أخبار باختصار    أخبار المال والأعمال    الاحتفاظ بالمهاجرة غير النظامية كلارا فووي    صفاقس الإحتفاظ بالكاميرونية "كلارا فووي" واحالتها للتحقيق    تونس تشارك في الدورة الأولى من الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي حول التعاون الشامل والنمو والطاقة بالرياض    وزير خارجية المجر يدعو الاتحاد الاوروبي الى عدم التدخل في السياسة الداخلية لتونس    وزارة التجارة تنفي توريد البطاطا    صفقة الهدنة مع «حماس» زلزال في حكومة نتنياهو    عاجل/ جيش الاحتلال يعلن مقتل ضابطين وإصابة آخرين في قطاع غزة    عاجل/ سعيّد: الدولة لن تبقى مكتوفة الأيدي أمام من يحاول المساس بأمنها    مجلس الوزراء يوافق على جملة من مشاريع القوانين والقرارات    دامت 7 ساعات: تفاصيل عملية إخلاء عمارة تأوي قرابة 500 مهاجر غير نظامي    النادي الافريقي: 25 ألف مشجّع في الكلاسيكو ضد النادي الصفاقسي    النجم الساحلي يتعاقد مع خالد بن ساسي خلفا لسيف غزال    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    المجمع الكيميائي التونسي: توقيع مذكرة تفاهم لتصدير 150 ألف طن من الأسمدة إلى السوق البنغالية    الطلبة التونسيون يتحركون نصرة لفلسطين    نائبة بالبرلمان: ''تمّ تحرير العمارة...شكرا للأمن''    الجامعة التونسية المشتركة للسياحة : ضرورة الإهتمام بالسياحة البديلة    تعرّض سائق تاكسي إلى الاعتداء: معطيات جديدة تفنّد روايته    بن عروس : تفكيك وفاق إجرامي مختص في سرقة المواشي    نادي تشلسي الإنجليزي يعلن عن خبر غير سار لمحبيه    السنغال تعتمد العربية لغة رسمية بدل الفرنسية    المجر ترفع في المنح الدراسية لطلبة تونس إلى 250 منحة    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة النادي الإفريقي والنادي الصفاقسي    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    نقطة ساخنة لاستقبال المهاجرين في تونس ؟ : إيطاليا توضح    مدنين : مواطن يحاول الإستيلاء على مبلغ مالي و السبب ؟    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    تونس توقع على اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإمبريالية والنخب الحاكمة والمجتمع المدني أو مثلث الهيمنة في مناخ العولمة
محمد صالح التّومي
نشر في الشعب يوم 09 - 10 - 2010


1 «استعمرونا... من فضلكم»..!
في تصريح للسيد عبد اللّه واد الرئيس السنغالي سخر هذا الاخير من الشعار الوطني المنادي بإفريقيا للأفارقة قائلا:
»إفريقيا للأفارقة هذا مفهوم تجاوزه الزمن. إنه ذريعة للدكتاتورية« (1)
وما دام هذا الرجل يتحدث في خطابه الغريب عن ذرائع الدكتاتورية فإن الامثلة سوف لن تنقصه حتما ولكن ما يجب أن نفهمه هو أن الشعار الوطني ليس هو المسؤول عن الاستبداد لأن التأمل سرعان ما يكشف أن التخلف هو من يساهم فعليا وبقسط وفير في خلق ظاهرة الاستبداد: ذلك أن الجمهورية ولدت فاقدة لمعناها في كثير من البلدان »المتخلفة« الواقعة بإفريقيا أو بغيرها من القارات، سواء كانت تسوسها أنظمة »وطنية« أو أنظمة »لا وطنية«...
فبعد الرئاسة التي تحولت الى إمبراطورية (2) وبعد الرئاسة مدى الحياة المكرسة دستوريا (3) وبعد الرئاسة المزمنة التي تدوم دون أن تعلن رسميا عن دوامها (4) وبعد الوصاية على الشعب ومحاولة قيادته حتى من داخل القبور وذلك بتعيين الخلفاء من ضمن »الأبناء الروحيين« أو قل في الحقيقة من ضمن الحاشية المتملقين، ها إننا نعود مباشرة الى توريث السلطة لأبناء الصلب، بل إن »الشرق القديم« قد ابتدع هنا وفي أكثر من مكان إلى حد الآن، مؤسسة جديدة يمكن تسميتها بالجمهورية الوراثية والتي ليست في الحقيقة سوى »ملك عضوض« يلبس مسوح العصر الذي يرفضه فيغشه بشعاراته كي يتمكن من مواصلة العيش فيه.
وبإسم الوقوف في وجه هذه البدع التي تعكس مواصلة الاستبداد القديم حيايته في شكل متحجرات من الماضي تجوب واقعنا التاريخي الحديث، يرفع السيد عبد اللّه واد صوته مناديا صراحة بضرورة التدخل الدولي في الشؤون الداخلية للبلدان الافريقية مثلا، كلّما تبين حسب اعتقاده أن »الأفارقة لا يستطيعون مواجهة أزمة بمفردهم« (5).
إنه تفكير جديد في بعض جوانبه تبلور حتى لدى جزء من »النخب المعارضة« وهدفه إضفاء مشروعية على التدخل الإمبريالي في شؤون المستعمرات المباشرة السابقة التي تسمى اليوم تلطفا »مناطق نفوذ« وهو تفكير وصل حده الأقصى هذه الأيام مع أحد المعارضين المغاربيين الذي نجده يقول في مقال له منشورا بإحدى صحف »المتربول الباريسي« الصادرة بتاريخ 10 ماي 2000 ما يلي:
»... السيادة الوطنية على أيامنا هذه ليس من الممكن تحديدها نسبة الى اضطهاد سلطة خارجية، لكن نسبة الى اضطهاد سلطة محلية لا تفهم السيادة على أنها حق شعب في تقرير مصيره بل على أنها حقها هي في تقرير مصير شعبها كما يحلو لها« (6) مضيفا:
»وهنا يأتي دور المجموعة الدولية لعزل سلطة خارجة عن نطاق القانون الدولي وللوقوف الى جانب الشعب (...) للحصول على سيادته«.
ومع وصول الخطاب الى هذا الحد تكون قد اكتملت الدائرة ونكون قد سقطنا مباشرة في الفخ المنصوب لنا.
فإمّا »الوطنية« حتى ولو كانت مزعومة مقابل حرماننا من حقوقنا الديمقراطية وإما »الديمقراطية« التي نوعد بفتاتها ولا نحصل عليه، زيادة على ذلك مقابل التخلي عن حقوقنا الوطنية.
فأي خيار تعيس هو هذا الخيار؟ وخاصة إذا عرفنا أن المستفيد في الحالتين ليس سوى العدو الإمبريالي بل إننا لو نظرنا في هذا السياق الى الشعار الوطني مرفوعا من قبل الأنظمة المعروفة بولائها المطلق للإمبريالية والتي كثيرا ما حصلت على الشكر والمديح عبر وسائل الإعلام العالمية بصفتها »تلميذة نجيبة لصندوق النقد الدولي« سرعان ما نفهم أن هذا الفخ المنصوب ليس في الحقيقة سوى الجهاز السياسي المعقد الذي ابتدعته الإمبريالية لمحاولة تحقيق هيمنتها على كافة الشعوب التي تستضعفها.
بل إنه بالتمعن الجيد سرعان ما يتبين أن الخيار التعيس الذي تريد قوى الامبريالية أن تحصرنا فيه هو خيار بين أمرين أحلاهما مر عند النهاية:
أولهما هو خيار التبعية المطلقة للإمبريالية التي تنخرنا عندئذ اقتصاديا وثقافيا وحضاريا بدعوى إصلاح هياكلنا في كافة المجالات مقابل مدنا بالفتات من كل شيء يتساقط على موائدها بما في ذلك فتات الحريات الديمقراطية، وهذا الأخير لا نحصل عليه فعليا عند النهاية حتى بعد أن نهم بالتقاطه، ذلك أن الديمقراطية في غياب التوجه الوطني لا يمكن أن تكون مهما وقع التبجح بها إلا موهومة.
فالطغم الكومبرادورية الحاكمة المكرسة للهيمنة الإمبريالية هي رهينة قوانين موضوعية تجعلها مستبدة بالضرورة: فتقسيم العمل عالميا، والمراجعات الهيكلية المفروضة وما ينتج عن ذلك من نشاط طفيلي بل مافيوزي للنخب الحاكمة بالبلدان المستضعفة هي كلها عناصر تجعل ترسب الثقافة الاقطاعية بمثابة العامل المساهم الذي من شأنه فقط أن يزيد في حدة الاستبداد الناجم في الحقيقة عن تناقض سياسة الولاء للإمبريالية مع مصالح الشعوب.
