهم على معجم مصطفى الشهابي (فرنسي عربي) الذي تربّع، منذ سبعين سنة على المعاجم الزراعية مثل تربّع أبو القاسم الشابي على الشّعر في بلادنا.
وهنا يتمّ الضغط على التكاليف الباهظة (دون جدوى) لتعليم اللغات الأجنبية، مع فتح الامكانيات لمن يريد التّعمق في تعلّم اللغات كأن تقع تسهيلات في التسجيل في مؤسسات متخصّصة أو ما شابه ذلك. مع العلم أنّه توجد على صفحات الواب مواقع مجانية للرّسكلة والتعمق في اللغات. وللعلم انّ دراسة الانقليزية لمدّة 5 سنوات في إصلاح الاستقلال تُمكّن من قراءة المجلات المحكمّة والمشاركة في المؤتمرات العلمية.
خلاصة
منافع تعريب المنظومة التربوية:
1) التّأصيل والارتباط بالأرض والواقع.
2) نقل الانقطاع لأنّ المواد العلميّة ذات الضارب المرتفع كالرّياضيات والفيزياء وتدرّس باللغة الأجنبية هي المحدّدة في النّجاح والفشل. كما أنّ تدريسها بلغة المنشإ يحمي أبناء الفقراء ومتوسطي الحال وأبناء الجهات النّائية من التخلف في الدّراسة./ كذلك سوف يُدخل شيئا من العدالة، فالتوجيه لتعلم الطب والصيدلة والهندسة يتمّ حسب المعدلات التي تعتمد على الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية ومن وراذها اللغة الأجنبية أداة تلك المواد. فمن المألوف أن تجد في تلك الكليات نخبة النّخبة من أبناء وبنات النّخبة.
3) أ على المستوى المادي: نربح سنة عمل للجهاز التربوي في المعاهد الثانوية، فيتوفّر عدد كبير من مواطن الشّغل. فعوض أن تدوم الدراسة 7 سنوات تتحوّل إلى 6 سنوات مثل أغلب الدول التي تعتمد لغتها بما فيها الدول المتقدمة. وقد كان التعليم الثانوي في الستّينات وبداية السبعينات يدوم ست سنوات، أُضيفت سنة بسبب اعتماد اللغة الأجنبية.
ب على المستوى المعنوي: تتخرّج الإطارات بنشاط، لأنّها تعلّمت بلغتها ثمّ إنّها اقتصدت جهد سنة، وإنفاق سنة، وتدخل في الدورة الثقافية بأداة للقراءة والكتابة، يبدأ مواطنو الدول المتقدّمة في التأليف منذ سن 24 أو 25 سنة كما أنّ علماء وفلاسفة الدول المتقدمة يقرؤون كتب زملائهم المترجمة إلى لغاتهم. فالتعريب سوف ينشّط حركة الترجمة.
4) فبتعريب العلوم في الثانوي والجامعة يتمّ إدماج قرابة ال 150 ألف مصطلح ضمن الدّورة اللغوية.
وباستحداث أرضيّة ثقافيّة بعد رفع المخزون اللغوي لأغلبيّة المواطنين، فتنمو حاجة القراءة وحاجة الكتابة. وبالتعمّق في معرفة اللغة، نقي المجتمع من الفكر الخرافي، ونرتقي بالنقاش والإبداع.
جاد الفقير بثورة
وأخيرًا فهذه ثورة المهمّشين والفقراء. جاد الفقير بثورة وأيّ ثورة، إنّها ثورة الديمقراطية. بقي دور المثقف والمربّي وأهل القرار. فبإنجاحنا تعريب المنظومة التربوية وإيلاء لغة المنشإ، اللغة العربية، لغة الأغلبية أي لغة الديمقراطية مكانتها، نكون قد ساهمنا في بناء ثورة الديمقراطية والثقافية واستقلال القرار.
تونس في 25 سبتمبر 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.