علي خلاف ما كان متوقعا تمت المصادقة بعد ظهر الجمعة 30 ديسمبر 2011 على مشروع قانون المالية لسنة 2012 في وقت قياسي ودون النظر بشكل مفصل كما جرت العادة في مختلف ابواب الميزانية. وقد بدا لكل المتابعين لمداولات المجلس التأسيسي ان المنطق الذي حكم النقاشات بين الاغلبية المشكلة للحكومة والاغلبية المعارضة لم يتغيّر عمّا ساد خلال مناقشة القوانين المنظمة للسلط العمومية رغم اهمية موضوع النقاش وهو المشغل الاقتصادي الذي سيقرر مستقبل البلاد، وجاء التصويت استنساخا للمداولاة السابقة، حيث وافق 137 نائبا واحتفظ 38 نائبا واعترض نائب واحد وهي نفس النسبة التي صودق بها علي الإعتمادات الخاصة بأبواب ميزانية الدولة. السيد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي برّر هذا التسرّع في النظر والمصادقة علي الميزانية بالظروف التي تعيشها البلاد وبحجم التحديات المطروحة على الحكومة مرجئا النقاش في المواضيع والمحاور التي اثارها بعض نواب المعارضة باستثناء الفصول 17 و39 و40 و50 إلى وقت لاحق. أهميّة مناقشة الميزان الاقتصادي وقانون المالية المقترح من قبل الحكومة لسنة 2012 لا تتأتى فقط من كونها محاولة لتدارك سياسة اقتصادية وضعتها حكومة مؤقتة لا تحضى بالشرعية ولا تعكس الثقة التي وضعها الشعب يوم 23 اكتوبر 2011 بانتخابه للمجلس التأسيسي الذي اختار رئاساته الثلاثة وصادق على الحكومة وإنّما باعتبار السياسة الاقتصادية المقترحة كان من المفروض ان تأتي انعكاسا لارادة الشعب وتحقيقا لاهداف ثورته التي مثل الجانب الاقتصادي والاجتماعي اهم الاسباب المباشرة لاندلاعها للقطع مع منظومة اقتصادية كرست اللاتوازن التنموي بين الجهات والاجحاف الاجتماعي والتهميش والبطالة والاثقال الضريبي لكاهل الاجراء وكافة ابناء الشعب. الاتحاد العام التونسي للشغل تنبّه الى الخطورة التي تضمنها مشروع الميزان الاقتصادي وقانون المالية لسنة 2012 الذي صاغته حكومة الباجي قايد السبسي وتبنته الحكومة المنتخبة مع بعض التعديلات الهامشية التي لا تمس من جوهره المكرّس لنفس السياسات الاقتصادية القديمة فكان ان نظم ندوة اشرف عليها قسم التشريع والنزاعات والدراسات والتوثيق يومي 12 و13 ديسمبر 2011، تضمنت عدّة مداخلات لاساتذة وخبراء في الاقتصاد هم على التوالي: الاستاذان سامي العوادي وسنية النقاش والاستاذ معزّ حسيون والاستاذ والخبير حسين الديماسي نضع بين يدي قراء جريدة الشعب أهم ما جاء فيها. ❊ الميزان الاقتصادي: الظروف التي قادت صياغة الاختيارات وهي عبارة عن ظروف عامة وخارجية حوصلها المحاضران سامي العوادي وسنية النقاش في: مخلفات ثورة 14 جانفي الاقتصادية تمادي الاضطرابات في ليبيا. انعكاس الازمة الاقتصادية في أوروبا على الاقتصاد الوطني. احتمال اتباع هذه الدول سياسات تقشف تنامي جاذبية البلدان المنافسة لتونس في مجال الاستثمار الخارجي. عودة سعر النفط للتصاعد وتذبذب سعر اليورو. وظروف داخلية حوصلها المحاضران في: بلوغ نسق النموّ خلال الثلاثي الاخير من 2011 