أما ثاني هذين الخيارين فهو مقاومة تلك التبعية مهما كانت درجة المقاومة ودفع الثمن مناورات تتسلط علينا ومقاطعة وحصارا وعدوانا ما قد يحفز المشاعر الوطنية لكنه كثيرا ما يدفع حكامنا بدعوى إحكام المواجهة مع العدو إلى إلغاء الديمقراطية من الخيارات المطروحة على شعوبنا والحال أن إيجاد الأشكال المناسبة لإشراك الجماهير في تسيير أمورها من شأنه أن يزيد في دعم اللحمة الوطنية.
ولكن ما يجب أن نفهمه أيضا هنا هو أن الإمبريالية قد تضطر حتى في صفوف أتباعها الى التعامل مع الحالات النفسية المستعصية بشيء من الحدّة، إذ من المعروف أن خدمة مصالح الإمبريالية لا يمكن أن تتم ولأسباب موضوعية دون هذه الدرجة أو الأخرى من قمع الشعوب من قبل النخب الحاكمة وتدرك الإمبريالية هذه الحقيقة بدليل رعايتها لفرق النظام العام تجهيزا وتعهدا وتدريبا ومساندتها عند الضرورة للأنظمة الدموية، وهي مساندة تصل الى حد مشاركتها في جرائمها إلى نهاية المطاف عند اللزوم أو ما يكفي من الوقت لإعداد بدائل جديدة تسهر على مصالحها.
كما انه من المعروف أيضا أن النخب الحاكمة بالبلدان المتخلفة لا تتخلى بسهولة عن كرسي الحكم لوجود علاقة جدلية بين السلطة والثروة بهذه البلدان: إذ كثيرا ما تنشأ حول النخب الحاكمة »عتر« لا يمكنها الحفاظ على منهوباتها من المال العام ولا على تواصل تدفق العمولات التي تحصل عليها إلا بتسخير وسائل السلطة أطول ما يمكن من الوقت لفائدتها واستعمالها كلما دعت الحاجة لقمع المناوئين بل حتى لإبعاد المنافسين من دائرة المنافسة، وهنا تشعر الإمبريالية بضرورة »التدخل« لمحاولة تنظيم التداول على السلطة وإحداث التغيير في الاتجاه الذي يخدم مصالحها وهو التدخل الذي يمكن ان يتم إما بصورة قسرية (9) وإما من خلال تحريك البدائل على عين المكان ومساعدتها من الخارج بواسطةرفع شعار »حقوق الانسان« بصورة مخادعة.
ولا يغيب عن الذهن هنا أن الإمبريالية وهي تتدخل بهذه الصورة أو الاخرى إنما تعمل على تحقيق هدف واحد ألا وهو استبعاد عامل المفاجأة المتمثل في إمكانية بروز نخب تفرزها الأحداث وقد تكون ملتزمة بقضايا شعوبها فتجلب الوبال والخسارة على المصالح الأجنية أو على الاقل تعرضها للقلاقل والمخاطر.
إنه لا سبيل في منطق الامبريالية للسماح بإعادة انتاج الظروف التي أدت الى قيام ثورة بلشفية (نموذج روسيا 1917) أوحتى ثورة خمينية (نموذج إيران 1979)، ففي كلتا الحالتين لجأت الحركة الشعبية عند هبوبها ثوريا الى نخب غير متحكم فيها من قبل الإمبريالية فدفعت هذه الأخيرة الثمن غاليا ولو بتفاوت كبير بين الحالتين بل إن مثال الثورة البلشفية سيبقى مثالا عى انفلات واضح في سياق التاريخ لحركة احتجاجية كان الهدف منها إسقاط القيصرية فقط وإلحاق روسيا بالركب البورجوازي فتجاوزت ما كان مقدرا لها وأوشكت رغم العناصر المدسوسة أن تطيح بنفوذ الإمبريالية مرة واحدة، ولم تتمكن هذه الأخيرة من تدجينها في مرحلة أولى (في ظلّ السياسات التحريفية) ثم من الالتفاف عليها عند النهاية الا باللجوء الى سياسات قصوى سواء أثناء الحرب الساخنة أو الحرب الباردة وعندئد فقط وبعد الاجهاز على ما وقعت تسميته ب »توازن الرعب« أمكن لها (أي الإمبريالية) أن تفتح الأفق على العالم ذي القطب الواحد وعلى النظام العالمي الجديد المتجسد في العولمة الزاحفة التي نعيش حاليا تحت وطأتها والتي عادت بنا تقريبا وفي ظل أوضاع جديدة الى موازين نهايات القرن التاسع عشر.
2 ينشرون الفساد ويعلنون مقاومته...
إنه تجنبا لمثل هذه الحوادث بلشفية كانت أم خمينية أم غيرها تبلورت الحاجة أكثر من ذي قبل لدى الإمبريالية الى عدم الاكتفاء بالعمل مع النخب الحاكمة والتوجه نحو ما يسمى ب »المجتمع المدني« ومحاولة الاتصال بمكوناته لتنظيمها وتأطيرها في الاتجاه الذي يخدم مصالحها.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الإمبريالية ستلعب بتوجهها هذا لعبة مزدوجة فهي من ناحية أولى ستحاول إخضاع النخب الحاكمة وذلك بتحريك النخب البديلة ضدها كلما اقتضى الأمر ذلك وهي من ناحية ثانية ستحاول ترويض النخب البديلة وجعلها متعودة على »الاستجابة« مقابل »حمايتها« من قمع النخب الحاكمة الذي يتم في جانب هام منه لفائدتها (أي لفائدة الإمبريالية)!
ولعله من الواجب عند هذا الحد لفت الانتباه الى آخر آلية ابتدعتها الإمبريالية في هذا الاتجاه: فمحاسبة »أوغستنو بينوتشيه« دكتاتور الشيلي الدموي الذي أنجز سنة 1973 انقلابا عسكريا على حكومة الدكتور »سلفا دور ألندي« الاشتراكية تنفيذا آنذاك لرغبة شركة »آي.تي.تي« الأمريكية المهتمة بالنحاس الشيلي، قد تبدو بالنسبة لما يسمى بالمجتمع المدني كاستجابة لمطالبه ولكنها محاسبة تتم في الحقيقة فقط في الحدود التي تمكن من رفع درجة الائتمار بالأوامر والانضباط مستقبلا لدى النخب الحاكمة الموالية للإمبريالية في هذا البلد أو الآخر. إن »المجتمع المدني« يقع إذن تحت المغازلة المكثفة للقوى الإمبريالية وهي مغازلة مبنية على المغالطة أحيانا وعلى الالتقاء الفعلي للمصالح أحيانا أخرى: إذ لا شك في أن مصلحة الإمبريالية تقتضي الاعتماد رئيسيا على النخب الحاكمة واحتياطيا فقط على »النخب البديلة« عملا بالمقولة القائلة: »إن عصفورا واحدا في القفص خير من عشرة فوق الشجرة«، ولكن الحكمة تقتضي عندئذ أن يبقى الفخ منصوبا لاصطياد عصفور بديل يحل محمل الموجود في القفص تحسبا لاختناق هذا الأخير أو لتعفنه في مكانه لهذا السبب أو الآخر.
وتوجد في الحقيقة أساليب وأدوات ووسائل كثيرة يمكن للإمبريالية أن تتصل بواسطتها أو من خلالها بمكونات »المجتمع المدني« ولكن الوقوف عند تجربة البنك العالمي للتنمية وصندوق النقد الدولي على وجه التحديد قد يكون الأكثر فائدة بالنسبة إلينا في سياق تحليلنا (10) إن هذين المؤسستين هما من الأدوات الفاعلة للتدخل الإمبريالي في حماية الشعوب إذ بواسطة شروط القروض تتاح الفرصة للإمبريالية لإملاء سياساتها في كل المجالات فيكون من المعقول أن تهتم هاتان المؤسستان بما يتجاوز المسائل الفنية المتعلقة بالأرقام ونسب الربح وجدولة الديون الى ما يشمل مسائل أخرى قد تبدو بعيدة نسبيا عن هذه المشاغل المباشرة.
وهكذا فإنّه خلال اجتماعهما السنوي المشترك لسنة 1996 نجدهما قد تطرقتا مثلا إلى موضوع ما يسمى ب »الفساد« وقد أكدتا بصفة مشتركة على ضرورة مقاومته باعتباره:
»يعيق التنمية ويقضي على ثقة المستثمرين والمدخرين في الدول النامية« (11).
