انطلق النوري بوزيد في أعماله السينمائية بما يعرف بشريط المخرج بشريطية «ريح السدّ»، «وصفائح من ذهب» في بداية قوية نسبيا ثم عاد الى هذه النوعية في شريط ما قبل الاخير «عرائس الطين». وفيما بين هذين وذاك «بزناس وبنت فاميليا» ولئن كان عنوان شريطه الاخر الفائز بجائزة التانيت الذهبي في الدورة الاخيرة للمهرجان «آخر فيلم» فإننا لا نظن انه قد القى بكل ما عنده... ينحو بوزيد في تقديرنا في اعماله الثلاثة المذكورة وهذا العمل الاخير منحى بنيويا ويميل الى الرمزية فيما يحاول من التجريب احيانا وقد توخى في هذا الشريط تقنية ما يعرف في قاموس السينما ب «شريط على شريط» «MAKING OFF وتتمثل هذه التقنية في الخروج عن السياق الدرامي المتخيل الى المعيش المباشر لاعتراض او موقف او فكرة مغايرة وتعرف بصفة مشابهة في الأعمال السردية والروائية خاصة لدى اعلام ومنظري الواقعية الجديدة بمبطلات التحليل النفسي والاجتماعي والايديولوجي وتمحيص «الفن للفن» أو اثبات «ادبية الادب».. ويبدو أن بوزيد قد اضطر الى توخي هذه التقنية في تناول قضية خطرة وحساسة جدا يجوز وضعها في خانة «الثالوث المحرم» تتعلق بالدين والسياسة والحكم وذلك في اطار ما يجري حاليا على الساحة الوطنية والاقليمية والعالمية من الصراع العنيف بين الغرب والمسلمين نعني... الامبريالية والصهيونية الصليبية الجديدة فيما يسميه الغرب ب «الارهاب الاسلامي». والواضح ان بوزيد قد ركب هذه التقنية لتزيل الرأي والرأي المخالف: (رأي المخرج ورأي الممثل والمتلقي) على معنى ان رأي بوزيد كان على مستوى كتابة السيناريو والاخراج للشريط انما هو فرد ضمن الفريق الذي قام بإنجاز هذا الشريط والمتلقين له ايضا.. ولو نجوزا بحيث يضع مفهومه اللائكي للدين وموقفه من الحركات السياسية و»النضالية» الاسلامية عامة موضع نقاش فكري يتقابل مع مفاهيم ومواقف اطراف تشاركه في نفس الانجاز لذلك العمل... وذلك ما قد يحمي الشريط فنيا وأدبيا من التوظيف او المتاجرة. أجل لقد اوقف المخرج عجلة الصراع الميلودرامي فجأة وتصدى للبطل (لطفي العبدلي) في ضراعة وتوسل لاقناعه بمواصلة تشخيص الشريط الثاني الموازي او النقيض للاول الذي شخصه البطل (الطيش والعربدة والخمر والرقص، والفنيات والتمرد، إلخ) فيما ترك له الفرصة في سلاسة للتعبير عن رأيه المناقض والمناهض لرأي المخرج وقناعته بأن الاخر يأتي نفس الصنيع وبأدوات ووسائل أشد ضراوة تحت غطاء الديمقراطية وحقوق الانسان.. وفي لهجة حادة لا تخلو من إحتقان... مما قد يستجيب الى ما يسعى إليه المخرج من اثبات الشراكة بينه وبين البطل في انجاز الشريط. فإلى أي حدّ يمكن ان توفر تلك البنية المباشرة بين الشريطين بوجهيهما المتناقضين من حظوظ التوازن والموضوعية وبالتالي الاقناع الفني والفكري والجمالي. أجل ان بطولة الشريط كانت محورية وقد ادرك البطل قمة الامتياز في القيام بدوره في الشريط الاول ونال جائزة احسن ممثل بجدارة واضحة قد ترجح حصول التوازن بينه وبين المخرج على مستوى الابداع ولكن المخرج وصاحب السيناريو قد انقلب عليه في الشريط الثاني فقد كان صاحب الشريط يمثل خطة اعدها المخرج اذ بدا البطل مسلوب العفوية والتلقائية والتوهج الذاتي على نقيض ما كان عليه في الشريط الاول ولم يجد دفاعا عن نفسه في تدخلات مباشرة ناقما اومستنكرا لما وضعه فيه صاحبه من التهشيم للذات... يجلس في خشوع بين يدي ذلك الداعية يتلو القرآن في المقبرة ويقبض مبالغ مالية مقابل التزامه... وفي خضم هذا النجاح والسجال يجف نسغ الوجدان ويتخشب الصراع الميلودرامي ليسطو الاسقاط والتوظيف وتذوي اشراقة الفن وتتوارى جماليته ويذهب الزبد في الرغى... ويتمثل الاسقاط في تسريب نفس الصورة التي يحملها الغرب واليسار المتطرف عن تلك الحركات الاسلامية في مفهومهم للدين وتلقينه وتوظيفه ومنهجهم في استقطاب المريدين واستخدامهم الحركي والسياسي وبالخصوص في المنازلات «الاستشهادية» فيما اسماه الغرب ب «الإرهاب الاسلامي» اذ يصر الغرب على عدم اعتبارهم «فدائيين» لأوطانهم ودينهم وحضارتهم بكل ما لديهم حتى حياتهم وينفي عنهم تأصل العقيدة وعمق الوطنية ويغزو ما يقدمون عليه من التضحية الى الخصاصة واليأس من الحياة وكون الفاعلين هم مؤجرون مسبوقوا الدفع وتلك صورة البطل حرفيا في هذا الشريط حيث استغل ذلك الداعية سحقه الاجتماعي وكان يفكر في «الحرق» لذلك الواقع الذي يكابده شخصيا وعائليا ودفع له مالا شجعه المخرج على تسلمه لتنطلي الخطة... وتجذيرا لهذه الصورة يعمد المخرج الى ابراز صورة الشيخ اسامة بن لادن في إطار يشبه الوحش ويرشق المقاومة العراقية بسهام تهكمية وكأنما يتعمد عدم التفريق بين المقاومة الشرعية الباسلة والارهاب الايراني والصهيوني المندس وعملائهما من الغوغاء في العراق وما حوله حيث يتماهى مطلقا مع خطاب الاحتلال الغربي والصهيوني. واعتقادنا أن لذلك الإسقاط وظيفة وثمنا هو فتح الطريق لتوزيع الشريط ثم الوقوف على عتبات «هوليوود وكان» وحتى «البندقية» وغيرها. إن هذا الشريط يشخص الى حدّ كبير ما رأينا من «واقع سينما الجنوب» أو الكثير منها، فهناك حرفية وجمالية وتطلعات تجريبية تدنو من العالمية ولكن قل أن تسلم من أدواء تنخرها من الخارج ومن الطريف ان تكون لجان التحكيم على المقاس غالبا كإدارة المهرجان...