في خضم صراع الانسان ضد الطبيعة كان هاجس مقاومة الحرّ والبرد شديدا فالتجأ الى أوراق الشجر وأغضانها يلتحفها مساهمة أولى في حل المشكل / القساوة التي سلطتها عليه الطبيعة. وأثناء تطور مكتسباته المعرفية الناتجة اساسا عن التجربة اكشتف أهمية جلود الحيوانات بوبرها وصوفها ككساء يفيد أكثر من سابقه ثم راح يبدع في فن الملبس ارتباطا بالاكتشافات والاختراعات التي تمكن منها ذلك انه لم يكتف بالخضوع الى الضرورة بل انتقل الى مرحلة اخرى ترتقي به الى معانقة الوجود والتنعُم به فكان فن الهندام الذي ارتبط خاصة بمستويين على الاقل هما الوسط الطبيعي والمدى الحضاري الذي وصل اليه فاختلف اللباس من مكان الى آخر ومن حضارة الى اخرى... اللباس جزء من ثقافة الانسان وحضارته واللباس في عمقه لا يقتصر على الثياب بل له صلة بالمسكن ووسائل التنقل وطرق العيش، لذلك مرّ بتغيرات جوهرية فرضها نمط العيش الذي يخضع الى انجازات الانسان في صراعه ضد الطبيعة. لقد ساير تطورا الملبس تطور القوى المنتجة ووسائل الانتاج اذ لا يعقل ان نتعامل مع المصانع وقيادة الطائرات والسفن البحرية والمخابر العلمية بأنماط اللباس القديمة هذا فضلا عن المثاقفة بين الشعوب فالعالمُ كلهُ اصبح اليوم قرية صغيرة بفعل تطور وسائل النقل والتكنولوجيا الحديثة. أيعقل بدعوى التفرد بالمحافظة على اساليب العيش كما حددها (وهذا وهم) التراث الاسلامي القديم ان نرفض المثاقفة بين الشعوب في الاكل واللباس والتنقل والتمتع بخيرات الطبيعة التي صارع الانسان مئات الالاف من السنين حتى يطوعها لصالحه؟ أيعقل ان نرفض اللباس العصري والتنقل العصري واستعمال وسائل العيش والترفيه على اساس انها غير موجودة ايام عز الحكم الاسلامي الغابر أولا وثانيا انها من خلق الفرنجة ثانيا؟ طرق العيش القديمة ووسائله المستعملة مرتبطة بوسط بيئي معين وتطور حضاري محدود، اللباس القديم الذي تدافع عنه اليوم مرتبط بثقافة ذاك الزمان، بثقافة السيف ورعي الابل والمواشي والخيام والجدران ذات النمط القديم. ان المرسديس والبوينغ والسفن البحرية المتطورة تمثلها سابقا وفي ذلك الزمن الجمال والافراس والبغال والحمير. أيعقل أن نتخلى عن وسائل النقل الحديثة ونسترجع الاولى الغابرة؟ أيعقل ان نتغذى بالتمر والعسل ولحم الخرفان ونتداوى بها ونحن في زمن أمراض ضغط الدم والسكري والكوليسترول؟ ورد بالقرآن «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة» تلك هي وسائل النقل القديمة وكانت تزيّن للراحة النفسية. تقلل من وعثاء السفر الطويل وعرف عن الرسول الطيب، وحتى عمر بن عبدالعزيز وقبل توليه منصب الخلافة ما أهمل حسن اللباس. قال أبو يوسف يعقوب بن ابراهيم : وحدثني بعض شيوخنا الكوفيين قال: قال لي شيخ بالمدينة: «رأيت عمر بن عبدالعزيز بالمدينة وهو من احسن الناس لباس..» كتاب الخراج ص 19. وهذا من معانيه ان الاسلام في أوله دعوة الى التمتع بالطيبات وحسن استغلال ما يطوره الانسان من طرق العيش وأساليبه. إن عمق الجاهلية هو رفض قطعي للجديد ومناصرة شديدة للقديم وها هي الجاهلية الجديدة تسبح في مياه التنشئة الاولى فتصارع اليوم لاسترجاع قديم زمن غابر رافضةً كل جديد في صالح الأنسنة.