ومن هذه الزاوية فإن المشكل المطروح يبدو له جانبا اقتصاديا لا نقاش فيه ذلك أن الفساد إذا جاوز حدا معينا:
»يدخل اختلالا على المصاريف العمومية ويزيد في كلفة تسيير الشؤون ويثني المستثمرين الأجانب« (12).
على حدّ ما جاء في كلمة السيد »وولفنسن« رئيس البنك العالمي أثناء خطاب ألقاه أمام 180 وفدا من الدول الأعضاء في المؤسستين خلال الاجتماع السنوي المشار إليه آنفا، وهنا توجد عقدة الأمور كلها بما يبرز تجاوز الموضوع لجانبه الاقتصادي البحت وملامسته لمسألة »تسيير الشؤون« التي هي مسألة سياسية حكومية في الأساس، وإذ حاول السيد »وولفنسن« الى جانب ذلك إدخال سبب آخر يدعو مؤسسته إلى مقاومة »سرطان الفساد« (13) ألا وهو الاستجابة لمطالب »الناس من بلد إلى آخر« (14) والوقوف ضد تحويل »موارد الفقراء نحو الاغنياء« (15) فهو قد أكد وجود ذلك التجاوز رغم أنّ كلامه في هذا الباب الاخير يبقى كلاما معدا للاستهلاك لا أكثر ولا أقل، ذلك أن سياسات المؤسستين الماليتين الكونيتين لا ترمي في الحقيقة الا إلى تحقيق ذلك »التحويل« على المستوى المحلي كما على المستوى العالمي: وما الإصلاحات الهيكلية التي يأمران بها والتي تتم على حساب الطبقات الكادحة بمختلف البلدان الا أكبر دليل على ذلك إذ المهم دائما بالنسبة لهذين المؤسستين هو: »حقيقة الأسعار« و»رفع معدلات الإنتاج والإنتاجية« و»حرية رأس المال والاستثمار« حتى ولو تم هذا:
بواسطة غلق المؤسسات أو »تطهيرها« وهذه العبارة الأخيرة تعني تسريح جموع العاملين الذين يعتبرهم رأس المال »زائدين عن الحاجة«.
أو بواسطة »المرونة في تطبيق عقد الشغل« وهذه العبارة تعني عدم الاعتراف بالحقوق المكتسبة لطبقة الأجراء.
فلا وجود إذن لأي بعد إجتماعي حقيقي في سياسة هاتين المؤسستين الماليتين وإنما هو كلام احتوائي معد في أكثر جوانبه للاستهلاك الإعلامي.
إن ما يهم هذين المؤسستين عند النهاية هو عدم ارتفاع درجة الفساد الى الحد الذي يحول دون تدفق الاستثمار الاجنبي في أي بلد من البلدان لان الرشاوي اذا تداخلت في المنافسة (وهي تتدخل عمليا فيها) أضرت الى هذا الحدّ أو الآخر بقواعد العمل »العادية للرأسمالية فإذا تجاوزت الحد المقبول« فإنها تصبح مهددة لرأس المال الذي يصبح مجبرا عندئذ على المساس من هامش ربحه ارضاء لمختلف نزوات النخب الحاكمة وتلبية لرغبات البيروقراطيين الساهرين على شؤون »الصفقات« مهما كانت تلك الطلبات مشطة فمن هنا بالضبط يصدر نداء المؤسستين الهادف الى محاولة الحد من استفحال هذه الظاهرة، وهذا النداء يستدعي طبعا في نقطة تقاطعه مع طلبات »المجتمع المدني المحلي« درجة من التنسيق معه، وهو ما لم يتأخر رئيس البنك العالمي للتنمية عن الاصداع به قائلا:
»إنّ الحلول يجب أن تأتي من داخل البلدان، وعلى الزعماء المحليين أن يواجهوا ذلك وللمجتمع المدني دور والبنك العالمي يساعد كل من له برنامج وطني يحد من مثل هذه الممارسات« (16).
ويستخلص من هذه الكلمات ما يلي:
❊ أولا: البنك لا تهمه مقاومة ظاهرة الفساد في حد ذاتها، فهو قد ساهم في خلقها وما انفكت فعالياته تستفيد منها لتمرير مختلف سياساته ولكن الذي يهمه هو »الحد« فقط من هذه الظاهرة حسب عبارة رئيسه بالذات وذلك في الاتجاه الذي يخدم أهدافه.
❊ ثانيا: إن البنك يعطي الأولوية للعمل مع النخب الحاكمة المشار إليها في خطاب رئيسه بعبارة »الزعماء المحليين« فهؤلاء الزعماء الماسكين بالأمور هم الذين ستوكل إليهم بالأساس مهمة الحد من الجشع البيروقراطي وتقتضي النجاعة أن لا يقع تجاوزهم الا عند الضرورة.
❊ ثالثا: إن البنك لا يستنكف عن اللجوء الى »المجتمع المدني« كلما استلزمت مصالحه ذلك وإن »دور« هذا »المجتمع المدني« يتمثل عندئذ في مشاغبة النخب الحاكمة وإجبارها من خلال فضحها على الانضباط في طلباتها أو تهديد مواقعها جديا عندما تقتضي الأحوال ذلك.
❊رابعا: إن البنك العالمي يعلن عن تقديم »المساعدة« لكل من يبدي استعداده للعمل على الحد من ظاهرة الفساد وبديهي أن »المساعدة« عندما تصدر عن مؤسسة مالية تكتسي بالضرورة بالطابع الميز لهذه المؤسسة ألا وهو الطابع المالي.
3 »المجتمع المدني: حلم بورجوازي«:
وهنا فإنهّ يتوجب الوقوف ولو بعجالة عند مفهوم »المجتمع المدني« إذ من المعلوم أن النقاش حول هذا المفهوم لم يحسم البتة ما بين الذين ينفون وجوده في الواقع وبين الذين يقرون بذلك. فمن »هيجل إلى غرامشي« مرورا »بكارل ماركس« و»فريدريك أنقلز« حسب البعض أو من »أفلاطون« إلى »ماكس فيبار« مرورا »بروسو، وديدرو، ولوك« »وكانط والفارابي« وابن خلدون حسب البعض الآخر وقعت مقاربات كثيرة لتحديد مفهوم »المجتمع المدني« في مختلف معانيه التاريخية (17) دون أن يعني هذا أنه »نفذ فيه الكلام« (18).
ورغم أهمية كل هذه المقاربات في سياقها فإنه يبقى من الثابت لدينا أن مفهوم »المجتمع المدني« في معناه الدقيق هو »مفهوم حديث« (19) لأنّه يعبر أساسا عن »حلم بورجوازي« (20 ) لم يتبلور بصورة جدية إلا مع تباشير الثورة البورجوازية الأوروبية كما إنه مفهوم هلامي أخذت معانيه منذ ظهوره أشكالا مختلفة عبر الزمان والمكان فهو في فرنسا 1791 غيره في إيطاليا تحت الحكم الفاشي »لموسوليني« وهو في مواجهة الحكام العسكريين غيره في مواجهة تزمّت رجال الدين ونظرا لصعوبة تحديده فإنه سبق »لكارل ماركس« و»فريدريك أنقلز« مثلا أن تخليا وقد يكون لهذا السبب كما لغيره عن الكتاب الذي أشارا فيه بصورة أساسية الى هذا المفهوم الا وهو كتاب: »الإيديولوجيا« الألمانية، بل إنهما قاما باستبدال هذا المفهوم بعد ذلك بعبارة علاقات الإنتاج الاجتماعي وهو ما جعل هذا المفهوم يفقد كل معنى مستقل بذاته لديهما وإذ واصل هذا المفهوم وجوده عبر جهود المفكر الماركسي الإيطالي »أنطونيو غرامشي« أو عاد الى بساط البحث والدراسة والاستعمال مجددا وبقوة خاصة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي أو قبل ذلك بقليل فإن هذا مما يستعدي منا حقا المساهمة في تحديده قدر الإمكان محاولين حصره عمليا ما بين اللحظات التي انبعث فيها كحلم نظري واللحظات التي تجسم فيها كواقع تاريخي.
لقد رأى »ماندفيل« في سنة 1714 بصورة نظرية بحتة أن »حب الذات هو منشئ المجتمع المدني« (21) وهو ما يفهم منه أن المجتمع المدني يتأسس على الفرص الواجب إتاحتها للافراد بصفتهم مواطنين أحرار لتشييد كياناتهم الاقتصادية مع تسليحهم حقوقيا بما يمكنهم من مواجهة استبداد الدولة أو تزمت الكنيسة وهذا ما تكفلت به في كل الأحوال التنظيمات التي جاءت بها الثورة البورجوازية منذ اندلاعها بصورة عنيفة سنة 1789.
