هاجم أبو طاهر الجنابي الحجيج في فجاج مكة في الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) وقتّلهم قتلاً شنيعا ثم دخل البيت الحرام فقتل أمير مكة وكان أن عرّى البيت واختتم فعله بحمل الحجر الأسود الى هَجر بالبحرين. وكان أن دخل قرمطيّ الى حاشية الطواف سكران على فرس بال عند البيت وضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم اقتلعه (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة). وبقي الحجر الاسود هناك الى ان أرجع في ايام الخليفة المطيع. وكان ان هدم خالد بن عبد الله القسري جميع المآذن التي طالتها يده بعد ان أنشد السري بن عبد الرحمان متماجنا: ليتني في المؤذنين حياتي إنهم يبصرون من في السطوح فهجاه الفرزدق: بنى بيعة فيها للنصارى لأمهِ ويهدم من كُفر منارَ المساجد (عن جمال جمعة). ... وكم من كتاب أُتلف وكم من مكتبه أُحرقت.. همجية ساسة المغول وان سبقوهم في الفعل... الفلسفة ممنوعة... الفنون ممنوعة... حتى الحكي ممنوع.. ببساطة مُحرّم معانقة الوجود. ذكّرنا أبو طاهر ومن ماثله وان اختلفت الاهداف بالمروي عن حكاياهم بما تعيشه اليوم في وطننا تونس. أحرقت قاعة افريكا للسينما بالكلام البذيء. أهين النحت في شارع بورقيبة واقتُحمت كليات الجامعة التونسية مصاحبة باقتحام المساجد و... و... وتوج الحراك بمكثر التي شهدت حرق قبر منصف الطبيب في تسعينات القرن الماضي. وبئر علي بن خليفة التي ذاقت كل انواع المرّ. ليعنف النوري بوزيد وسليم ساسي وغيرهما، ولكن المس بالسيد الحبيب الكزدغلي مسألة أخرى، ان يعنف باعتباره معارضا مثلما كان تلميذا او طالبا او استاذا لهان الأمر لأننا تعودنا تسليط العنف على اليساريين علما انه في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كان مدافعا عن الاسلاميين فاتهم باليمينية لأن الاخوان كانت لهم أنشطة مع محمد الصياح مدير الحزب الحاكم (لقاء دوز سنة 1973) ولعلاقتهم بالحكومة (وأساسا محمد مزالي) وما شابه ذلك. اما ان يكون عرضة للفظاعة وهو عميد كلية منوبة فلذلك دلالات عميقة تؤكد الضّرّ بوطننا حاضرا ومستقبلا زيادة على نسف الحيّ من ماضينا. قدّم الفكرُ المتخلف الجزيرةَ العربية منطقةً تفتقر الى الثقافة الانسانية ولكن التاريخ والوثائق يفندان. كما حاول نسف تاريخ افريقية وشمال افريقيا رغم ان ساكنهما الاول نعت نفسه بالانسان الحر. ان الشعوب تتطور لا على اساس القوى المنتجة وعلاقات الانتاج فقط وانما على البنية الفوقية ايضا والثقافة والفكر والتعليم واحدة من ركائزها الاساسية. والفكر القروسطي بسلوكه الهمجي لا يقيمُ اعتبارا لعموم الثقافة التي تحاول ان تطور من ذهنية الانسان دون توقف لذلك كان التشنيع فظيعا بالانسان المفكر والمبدع قديما وحديثا. إن ما تعرض له الكزدغلي ليس بجديد اذ سبقه في ذلك الدكتور علي الحيلي عميد كلية العلوم وعلى يد نفس التيار السياسي وان تبدلت الاسماء، ولكن هذا السلوك الذي يرمي بمكانة المدارس والمعاهد والكليات ومؤسسات الثقافة عرض الحائط يتطور نحو الاشد فظاعة. لقد وصل بهم الامر الى انزال علم تونس وتعويضه بآخر غريب عنا ومستورد من غيرنا وتعنيف فتيات دافعن عنه رافضات علما قروسطيا يعوضه. أيستطيع مواطن في البلدان ذات الحرية السياسية ان يقدم على مثل هذه الجريمة؟ لن يكون ذلك ابدا لان مؤسسات الدولة لن يهدأ لها بال حتى يقع القبض على الجاني لتقديمه الى المحاكمة، ولكن مؤسسات الحكومة الوقتية تتحرك باحتشام والمجرم طليق بل وتجد له أعذارا من هنا وهناك، السبب بسيط لأن الحكومة حكومة التفاف على الثورة. من واجب مكونات المجتمع المدني الباحث عن الحرية السياسية الفعلية والاحزاب الديمقراطية والوطنية أن تولي للتعليم والثقافة والبحث العلمي المكانة التي تؤكد التمسك بالمعارف العلمية التي تطوع الانسان والطبيعة في آن واحد لصالح الانسان الواعي، ان طبقات مجتمعنا وفئاته المضطهدة يمكن ان تتحمل الجوع، جوع البطن والاعضاء التناسلية لكن جوع الفكر لا يحتمل أبدا فناشئتنا وشبابنا هم أثمن رأسمال فعليّ عندنا، فلا نضيّع هذا الرأسمال الاهم الذي لا يقدر بثمن.