نسبة تقارب ٪10. تسجيل الاقتصاد التونسي اعلى نسب تراجع في قطاع السياحة والنقل والمناجم. تسجيل مؤشر الاسعار بوادر ارتفاع قد تصل حدود ٪4.5. ارتفاع اسعار بعض المواد الاساسية. تراجع الاستثمار بنسبة ٪5.5. فقدان 5900 موطن شغل نتيجة غلق عديد المؤسسات الاجنبية. تفاقم ظاهرة البطالة التي وصلت نسبتها ٪18 (٪24 منها في اوساط حاملي شهادات التعليم العالي ٪40 في المناطق الداخلية (قبلي، قفصة، سيدي بوزيد وجندوبة). منحة أمل التي شرعت في تطبيقها الحكومة المؤقتة انتفع منها 147.000 عاطل في اوت 2011. تدني نسبة الاحداثات الصافية لمواطن الشغل خلال 2011 والتي بلغت 16.000 موطن شغل. مناخ الاعمال من وجهة نظر اصحاب المؤسسات الذي اعتبروه لا يساعد على الاستثمار الداخلي. ❊ الخطوط العريضة لمنوال التنمية لسنة 2012: تمثلت بحسب المحاضران في عديد الخطوات المزمع تحقيقها وهي: تحقيق نسبة نموّ تقدّر ب ٪4.5 والسعي الي اعادة الثقة للمتدخلين. اعادة التوازنات العامة للاقتصاد التونسي. دفع التنمية الجهويّة والترفيع في نسبة الاستثمار الى حدود ٪24.9 من الناتج الداخلي الخام. استحداث ما بين 75.000 و80.000 موطن شغل جديد تفعيل اتفاقيات التعاون الفني مع الخارج. عدم تجاوز العجز التجاري بنسبة ٪5.2. دعم البنية التحتية بالجهات المحرومة قصد تطوير جاذبيتها للاستثمار الخاص. التعويل على استعادة العافية لقطاعات النزل والمقاهي والمطاعم وقطاع النقل والمحروقات والفسفاط وتكنولوجيا الاتصال والفلاحة والصناعات المعملية. أمّا بالنسبة للتمويل فقد ورد بالميزان الاقتصادي: التعويل على استعادة العافية لقطاعات النزل والمقاهي والمطاعم وقطاع النقل والمحروقات والفسفاط وتكنولوجيا الاتصال والفلاحة والصناعات المعمليّة. أمّا بالنسبة للتمويل فقد ورد بالميزان الاقتصادي: التعويل علي الإدخار الداخلي وعلى الاستثمار الخارجي. تعبئة موارد خارجية في شكل هبات وقروض عمومية وسندات دولة. العمل على خفض نسبة التداين. ❊ نسق نموّ غير واقعي وغير كاف بعد استعراض المحاضران لاهم الفصول التي وردت في الميزان الاقتصادي خلصا إلى جملة من الملاحظات تؤكد أن نسق النموّ كما تم عرضه بالميزان الاقتصادي غير واقعي وغير كاف أمام تحديات التشغيل وعجز الميزانية، اضافة إلى ضعف فرضيّة تعافي السياحة ويعود ذلك الى عدم وضوح المناخ السياسي والى تخوّف الفاعلين بالقطاع وتواصل الانفلات الامني. وأكد المحاضران ان فرضيّة نموّ الصناعات الكيمياڈئية لا تستقيم دون مواجهة مشاكل قطاع المناجم وتعويض الخسائر الفادحة لشركات الفسفاط كما لاحظا ان نموّ الصناعات المعملية مرتبط بنسق التصدير المرتهن بدوره بالاقتصاد الاوروبي المتباطئ وتوقعا عجزا في الميزان الاقتصادي يصل 7 ٪ في حين ذهب المشروع الي توقع نسبة ٪5.1 وهو ما ينذر بحسب رايهما باشتداد الضغط على هامش تحرّك الدولة في التدخلات الاجتماعية والاقتصادية. كما أرجعا تفاقم معضلة التشغيل إلى سنة 1986 حين تخلت الدولة عن كل تصور استراتيجي في هذا الشأن مقتصرة