أمّا الاخصائي »جان آرت شولت« فقد رأى في سنة 1998 أي بعد 284 عاما من »دي ماندفيل« أن مفهوم »المجتمع المدني« يتحدد بصفة عملية وبراغماتية من خلال مكوناته كما برزت أثناء التجربة التاريخية.
وقد كان من رأيه في هذا النطاق أن المصطلح يدل على:
»مجموعة واسعة من التجمعات غير الرسمية التي ليس هدفها الربح والتي لها هياكل متشكلة الى هذا الحد أو الآخر وتحاول إما تقوية القواعد والمبادئ المعمول بها والهياكل الاجتماعية التي ترتكز عليها وما تغييرها بهذه الصفة أو الأخرى« (22).
ولكنه يضيف بغاية الزيادة في التوضيح:
» لا يجب اختصار المجتمع المدني فيما يسمى بالمنظمات غير الحكومية« لان هذا اسم آخر يحشر فيه كل شيء في الخطاب السياسي المعاصر فالمنظمات غير الحكومية العاملة في حقل التنمية وحقوق الانسان والمساعد الإنسانية إلخ... هي جزء من المجتمع المدني. ولكن هذا أيضا هو حال العدد الأكبر من المجموعات الاخرى = النقابات وجمعيات رجال الأعمال (وهي تختلف عن المنشآت والمقاولات) والمنظمات الفلاحية والمجموعات الدينية والمؤسسات الجامعية والجمعيات الطلابية والهياكل الجمعياتية والجمعيات المهنية والأحزاب السياسية ومجموعات الضغط المؤسسة على الانتماء الاثنى إلخ...(23).
وهكذا فمن »دي ماندفيل« في أوائل القرن الثامن عشر الى »شولت« في أواخر القرن العشرين من التقويم المسيحي يمكننا أن نلاحظ كيف نشأ أحد الأحلام النظرية للبورجوازية ثم كيف أخذ تطبيقاته العملية في الواقع المجتمعي المعيشي في ظل الانتصار التاريخي لسلطة رأس المال ولكنه لا يجب أن يفوتنا أن »شولت« ورغم استفادته من الخبرة التاريخية للبورجوازية في محاولته نحت حدود هذا المفهوم لم يتوصل حتى إلى إقناع نفسه بصحة تحديده وهو كما رأيناه يذكر وبتواضع علمي يشكر عليه أن مفهوم المجتمع المدني شأنه شأن مفهوم الجمعيات غير الحكومية يبقى بمثابة المفهوم الذي يمكن أن يحشر فيه كل شيء من قبل الخطاب السياسي المعاصر معلنا في دراسته أن التحديد الذي لجأ اليه تم فقط استجابة لما يفرضه عليه موضوع تلك الدراسة الذي تناول فيه »لقاء صندوق النقد الدولي بالمجتمع المدني«.
إننا مع وقوفنا في آخر هذا المطاف الوجيز على وجود صعوبات أكيدة وجدية في تحديد مفهوم »المجتمع المدني« نود أن نقول مع عالم الاجتماع التونسي السيد عبد العزيز لبيب أنه لا يمكن البتة اعتبار هذا المفهوم بمثابة »مقولة علمية بريئة ومحايدة« (24) ولكنه يبقى بإمكاننا بعد تسجيلنا لاختلاف وجهات النظر حول هذا الموضوع أن نتقدم للقارئ بمحاولة لتعريف المجتمع المدني وأن نقول: إن مفهوم المجتمع المدني يحيلنا فعليا على مجموعة الدكاكين السياسية والثقافية للطبقة البورجوازية بصفتها الطبقة ذات السيادة في عصر هيمنة رأس المال وحرية الصناعة والتجارة والمضاربة وهي الدكاكين التي تحاول هذه الطبقة بواسطتها تحقيق أقصى درجات الانسجام في أدائها العام وذلك من خلال السماح لمختلف الفئات والمصالح والرؤى مهما كانت جزئية بممارسة الضغط على بعضها البعض ما يمكن من الاطلاع على بؤر التوتر والاختناق والتفجر ويسمح بمساومتها أو باحتوائها أو بمعالجتها أو حتى بمصادمتها حسب الظروف والأحوال، وبعبارة أخرى فإن المجتمع المدني هو بهذه الصورة سوق البدائل المتاحة لإحداث التغييرات المناسبة والمواءمات الضرورية في تصورات أو شخوص الطبقة البورجوازية الحاكمة بما يمكنها من تحقيق أعلى درجة ممكنة من الانسجام في أدائها الطبقي العام.
4 مثلث الهيمنة: الضلع المنشود:
انطلاقا من هذا التحديد يمكننا أن نرى بسهولة مدى أهمية هذا المجال بالنسبة للإمبريالية، بل إننا نفهم بيسر لماذا يتوجب على صناديقها المالية الكونية أن تحاول الاتصال بمكونات هذا »المجتمع المدني« المشبوه من أجل القيام بلعبتها المزدوجة التي تسمح لها بالتدخل مباشرة في صياغة الخيارات سواء لدى النخب القيادية أو لدى النخب القيادية المرشحة لذلك.
وهكذا يصبح بإمكاننا أيضا أن نفهم وعلى ضوء جديد رأي الباحث الاختصاص »جان أآرت شولت« وهو يؤكد:
»إنّ صندوق النقد الدولي هو بالأساس منظمة تجتمع فيها الدول وتعني في نطاق مهامها بعقد علاقات ممتازة مع الحكومات ولكنه لا يجب عليها ان تهمل ما يسمى بالمجتمع المدني« (25).
وفي هذا النطاق يعلمنا »جان أآرت شولت« كذلك أنّه »خلال عقد التسعينات (من القرن العشرين) وتطبيقا لهذا التوجه أمكن للبنك أن يقوي فعليا علاقاته مع هذا المجتمع المدني وذلك بهدف الحصول على أخبار ثمينة... لا يمكنه الحصول عليها بطرق أخرى« (26).
ولكننا نشك من ناحيتنا في كون الهدف الأساس للبنك هو الحصول فقط على أخبار مهما كانت ثمينة بقدرما هو أيضا تكوين مخبرين مستعدين لأداء »مهمتهم« من مواقعهم الجمعياتية والمهنية والحزبية مقابل ما يحصلون عليه من »هبات« من لدن المانحين الماليين المتصلين بالبنك والموزعين بمختلف البلدان والمتمثلة مهمتهم في تحقيق »مشاورات مثمرة« (27) مع كل من يتصلون بهم.
وهكذا فإن الدور الحقيقي المناط بعهدة شخوص المجتمع المدني وهو ما يكشفه »شولت« ولكن باحتشام كبير لا يمكن أن يكون إلا القيام بوظيفة »المربين المدنيين« (28) الذين يساعدون »العموم« (29) على »تفهم سياسات صندوق النقد الدولي« (30) وهذا كلام لا يعني اذا نزعنا عنه أغلفته التي يتغلف بها سوى أنه على هؤلاء الشخوص القيام بدور العملاء المسخرين بواسطة المال للدفاع عن السياسات الظالمة لصندوق النقد الدولي ولمختلف الدوائر الإمبريالية المرتبطة به ومحاولة تمريرها لدى الشعوب المشار إليها ب»العموم«.
وكما جاء بحوارات منشورة بجريدة »متضامن« الناطقة باسم حزب العمل »ببلجيكا« على لسان أحد المساهمين في تلك الحوارات واسمه »بول دي فوس« وهو ممثل جمعية تدعى: »صندوق العالم الثالث« فإنّ صندوق النقد الدولي والبنك العالمي للتنمية يهدفان في الحقيقة إلى منع أي »تجاوز« (31) لما يسمى ب »عتبات الانفجار« (32) ولذلك فهما يعمدان الى جعل مخططات التأهيل الهيكلي التي يشرفان عليها مصحوبة بالضرورة ب »شبكات للأمان الاجتماعي« (33) وذلك بغاية »الاطلاع مسبقا على التظاهرات والتمردات الممكنة« (34).
وهكذا يضيف السيد »بول دي فوس« ف»إنّ المنظمات غير الحكومية يقع استخدامها لحماية الهدوء الاقتصادي والسياسي وهذا لا يعني أنها غير سياسية، بل على العكس فإن دورها هو دفع القوى التقدمية الى الدخول في قنوات التسوية مع مصالح الشمال وإلا فإنّه يقع تحييدها« (35).
