كم أحتاج اليوم إلى بداخلي وإذكاء جذوته من جديد بعد أن هبط بغتة لحظة خرّ العلم من عليائه لترفع رايات سود... خفت من أن تعتري سماء بلادي غيوم مكفهرّة و سحب تحجب الأفق الممتدّ وتغشّي زرقته لتلقي به في سراديب الظلمة و تجعل الغربان تنعق في ضيقه من شدّة الظلام خفت أن تتحول بطحاء حيّي مرْتع الصّغار وملعب الكبار يوم الآحاد, إلى ساحات جلد و رجم ترشق فيها الأجساد و تكتوي الظهور العارية بسياط سليط يقتات من جلود البشر خفت أن يعمنّا دخان أسود... مقيت يحجب الرؤية و يخنق, الخيال حتّى تغرق الحواس في برك السواد تغرق... تغرق... حتى يصيبها الدوّار وتعجز عن التنفّس... خفت أن تقاطع الخطاطيف و الحساسين سماء بلادي, وتبدّل الطيور المهاجرة خطّ سيرها السنوي إلى مناخاتها الدافئة إلى أخرى لتظلّ سماء وطني حزينة تضجّ بنعيق البوم و أطياف غربان سود تنذر بالشؤم خفت أن تتحوّل أسيجة المدارس والجامعات و حتّى المنازل....إلى أسوار إسمنتية شاهقة تحترف الفصل العنصري وترفع شعار «الذكر ذئب لأخته الأنثى» فيكبر ويكبر ذاك الذئب...حتّى يتغوّلَ وينهش بأنيابه الحادة, قيم المواطنة و المساواة ويضرب عرض الحائط أيّ حديث عن ذاك الرقيّ الإنساني التثاقف الذي يجمع المرأة و الرجل في رحاب و التحاور و العمل المشترك... خفت أن ينظر إلى بنات جنسي ككينات شيطانية وجب لجمهنّ في بيوتهنّ حتّى لا يُشِعْنَ الفتنة و يحرّكن الغرائز و الشهوات و يعطّلن عجلة السعي في الحياة.. !!! وهنّ اللاتي ملأن ساحات النضال الاجتماعي ونهلن من أنهار المعرفة فكنّ ولازلن ذاك الصرح الشامخ يرشح عملا وعلما وحضورا مشعا رغم أنف الناقمين وعقد المرضى والمهووسين هنّ الفلاحات اللاتي نمت على أيديهن غرس البلاد ورَوَيْن بعرقهن أرض الوطن فأزهرت تحت قدمهنّ قَواحِلُ, وتفتّقت بصبرهنّ عقول شباب أنارت هذا البلد هنّ...نساء بلادي, من عمق الشمال وأقصى ا لجنوب وحيث ولّيت وجهك, مازلت تراهن يوقدن النار في حطب حملناه وَهَنًا على وَهَن ٍ حتّى تقوّست ظهورهنّ و لا يبالين... لأنهنّ الكادحات اللاتي يصنعن الغد بجهدهنّ و نضالهنّ اليومي هنّ العاملات والجامعيّات والطالبات, اللاتي يشيّدن بالفكر والسّاعد صروح هذا البلد و يقفن سدّا منيعا أمام قوى الظلامية التي تعشش في الكهوف كالخفافيش, لا يرى المرأة إلا مصدر غواية وشهوة كأنها مخلوق من درجة ثانية لا عقل لها ولا دور سوى إشباع رغبات فحولته ودون ذلك تُضرَبُ حولها الأسوار العازلة و تغلّق النوافذ و الأبواب كأنها الطاعون.... لا زلت أتذكر تلك المرأة التي استوقفتنا و نحن نحثّ الخطى في شارع الحبيب بورقيبة في أحد جمعات الغضب التي شنّها السلفيّون على «قناة نسمة» في شهر أكتوبر من العام المنقضي و الدموع تنهمر من عينيها كأنها الهاربة من زخف التتار قائلة :أنفذن بجلودكن حتّى لا تتعرضن إلى الضرب مثلي. استشاطت أحد رفيقاتي غضبا قائلة : «أين كان هؤلاء مختبئين زمن سنوات الجمر» حين كن ّنحمل مع غيرنا لواء ألاء دون خوف أو رهبة من ترسانات العنف وبطش البوليس الملوّح بعصاه الغليظة وهو يطوّق ساحة محمد علي معقل النقابيين و النقابيات... أين كانوا لمّا ملأت المسيرات الشوارع قبل 14 جانفي وضجّت الحناجر بشعارات الحرية و الكرامة دون توقف, اصطف فيها الرجل إلى جانب المرأة على حد السواء على أساس المساواة في المواطنة وحقهما المشترك في البناء والتشييد . أين كانوا ؟؟ لعلهم كانوا في الكهوف ينتظرون إلى أي المآلات ستنزلق الثورة حتّى يعرفوا حين يخرجون من أين تأكل الكتف !!!!! يضجّ داخلي بهواجس حارقة سببها ذاك الاستهداف المقيت للمرأة وكأنها الحلقة الأضعف و الكيان المستهدف الذي يمكن الاعتداء على إنسانيته و كرامته حتّى يبرهن شرذمة من أشباه الرجال على بطولاتهم المزيّفة و أيضا على فحولتهم. لأن قهر النساء و لجمهن يعتبر بالنسبة إليهم هو ذاك الفتح المبين و الغزو المقدّس الذي لا بدّأن يتحقق حتّى يعتدل الكون و يتطهّر من شيطنته !!!! ولكن أقول لهؤلاء :أن المرأة كانت و لاتزال عصيّة على التدجين, و فوق المساومة وستبقى عصيّة على حاملي لواء الظلامية والذين يريدون الدوس على كلّ منارات الفكر و الفنّ والإبداع... ستبقى المرأة رغم زحف التتار, تناضل على جميع الجبهات و على كلّ الواجهات ولن تركع لأنها ببساطة شديدة ,ليست صنعا أفغانيا و لا حتّى خليجيا : إنها تونسية حتّى النخاع فموتوا بِكيْدكُم. ...