على التخصّص في اجزاء من الصناعات المشغلة لليد العاملة البخسة وذات المحتوى التكنولوجي الضعيف والقيمة المضافة المتدنية. اما فيما يخص حظّ التنمية الجهويّة وهي من أوكد مطالب الثورة وخاصة في الجهات الداخلية المحرومة ولعقود من فرص التنمية العادلة فقد أكدّ المحاضران على وجود ضبابية في وصف المشاريع وكلفتها واعتبرا ان الحوافز الجبائية المقررة في هذا الميزان ليست العامل المؤثر والحاسم في قرار الانتصاب بالمناطق المحرومة، واكدا في مقابل ذلك علي ضرورة تكريس الديمقراطية المحلية وتوفير البنية الاساسية. وفيما يخص السياسات القطاعية المقترحة في هذا الميزان فقد خلص المحاضران إلى التأكيد على وجود جملة من العناصر فيها تبرهن على اعادة انتاج نفس المنوال الاقتصادي التنموي لما قبل الثورة وهو ما يتطلب بحسب رأيهما اتباع رؤية جديدة قائمة على الحوار والتشاور والمشاركة تقطع مع المنوال القديم الذي ساد ما قبل الثورة. ❊ قانون الماليّة نفس القانون المقدم لمجموعة الثمانية: في قراءة لقانون المالية المقترح لسنة 2012 اكد الاستاذ معز حسيون في مداخلته علي ان هذا القانون يعد امتدادا لنفس التصوّر الذي تم اعتماده وتقدميه من قبل الحكومة الانتقالية لمجموعة الثمانية ولنفس الاجراءات التي جاء بها قانون المالية التكميلي لسنة 2011. وبين الاستاذ المحاضر ان هذا المشروع لا يرتقي الى مستوى الانتظارات وهو غير قادر على مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد التونسية لكونه شبيها بقوانين المالية السابقة وهو ما يؤكد ان تصورات السلطات العمومية لم تعرف ثورة في هذا المجال. ورغم ان الميزانية بنظره قد عرفت ارتفاعا على مستو ى المبالغ المتوقعة بالمقارنة مع سنة 2011، فإن هذا الارتفاع في المداخيل والنفقات لم يكن متناغما وذلك من خلال جملة من المؤشرات حيث: حافظ قانون المالية لسنة 2012 على نسق تطوّر الضرائب غير المباشرة. تطوّر الضرائب المباشرة على الدخل كان أكبر من الضرائب على الشركات مما تعني تواصل اللاتوازن بين هاتين الضريبتين تحمل الاجراء للجزء الاكبر من العبء الجبائي بحوالي 80 ٪. ارتفاع نفقات التصرّف على حساب نفقات التنمية. ارتفاع فوائد الدين العمومي غلبة الاجراءات الكلاسيكية المتعلقة بتمادي تمتع المؤسسات الاقتصادية ببعض التشجيعات والحوافز على الاجراءات المصاحبة للميزانية. جمود الاستثمار وعدم تفعيل مبدأ العدالة الجبائية. اقرار اعفاءات جبائية من شأنها الحدّ من موارد الدولة وهو تكرار لمنوال قديم يؤدي إلى تشجيع المطالبين بالضرائب على التهرّب الجبائي وعدم التصريح. خسارة الخزينة العامة من اقتراح مشروع المالية إلغاء بعض المعاليم مثل المعلوم على السفر. محدودية الانتفاع من الصنف الاخير من الاجراءات المقتر حة والمتمثلة في دعم التمويل الاسلامي عبر بعض الاعفاءات التي وقع اقرارها لفائدة عقود الايجار المالي لعدم وجود بنوك ومصارف اسلامية في تونس (باستنثاء الزيتونة). وقد اقترح الاستاذ المعز حسيون ضرورة الالتزام