إن منظمات هذا هو دورها تستحق أن يقع الانفاق عليها ودون احتساب عند الضرورة ويحار الكثيرون في السخاء الذي تبديه المؤسسات المانحة ولا يجدون له تفسيرا ظاهريا مقبولا ولكنهم في الانتظار ينعمون ب »النضال« في فنادق الخمسة نجوم ويتناولون هناك ما طاب لهم من الاطعمة »الراقية« ويشربون الى حد الاسراف أحيانا ما يتاح لهم من المشروبات الكحولية »الفاخرة« وكل ذلك على حساب مؤسسات نبتت في مجتمعاتهم على حين غفلة اعتقادا منهم أن ذلك قد يدخل في »السير الطبيعي للأمور« أو في حساب »تضامن أممي« غامض بالنسبة إليهم مع القضايا الجزئية التي ينخرطون في الدفاع عنها، غير شاعرين أنهم إنما يتجرعون سموما تفتك بكرامتهم وبصلابتهم وبالمنهجية المستقلة لعملهم لفائدة أوطانهم.
وعودة إلى حوارات جريدة »متضامن« فإننا نشير الى أن مساهما يدعى: »كزافي دو كلارك« أعلن أمام الحاضرين أن جمعيته وتدعى »أوكسفام« غادرت لجنة المنظمات غير الحكومية التابعة للبنك الدولي وذلك بعد أن اتضحت لها أهداف تلك اللجنة هكذا قال في ذلك الوقت مضيفا:
»إنّه يجب علينا أن نجد وسائل عمل لا تدعم الأنظمة القائمة ولكنها تساعد الشعوب في نفس الوقت على التنظيم« (36).
وتوضيحا للدعائم التي ينبني عليها عمليا مثل هذا الموقف فقد أدلى مساهم آخر في الحوارات وهو أستاذ بجامعة »بيرزيت« بفلسطين المحتلة ويدعى رضا مالكي بالشهادة التالية:
»إنّ المنظمات غير الحكومية العالمية تمنح أموالها للمشاريع حسب مقاييسها لا حسب مقاييسنا واحتياجاتنا وهكذا أصبحت المنظمات غير الحكومية لدينا خاضعة للمساعدة الاجنبية فالمال هو الذي يتحكم فيها و شيئا فشيئا تتبنى المنظمات غير الحكومية المحلية قيم ومعايير المنظمات غير الحكومية الدولية أما من ترفض تلك القيم والمعايير فلا تحصل على المال« (37).
وإذ يكتفي هذا المتدخل في شهادته بموقف الاحتجاج الذي لا يرتقي الى درجة الرفض فإن مساهما آخر في الحوارات ويدعى »جوزاف روناي« من »هاييتي« قد ذهب الى أبعد من ذلك إذ استخلص ما يلي: »إن المنظمات غير الحكومية المرتبطة بالشعب لا يمكن لها في الحقيقة أن تقوم بمهامها الا في نطاق السريّة« (38).
معبرا بهذه الصفة عن رأي قد يجد دعاماته في الوضع الموجود ببلاده لكنه يمكن أن يأخذ طابعا عاما ويبقى عندئذ في حاجة الى مزيد من الإنارة والتعميق خاصة إذا ربطناه من جديد برأي السيد »بول دي فوس« سابق الذكر الذي أوضح فيه أن الحركات التقدمية التي لا ترضى بالدخول في قوالب التسوية مع »مصالح الشمال الإمبريالي« يقع العمل على تحييدها مستعملا عبارة باللغة الفرنسية قد تفيد أيضا: »يقع الإجهاز عليها« (NEUTRALISER). (39).
إن كافة المعطيات التي قدمت تكشف عن وجود مزالق ومطبات خطيرة ذلك أن تأطير مختلف الأوطان من قبل الإمبريالية أصبح يتم من خلال النخب الحاكمة والنخب البديلة داخل الطبقة السائدة في نفس الوقت، ولم يعد عمل الإمبريالية مقصورا فقط على »دسّ العناصر« و»الاستخبار« لمعرفة مختلف التوجهات ومحاولة التأثير فيها بل بدأ يأخذ شيئا فشيئا طابعا مفتوحا وعلنيا ما صيّر »المجتمع المدني» بمثابة المصيدة الكبيرة الممدودة على نطاق عالمي لتجنيد الأعوان وللتصرّف في مستقبل الأوطان.
ولعلّه من المفيد في هذا السياق أن نطلع على ما يقترحه الأخصائي »جان آرثت شولت« بهدف تجاوز ما يسميه »الإنفتاح الذهني المحدود« (40) الذي يميّز حاليا العلاقة القائمة بين صندوق النقد الدولي والمجتمع المدني، وهو يدعو في هذا الاتجاه إلى »برنامج رائد« (41) يلتحق بمقتضاه العديد من »أعوان المجتمع المدني« (42) بخدمات »صندوق النقد الدولي« وكل واحد منهم يقع ضمّه مؤقتا وبموافقة السلطات الوطنية إلى فريق موظفي الصندوق العامل بتلك البلاد وخلال تلك الفترة يتقبّل عون الإتصال أخبارا من الجمعيات غير الحكومية كما يبلغ إليها أخبارا« (43).
ومن رأيه كذلك أنّ هؤلاء الأعوان »من واجبهم لا فقط أن يعرفوا المجتمع المدني وأن يكونوا جزءا منه بل كذلك أن تكون لهم معرفة كبرى بصندوق النقد الدولي كما يجب عليهم من جهة أخرى أن يتوصّلوا إلى الإحراز على ثقة أنصار الصندوق وخصومه« (44).
إنّ هذا المقترح يصدر عن أخصائي في ميدان علاقات صندوق النقد الدولي بالمجتمع المدني برتبة مدرس جامعي »بلاهاي« العاصمة السويدية يشرف على أبحاثه مجمع الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية بالمملكة البريطانية المتحدة عبر خلية تدعى »برنامج المؤسسات الاقتصادية الكونية«، ولا يخفي هذا الباحث أنّ أعماله تهدف فيما تهدف إليه إلى إيجاد »وسائل غير باهظة« (45) لإقامة علاقات بين صندوق النقد الدولي والمجتمع المدني.
وهكذا فقد تكون مصالح الصندوق وهيئاته قد انكبت بعد على دراسة مثل هذا المقترح الذي ينسجم في كلّ الأحوال مع التوجهات العامة لهذه المؤسسة الكونية والهادفة إلى دخول مرحلة متقدّمة من العمل العلني المباشر داخل كلّ المجتمعات.
ويفيدنا »جان آرت شولت« مرّة أخرى في هذا الخصوص بما يلي:
»إنّ صندوق النقد الدولي أصبح له منذ 1981 (لاحظوا هذا التاريخ) إدارة للعلاقات الخارجية، وهذه الأخيرة أحدثت منذ 1989 قسما للشؤون العامة وزادت من عدد أعضائها المقيمين من 20 بلدا في بداية الثمانينات إلى 68 بلدا حاليا« (أي في سنة 1998) (46). كما يعلمنا »جان آرت شولت« أنّه زيادة على هؤلاء الأعضاء المقيمين فإنّ اتصال البنك بالمجتمع المدني في مختلف البلدان قد استوجب بعث مجموعة من »المؤسسات المنعكسة عنه« (47) دون أن يكشف لنا عن أسماء تلك المؤسسات أو أن يشير إلى ما يمكن أن يساعدنا على معرفتها.
إنّ جسامة الرهانات التي يقدم عليها الصندوق في هذه السنوات الأخيرة هي التي تدفع به كما تدفع بالأخصائيين العاملين معه إلى محاولة إخفاء المؤسسات البينية والوسيطة التي يلجأ إليها حاليا في علاقته بالمجتمع المدني فرغم رغبة الصندوق في دخول مرحلة متقدّمة من العلنية فإنّ الطابع المميّز لعلاقاته مع المجتمع المدني مازال يتسّم بالحذر، وهكذا فعندما يتعلّق الأمر بإقامة علاقات مباشرة فإنّه يفضّل الى حدّ الآن أن يكون ذلك وبدرجة أولى مع مؤسسات البحث الجامعي ومنظمات الأعراف، أمّا نقابات العمّال فهي موضوعة لديه في المقام الثاني (48) رغم إصراره على التوجّه إليها كذلك.
وكما أكّد ذلك »شولت« من جديد فإنّ هذه المؤسسة المالية الكونية لازالت تحتاج إلى جهود كبيرة كي تمحي من الأذهان »المخاوف« (49) التي لازالت عالقة بصورتها »لدى العموم« (50).
فالهدف بالنسبة للصندوق هو: الوصول بمعيّة الدول والمجتمع المدني إلى إقامة شراكة ثلاثية الأطراف من شأنها أن تسهم في تطوير سياسات ناجعة وديمقراطية في مناخ العولمة« (51)، ولكنّه يعرف أنّ هذا الهدف يعتبر بمثابة »التحدّي« (52) وذلك لإصطدامه بالضرورة بضراوة بالمشاعر الوطنية لدى مختلف الأمم والشعوب.
