أذكر أني كتبت أكثر من مرة، تصريحا وتلميحا، في السنوات الماضية حول طبيعة صندوق التضامن (26 26) الذي خلقه النظام السابق، وأشرت أن هذا الصندوق لا يمثل إلا شكلا من أشكال تعميق التفاوت الطبقي بين أفراد الشعب التونسي باعتبار أن القاعدة التي اعتمدها هي بالأساس قاعدة اخلاقوية (رغم إن التضامن يبقى قيمة إنسانية كونية) غلفها سدنة النظام السابق بغلاف متين من الشعبوية الساذجة، التي صدقها، للأسف، أغلبية الشعب. ولان غايته الأساسية هي تأبيد الفقر من خلال خلق وهم العدالة الاجتماعية والاقتصادية، كان النظام السابق يمارس كل أشكال التعسف والابتزاز على العمال والموظفين من خلال اقتطاع مبالغ متفاوتة من الأجراء وصغار التجار والحرفيين بعنوان التضامن مع العائلات المعوزة وذوي الاحتياجات الخصوصية وتقليص التفاوت الجهوي، وبالمقابل كان النظام السابق يغدق على رجال الأعمال كل الامتيازات بدءا من الإعفاءات الجبائية وصولا إلى التسهيلات الأمنية، حيث كان الجهاز الأمني في خدمة مصالح أصحاب المال بحمايتهم من جهة وحرمان أبسط بائع متجول من لقمة عيشه من جهة ثانية. لقد كان النظام السابق يأخذ بكل بساطة من جيب المفقرين ليضع في جيب الأكثر فقرا بعض الملاليم وعلب الزيت والعجين والأغطية البالية لينتزع من الفئتين مزيدا من الخوف هنا والولاء الأعمى هناك، وها نحن اليوم، ورغم سقوط النظام السابق، ها أننا نجد أنفسنا مرة ثانية وجها لوجه أمام نظرية تأبيد الفقر ولكن بشكل أكثر سذاجة وبطريقة مفرطة في الشعبوية والاخلاقوية المقيتة، اذ تم استبدال اسم صندوق التضامن (26 26) بصندوق الزكاة وتمت المصادقة على الفصل خمسة من مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2012، وهو الفصل الذي ينص على إحداث مساهمة ظرفية تطوعية لفائدة ميزانية الدولة تخصص لتدعيم جهودها في الاستثمارات العمومية والبنية التحتية الأساسية بالمناطق الداخلية ودعم التشغيل، لكن هذه المساهمات ستكون من دون مراقبة وسيغيب مبدأ الشفافية عنها مادامت الحكومة وحدها التي «ستراقب» الاموال؟؟؟ فليتهيأ كل موظف مشنوق بالقروض البنكية وليتهيأ كل أجير متعاقد بعقد عمل هش وكل حرفي أو تاجر صغير ليأتيه رئيس الشعبة، الذي صار رئيس مكتب محلي، ويطلب منه «ألف درهم لبيت مال المتضامنين «. هل هي استمرارية الدولة والمؤسسات بمفهومها المدني أم هو استمرار لنهج النهب المنظم؟ إن الزكاة فريضة دينية يؤديها الإنسان المسلم لأخيه المسلم في إطار تعاليم الإسلام السمحة تحت رقابة الخالق وحده، غير أن المتكلمين باسم الإسلام اليوم، وهم يستوون على كراسي السلطة، يأخذون مكان خالقهم ويجعلون من هذه القيمة حلا سهلا لرتق عيوب النظام الاقتصادي القائم الذي جعل أفراد هذا الشعب متسولين بامتياز، وربما الخطورة الأشد على تخريب المنظومة المدنية أن مثل هذا الصندوق، صندوق الزكاة، ليس إلا مدخلا منظما لا للاستيلاء على ملاليم الفقراء فقط بل للاستيلاء على حريتهم الفردية ومصادرة اختيار علاقتهم بخالقهم، تلك التي جعلها هو اختيارا لا إكراه فيه، كما أن الاستهانة برفض 47 نائبا من المجلس التأسيسي التصويت للفصل خمسة لا يمكن إلا أن يعزز «مبدأ» الشك في ثقة الحكومة باعتبارها المشرفة على إدارة عملية تجميع المساهمات وتوزيعها.