باتخاذ جملة من الاجراءات التصحيحية عبر قانون تكميلي خلال سنة 2012 والقيام بمراجعة جذرية للنظام الضريبي لجعله اكثر عدالة ومقاومة لجيوب التهرب الضريبي وخاصة مراجعة الحوافز والتشجيعات غير المجدية. ❊ المديونية: بداية النهاية لكل دولة التداين للاستهلاك وليس للاستثمار تطرّق الاستاذ حسين الديماسي في مداخلته حول «تداعات المديونية على السياسية الاقتصادية والاجتماعية في تونس» الى ثلاثة محاور رئيسية وهي حالة الدين العمومي الى حدود 2010، تطوّر الدين العمومي سنة 2011 وإلى تطوّر نفقات الدولة بين 2010 و2011 وابرز ان الدين العمومي قد بلغ الي حدود 2010 ما يقارب 25.6 مليار دينار (40 ٪ من الانتاج) منها 15.5 مليار دينار دين خارجي ما نسبته 60 ٪ من الناتج الداخلي الخام، و10.1 مليار دينار دين داخلي ما نسبته 40 ٪ من الناتج الداخلي الخام. وقد تبدو بحسب رأيه نسبة مجمل الدين العمومي ظاهريا غير مشطّة غير انها تعكس سياسة اقتصادية تمثلت في لجوء الدولة منذ سنين الى صيغة «اللزمة» لانجاز المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الكبرى خاصة وان القسط المهم من الديون العمومية الخارجية متأتية من السوق المالية بما نسبته (35.9 ٪) وهي ديون قاسية الشروط نسبيا لكونها باهضة سعر الفائدة وقصيرة مدة التسديد وهو لا يعني ان القروض العمومية الداخلية أقل قسوة بل انها اشد وطأة مقارنة بالقروض الخارجية خاصة وان سعر الفاڈئدة عليها يفوق 6 ٪ وتتخذ اقل من عشرة سنوات كمدّة تسديد (تقريبا 9.7 سنوات). ووضّح أن مصادر الدين الخارجي تتمثل في الدين الثنائي، الدين متعدد الاطراف والدين على السوق المالية العمومية اما مصادر الدين الداخلي فتتمثل في رقاع الخزينة القابلة للتنظير، ايداعات الخزينة العامة ومصادر اخرى، تتفاوت من حيث الحجم والنسب ومن حيث معدل سعر الفائدة. ثم تناول الاستاذ الديماسي تطوّر الدين العمومي بالنسبة لسنة 2011 حيث تضخّم حجم تداين الدولة بشكل مذهل ليتضاعف ب2.7 مرات بين سنة واخرى اذا بلغ ما يقارب 5 مليار دينار سنة 2011 مقابل 1.9 مليار دينار سنة 2010 وقد تأتى الدين العمومي سنة 2011 من الخارج بنسبة 75 ٪ ومن الداخل بنسبة 25 ٪. وقد سجلت نفقات الدولة لسنة 2011 تصاعدا مذهلا، اذ تزايد حجمها بما يفوق 3.5 مليار دينار اي بنسبة تقارب 20 ٪ ويعود ذلك الى ثلاثة اسباب وهي: التهاب اسعار المواد الغذائية المدعمة والمحروقات تعويض الاضرار الناتجة عن احداث الثورة والامتصاص المصطنع لجزء من البطالة. تحسين الاجور في الوظيفة العمومية. وخلص الاستاذ الديماسي في اخر مداخلته إلى الحديث عن آفاق المستقبل اذا ما استمرّ الحال على ماهو عليه مبرزا انه سيؤدي الى: احتداد الضغط الجبائي خصوصا على الاجراء. ارتفاع هام في اسعار المواد والخدمات المدعمة من طرف الدولة. انغماس الدولة في التداين لا بغاية الاستثمار وبالتالي نمو ثورة البلاد وانما للاستهلاك. واكدّ ان هذا الوضع من شأنه ان يؤدي الى اثقال كاهل الابناء والاحفاد بحمل تداين لا يطاق.