ومن المفارقات الملحوظة هنا أنّ النخب الحاكمة التي تعودت على علاقات رأسية مع صندوق النقد الدولي لا ترغب في دخول »المجتمع المدني« في المعادلة، فهي تعتبره منافسا غير مرغوب فيه من قبلها وهكذا فإنّها رغم ارتباطها المعروف بالدوائر الإمبريالية لا تتأخّر وبكامل الخبث عن رفع الشعار الوطني في وجه مكونات هذا »المجتمع المدني« كلّما دخلت هذه المكونات في علاقة نشيطة ومباشرة مع صندوق النقد الدولي أو مع إحدى الدوائر الإمبريالية الأخرى.
فالنظام المصري مثلا عمد إلى إيقاف رئيس الرابطة المصرية للدفاع عن حقوق الإنسان عندما تسلّم صكّا مشبوها من السفارة البريطانية وقد قام بمصر ضجيج مهول حول هذه القضية.
وهناك أنظمة فكرت في إصدار قوانين تجرم كل اتصال مع »الجهات الخارجية«!!
ولكن الأحداث أوضحت بما لا يدع مجالا للشك أنّ الدوائر الإمبريالية مصرّة على إبراز هذا الضلع الثالث من المثلث الجديد لهيمنتها وعدم الإكتفاء مستقبلا بعلاقاتها التقليدية مع الحكومات القائمة، ذلك أنّه بإكتمال هذا المثلث يكتمل الحلم الإمبريالي الهادف إلى إيجاد السلاح الناجع لضرب الوطنية في كافة مواقعها.
فالنخب الحاكمة في ظلّ العولمة تواصل التخلّي هكذا عن الوطنية مقابل صيانة عمولاتها ومصالحها المشتركة مع الإمبريالية وضمان الأرباح التي تجنيها من أنشطتها الطفيلية وهذا هو معنى »النجاعة« التي يضمنها الصندوق لفائدتها.
أمّا النخب البديلة فيطلب منها التخلّي عن الوطنية مقابل توفير فرصة لها للمساهمة في الحياة العامة وفتح الآفاق أمامها كي يقع اختيارها عند الضرورة لقيادة »التغيير« الذي قد تراه الإمبريالية مناسبا لتحقيق »التداول على السلطة« وهذه هي »الديمقراطية« التي يعد بها صندوق النقد الدولي، ولا يستنكف المعارض المغاربي الذي سلفت الإشارة إليه بصفته نموذجا من نماذج علاقات »المجتمع المدني« مع »المجتمع الدولي« من إعلامنا مسبقا بأنّ هذه »الديمقراطية« ستلجأ إلى استعمال »العصا الغليظة« (53) ضدّ خصومها.
فيا لها من ديمقراطية إذن!!
5 الوطنية في الصدارة أبدا
وما بين الوطنية المزعومة التي تدافع عنها النخب الحاكمة الضالعة في العمالة للإمبريالية، والديمقراطية الموهومة التي يدافع عنها »المجتمع المدني« المسير من قبل صندوق النقد الدولي والمؤسسات الخفية المنعكسة عنه تتاح »الفرصة« للشعوب المشار إليها في أدبيات الصندوق بعبارة »العموم« كي تعيش أحلاما ملغومة على المستويين، كما يتسنّى للإمبريالية ان تنتصب على قمّة المثلث وأن تحاول استعمال موقعها لمحاولة توجيه الضربة القاضية لعدوها اللدود ألا وهو الإنتماء الوطني.
وفعلا فإنّ البرجوازية قد علمت منذ دخولها إلى المرحلة الإمبريالية من تطورها أنّ الوطنية هي الجدار الذي تتحطّم عليه في كلّ مرّة أحلامها في »إقامة عالم على مثالها« (54).
فهي مع موجة الإحتلال المباشر لأراضي الأمم والشعوب الأخرى قد اصطدمت بالكفاح المسلّح لحركات التحرّر القومي والوطني التي أجبرتها على الجلاء من الأراضي التي احتلتها، وإذ غيّرت الإمبريالية عندئذ قناعها فإنّها لم تغيّر قناعتها وعقيدتها: ففي السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية والتي شهدت انحدار إمبراطوريتي الاستعمار المباشر: فرنسا وانقلترا وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كزعيمة ل »العالم الحر« وهي تنادي بصورة مخادعة من خلال »مبادئ ولسن« بحق الشعوب في تقرير مصيرها أطل علينا أيضا أعتى مبرمجي الإستراتيجيا للدولة العظمى الجديدة ألا وهو: السيد »كينان« ليعلن أنه يحق لأمريكا الدفاع عن مصالحها الحيوية بكل الوسائل وأن النفط بصفته مادة ضرورية لاقتصادها من المستوجب الحصول عليه بأي طريقة فوجوده بالشرق الأوسط هو فقط نتيجة »خطأ جغرافي«! وأنّ الوطنية »عفن« من الضروري »القضاء عليه وإزالته« في المستقبل المنظور وبدون أي تأخير.
وقد كشف »السيد كينان« بهذه الصورة عن العمق الإيديولوجي الحقيقي الذي يتعامل به »الغرب« الإمبريالي مع كل الأمم والشعوب الأخرى. وهذا العمق الإيديولوجي هو الذي تأكّد مرّة أخرى مع مقولات العولمة الزاحفة نحو اكتمالها التي نعيش تحت وطأتها في هذه الأيّام من سنة 2000.
فإعلان »نهاية التاريخ« (55) هو مجرّد إعلان عن الإنتصار النهائي المزعوم لنمط الإنتاج الليبرالي كما انّه محاولة مفضوحة لإغلاق غير ذلك من آفاق التطور البشري.
ف »الغرب يوجد اليوم في ذروة قوة غير عادية بالنسبة إلى الحضارات الأخرى« (56). كما يقول أحد أبرز منظريه حاليا أمّا عند تفطّن هذا الغرب في نشوة الإنتصار إلى أنّ »الآخر« المختلف عنه حضاريا لازال يعيش فوق، كوكب الأرض فإنّه لا يتوانى عن إبداء استعداده لخوض الحرب ضدّه وهي الحرب الممكنة (57) التي أكدتها مقولة »صراع الحضارات« (58) »لصموئيل هيتنغتون« تلك المقولة التي لا تأبه بنداء »الحوار« الصادر عن بعض المستنيرين الغربيين (59) أو بنداء »الشراكة المعرفية« (60) الصادر عن بعض المفكرين المنتمين إلى الشعوب المستضعفة.
ففكرة نهاية التاريخ بصفتها »تكشف مرّة أخرى طبيعية الرؤية الأثنية للتمركز على الذات الباحثة عن مطلقها ومبدئها الكلّي« (61) هي في المحصلة الأخيرة إعلان لإنتصار ما أصبح يسمّى جهارا »التقليد اليهودي المسيحي« الذي يتأسّس على »حبّ الذات« و»الفردية« و»الحس العلمي« و»الأنانية« وهي الأفكار الأساسية التي انبنت ولازالت تنبني عليها الحضارة الرأسمالية الغربية.
إنّ الوطنية بوصفها حقل الصدام والتناقض تبدو محاصرة أشد الحصار من قبل »النظام العولمي الجديد« وهي مهدّدة في حالة اشتغال الحرب الفعلية بواسطة »الأذرع التكنولوجية الطويلة (62)« لأسلحة الدمار الإمبريالية المتطورة، أمّا في حالة »السلم« فمن خلال وسائط الثورة المعلوماتية العظمى التي انكشفت عن شبكة »إيشلون« ECHELON (63) للتنصّت على كافة الإتصالات التي تجرى عبر أنحاء العالم وحتى تلك التي تقع داخل المقرات الحكومية كما انكشفت عن هذا الغزو الثقافي المريع الذي يتمّ عبر الهوائيات والأقمار الصناعية والذي يدافع عن قيم استهلاكية تحاول الإمبريالية باستهتار وبمجون أن تدمّر بواسطتها كل المبادئ والقيم التي لازالت الأمم والشعوب تتحصن وراءها: فهي حرب من نوع آخر بل هي أدهى وأمر من الحرب الفعلية في تأثيرها.
ولكن هذه الوطنية التي تحاول الإمبريالية أن تهزمها بكل أسلحتها لازالت تثير لديها أشد المخاوف بل انّها ستبقى أنجع سلاح في مواجهة مشاريعها الهيمنية.
فالوطنية بصفتها هذه هي التي تجبر الإمبريالية على إجهاد نفسها يوميا لمحاولة شل حركة النخب الرافعة للوائها والجموع المتحصنة بحصونها، ومن الملاحظ ان الامبريالية تنفق فعلا كنوزا من المال والخيال والخداع من أجل تطويق وضرب عدوتها المعلنة: أي الوطنية، ولابد من الإشارة هنا ومع كامل الأسف إلى أنّ الإمبريالية وإن لم تربح الحرب فهي قد ربحت الى حدّ الآن معركة جزئية وذلك بإيقاعها ببعض المنتمين إلى نخب ما يسمّى بالمجتمع المدني في حبال شبكة المغريات التي تبسطها على امتداد الكرة الأرضية، فإذا يبدأ هؤلاء بالإتصال بالمنظمات المانحة للأموال للحصول على دعم لأنشطة الجمعيات غير الحكومية التي يشرفون عليها فإنّه يقع استدراجهم وبدون شعور منهم أحيانا كثيرة إلى قطع كافة المراحل الباقية.
أمّا احتكاكهم الطبيعي والضروري مع المنظمات غير الحكومية الدولية ذات العلاقة فإنّه يدخلهم إلى غاية مترامية الأطراف من العلاقات الخارجية قلما يجدون الوقت الكافي لتهجّي رموزها وأهدافها المعلنة فضلا عن المستترة وهكذا فإنّهم سرعان ما يتيهون في مسالكها الملتوية والمتشابكة والمعقدة.
إنّ العاملين في حقل حقوق الإنسان مثلا كثيرا ما يكشفون أنّ هذا الحقل تهتمّ به زيادة على المنظمات غير الحكومية الدولية جهات رسمية هي برلمانات الدول الغربية (64) والخلايا الحكومية الملحقة بوزارات الخارجية المعنية بالديمقراطية وحقوق الإنسان بتلك الدول (65) وهي جهات تعمل كلّها على إصدار »تقارير سنوية« عن أحوال »الحريات« بمختلف البلدان. وهكذا يندفع النشيطون في هذا الميدان عن وعي أو غير وعي مع التيار إلى أقصى مداه وإنّما تزيد في سرعة اندافاعهم وطأة القمع المسلّط عليهم من قبل السلطات المحلية ببلدانهم وكذلك عدم نضج الظروف الذاتية والموضوعية التي تمكن جماهير شعوبهم من مقاومة الإستبداد فيعمدون عندئذ إلى التخلّي عن إدخال هذه الجماهير في معادلات نضالهم، ويسقطون شيئا فشيئا في الفخ إلى أن يقع تثبيتهم في علاقات دائمة أو شبه دائمة مع موظفين بمختلف السفارات الغربية العاملة ببلدانهم وينتهون إلى تجاوز خط »الرجعة« ولا يمكنهم الخلاص بعد ذلك من الأوضاع التي تردوا فيها فيصعب عندئذ التفريق موضوعيا بينهم وبين من سلكوا السبيل عن وعي تام منذ البداية تحركهم أطماع متأصّلة في سلوكهم تجعل »كلّ منهم يبيع نفسه للأول الذي يدفع الثمن« (66).
وفي هذا الإتجاه كشفت دراسة أعدّها البريطاني »تيموتي ميتشيل« أنّ ما يسمّى برنامج دعم المؤسسات الديمقراطية الأمريكي ينفق على سبيل المثال حوالي عشرة ملايين من الدولارات سنويا بالبلاد المصرية وحدها وإذ يختفي هذا الغرض خلف شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان فهو لا يهدف في الحقيقة إلاّ إلى إدماج مصر في السوق الرأسمالية وإلى إنعاش الاقتصاد الأمريكي من خلال ذلك (67).
ولا يقف الأمر عند هذا الحد (أي حدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان) ذلك أنّه حتى الأطراف السياسية المعروفة تقليديا بعدائها للإمبريالية انطلاقا من مقولاتها النظرية العامة أصبحت لا تجد غضاضة في التأقلم مع هذه الأوضاع دون التخلّي عن مواصلة الثرثرة بشعاراتها القديمة في نفس الوقت، وهكذا فهي تمدّ أيديها لتقبل »التمويل الخارجي« مع مواصلة التبجح ظاهريا بالشعارات الوطنية المناهضة للطفيلية والخصخصة والإمبريالية على حدّ ما ذكرت مثلا سناء المصري في كتابها القيم »تمويل وتطبيع« (68) متحدّثة عن التنظيمات من ذلك القبيل الموجودة ببلادها.
وغير خاف هنا أنّ الإمبريالية ما كانت تهدف منذ البداية إلاّ إلى جعل العلاقة مع الساهرين بصفة رسمية أو غير رسمية على تنفيذ سياساتها تدخل في عداد الأمور المألوفة وهي إذ توسّلت لذلك بتعويد أفراد »المجتمع المدني« على أخذ الأموال من أي مصدر كان لتمويل أنشطتهم ثمّ استدرجتهم بعد ذلك إلى طرق أبواب المنظمات المانحة فالقنصليات، فالسفارات لعرض الدراسات والتقارير المرغوب فيها من قبلها حول مختلف شؤون أوطانهم فإنّ هدفها الحقيقي يتمثّل في جعل تلك الدراسات والتقارير تنتهي إلى »أدراج وكالات استخبارها« (69) ومقابل كل ذلك فهي توفّر »الحماية« لهؤلاء الأفراد عند تعرضهم الى القمع كما قد تنظر في طلبات »المساعدة« التي يتقدمون بها إليها لتحقيق »الأهداف« (أهداف من يا ترى؟) وصولا إلى تنصيبهم في مراكز القرار عند نجاحهم في كامل مراحل الإختبار.
إنّ مثل هذا الطريق هو الذي يراد من خلالها رئيسيا دفع النخب بكل البلدان إلى »التطبيع مع مختلف الأعداء وإلى »التسامح« إزاء كلّ الإعتداءات بل وإلى وضع النفس في »الخدمة« دون حياء في نهاية المطاف.
إنّ النداء بتدخل »المجتمع الدولي« (70) في الشؤون الداخلية للبلدان إذ يراد له بهذه الصورة أن يكون منسجما مع التغييرات التي تجرى الآن على الساحة الدولية وإذ لا يمكن للحكومات القائمة ان تعارضه بصورة حازمة مادامت تقرّ تلقائيا بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت »بمثابة محرّك الدفع بالنسبة الى بقيّة أنحاء العالم« (71) فإنّه من شأنه أيضا أن يدخل »السعادة!« عند تجسمه على مكونات ما يسمى بالمجتمع المدني باعتبار »التدخل الدولي« بعد أن عملت يد خفية على سد المنافذ هو بمختلف درجاته الطريق الوحيد الذي بقي مفتوحا أمام هذه المكونات لتجسيد »رغبتها في الزعامة« أو حتى »مجرّد اهتمامها بالشؤون العامة« مع التمتّع في نفس الوقت بدرجة من »الرفاهة« إزاء »العوز« ومن »الحماية« إزاء القمع (72).
وإذ بدأ يتضّح وبإعتراف منظري الإمبريالية أنفسهم أنّ »المجتمع الدولي« لا يمكن ان يتدخل »إلاّ على نحو يحفظ الهيمنة الغربية ويحمي المصالح الغربية ويروج القيم السياسية والاقتصادية الغربية« (73) فإنّ النداءات بتدخله تصبح مدانة مهما كانت الأغلفة التي تتغلّف بها وذلك صيانة لمستقبل الشعوب ووفاء لدماء الشهداء الذين ضحّوا بأنفسهم بالملايين من أجل عزّة الأوطان واستقلال قرارها، وما فعلوا ذلك عبثا.
وهكذا فمع توضّح أهداف الهيمنة بمناسبة تطور سياسات العولمة وعلى غرار ما وقع في عهد الإستعمار المباشر فإنّه لابد أن يقع الفرز بين المتواطئين مع السياسات الإمبريالية من المنتمين على حدّ السواء إلى النخب الحاكمة أو إلى نخب المجتمع المدني رغم تناقضهم ثانويا من ناحية أولى وبين المناهضين لهذه السياسات باسم شعوبهم وأوطانهم والرافضين للإنسياق في مساراتها من ناحية أخرى.
إنّ المخلصين لأوطانهم بصفتهم الورثة الوحيدين لشهداء معارك التحرير سيعرفون من خلال التجذّر داخل شعوبهم ومن خلال إيجاد الصيغ التنظيمية الملائمة كيف يخرجون الجماهير من دائرة الخيار التعيس بين الوطنية المزعومة والديمقراطية الموهومة وكيف يتأقلمون مع المعطيات الجديدة التي تفرضها مختلف التحوّلات التي يشهدها العالم اليوم وخاصة في ظلّ تطوّر فعاليات الثورة التقنية المتعاظمة حتى إذا دعا الداعي إلى تنسيق أكبر بين الأمم والشعوب في مواجهة المعضلات المطروحة فعلا على الإنسان فوق كوكب الأرض فإنّ ذلك يجب أن يتمّ لا بواسطة السياسات القسرية لرأس المال التي تعتدي باسم العولمة على مقدرات الشعوب وخصوصياتها وإنّما كما قال لينين بواسطة السياسات الأممية التي تعني »التحالف المقبول عن طواعية بين جميع الأمم..« أي »التحالف الذي لا يسمح بأي عنف تمارسه أمّة ضدّ أخرى« (74).
إنّ العلاقات الأممية هي العكس تماما من العلاقات العولمية وهي وحدها القادرة على خلق عالم جديد تثري فيه الأمم والشعوب بعضها بعضا بمختلف خصوصياتها فتضمحل عندئذ سياسات وحوش رأس المال والهيمنة الذين عملوا باستهتار على نشر قيم الإنحطاط والإنحراف والشذوذ وحولوا الأفراد إلى مجرّد ماكينات استهلاكية وسخّروا البحث العلمي لذلك الغرض متجاهلين ما راكمته الأمم والشعوب بمختلف ألسنتها وإسهاماتها الحضارية من قيم نبيلة عبر تاريخ طويل من التجارب الأليمة.
تونس في 2 جويلية 2000
الهوامش:
❊ / كتب هذا النص بتاريخه المذكور أسفله، وهو جزء من كتاب حول العولمة عرض على دارين للنشر الأولى منهما بتونس والثانية بلبنان لكنّه لم ينشر لأسباب مادية، وقد اطلع على مخطوطه بعض الأصدقاء بغاية إثرائه، وهو ينشر هنا تعميما للفائدة لأنّ محتوياته لا تزال راهنة، رغم أنّه لم يقع تحيينه.
1 / عبد اللّه واد ورد ذكر ما قاله في ركن: تيّارات »جريدة العرب العالمية 2000/05/31 ص 2
2 / مثال »بوكاسا« رئيس افريقيا الوسطى سابقا.
3 / مثال »الحبيب بورقيبة« أول رئيس لدولة تونس.
4 / مثال »حسني مبارك« رئيس الدولة المصرية.
5 / عبد اللّه واد نفس المرجع المذكور أوّلا أعلاه.
6 و7 / مقال صادر بجريدة ليبراسيون بتاريخ 10 ماي 2000 وقد غفلنا عن الإشارة الواضحة لاسم صاحب المقال لأنّ هدف هذا النص ليس التشهير بقدر ماهو النقد البنّاء.
8 / »مارغاريت تاتشر« رئيسة وزراء بريطانيا سابقا، ورد ذكر ما قالته بزاوية »مجرّد رأي« لعودة بطرس عودة بجريدة »العرب العالمية« 2000/7/20 ص 3 وهذا ما جاء على لسانها: »حتى ولو انسحب الجيش العراقي من الكويت فإنّنا مصمّمون على تدمير العراق وإعادته الى عصر ما قبل اكتشاف الآلة والكهرباء«.
9 / المقصود »نورييغا« حاكم باناما في نهاية القرن العشرين.
10 / »جان آرت شولت دراسة بعنوان« البنك العالمي يلتقي المجتمع المدني« مجلة »المال والتنمية« (Finances et Développement) 10 سبتمبر 1998 صفحات من 42 إلى 45.
11 إلى 16 / »وولفنسن« رئيس البنك الدولي للتنمية ورد ذكر ماهو منسوب إليه بمقال بعنوان: »الفساد يعيق التنمية« الصباح التونسية بتاريخ 1996/10/03 .
17 / الدكتور أبو حلاوة، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية دمشق عالم الفكر »المجلد 27 العدد الثالث جانفي مارس 1999، وقد جاء على لسانه ما يلي: »المجتمع المدني صيرورة تاريخي لها تعييناتها وتشخصياتها المعبّرة عن خصوصية المجتمعات التي عايشتها«.
18 / الصادق بلعيد، من مداخلة له في كتيب بعنوان »المجتمع المدني« وبه أشغال ندوة بهذا العنوان أشرفت عليها رابطة حقوق الإنسان بالبلاد التونسية. (ر د م ك): 3 29 729 9973.
196 و20 / عبد العزيز لبيب نفس المرجع سابق الذكر.
21 / برنارد دي ماندفيل ذكر ما قاله عبد العزيز لبيب بنفس المرجع سابق الذكر
22 و23 / جان آرت شولت نفس المرجع المذكور عاشرا أعلاه.
24 / عبد العزيز لبيب نفس المرجع المذكور بعدد 19 أعلاه.
25 إلى 30 / جان آرت شولت نفس المرجع المذكور عاشرا أعلاه.
31 إلى 52 / من حوارات منشورة تحت عنوان »إعادة الاستعمار بواسطة المعونة الإنسانية« جريدة »متضامن« (SOLIDAIRE) لسان حزب العمل البلجيكي.
53 / نفس المرجع المذكور 6 و7 أعلاه وقد جاء بالمقال ما يلي: »إنّ دولة قوية أكانت مستبدة أم ديمقراطية تشبه طاولة ترتكز بصورة صلبة على أربعة قوائم هي:
إيديولوجية قادرة على التجنيد / طبقة اجتماعية تهتمّ بشدّة بتواصل حياتها / قاعدة سياسية عريضية الى حدّ الإمكان / وعصا غليظة أو بوليسية في حالة ما إذا... والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماهو الفرق بين الدولة المستبدّة والدولة الديمقراطية مادامت المرتكزات واحدة؟
54 / كارل ماركس من كتابه »البيان«.
55 / فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب: »نهاية التاريخ والإنسان الأخير«.
56 / صموئيل هيتنغتون »صراع الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي«، ترجمة طلعت الشايب دار سطور القاهرة 1998.
57 / مهدي منجره الحرب الحضارية الأولى.
58 / صموئيل هيتنغتون نفس المرجع عدد 56 أعلاه.
59 / المقصود روجي غارودي مثلا.
60 / المقصود مثلا عبد النبي اصطيف، مجلة »الآداب« مارس أفريل 2000 »لنصدع بدعوة جديدة... لا لصدام الحضارات«.
61 / عمر كوش، نقد المركزية الغربية، مجلة »الآداب« المرجع 60 أعلاه.
62 / قائل هذه الكلمات هو الرئيس العراقي الحالي صدام حسين.
63 / تحدّثت كافة الصحف تقريبا في الأشهر الستة الأولى من سنة 2000 عن ظاهرة إيشلون.
64 / المقصود: الكونغرس الأمريكي، البرلمان الأوروبي، مجلس العموم البريطاني.
65 / يوجد بوزارة الخارجية الأمريكية مثلا قسم مكلّف بحقوق الإنسان والديمقراطية يتحمّل مسؤوليته نائب وزير، وقد صرّح هذا المسؤول عند زيارته لتونس حسبما أوردته جريدة الصباح ليوم 15 جوان 2000 بما يلي: إنّ القسم »يتابع ملفات حقوق الإنسان بما لا يقل عن 174 دولة صديقة« كما أعلن هذا المسؤول أنّه أجرى »محادثات مع الرسميين وممثلي الأحزاب والجمعيات غير الحكومية« أثناء زيارته المشار إليها.
66 / جان جاك روسو اعتبارات حول حكومة بولونيا ومشروع تحويرها. لاهاي.ب.ف. قوس ولوزان فرانسوا قراسي سنة 1783. ص 16 و17.
67 و68 و69 / تيموتي ميتشال ورد ذكره بكتاب »تمويل وتطبيع« لصاحبته سناء المصري نشر دار سينا المصرية الطبعة الأولى 1988 ص 39.
70 / المجتمع الدولي: جاء على لسان صموئيل هيتنغتون تعريفه كما يلي: »وعبارة المجتمع الدولي غدت اسما جميعا ملطفا مكان العالم الحرّ لمنح الشرعية العالمية لأعمال تعكس مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية الأخرى« (العودة إلى المرجع 56 أعلاه).
71 / كلمات لأحد رؤساء العرب، الزمان 12 جويلية 2000 ص 4.
72 / من وحي ما قاله مثلا عضو لجنة أمناء المنظمة المصرية لحقوق الإنسان: نجاد البرعي على الهواء مباشرة برنامج الاتجاه المعاكس لصاحبه فيصل القاسم قناة الجزيرة (النظائر) وقد جاء على لسانه ما يلي:
أوّلا: وهو يخاطب الأنظمة العربية: »إنّ الزمن الذي كنتم تستفردون فيه بالمواطن.
ثانيا: اعترف بأنّه كتب مقالا نادى فيه صراحة بتدخل المجتمع الدولي.
73 / صموئيل هيتنغتون المرجع المذكور 56 أعلاه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.