كما يرد في عنوان رواية جابرييل جارسيا ماركيز الشهيرة (وقائع موت معلن) يكشف خميس الخياطي وقائع التزييف المستمر الذي تعيشه حياتنا في هذا الوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج . والحصيلة دامغة ومريعة ، نزيف مستمر للعقل، وطوفان من الجنون الذي يطيح بكل ما سبق تحقيقه من انجازات ، وفيض من العبث الذي سيفضي إلى تحطيم ما تبقى من بنية العقل العربي وتطلعاته إلى مستقبل حر وكريم. بكلمات موجزة ولغة عصرية مقتصدة يناقش الخياطي أولويات الإعلام العربي كما نراه على الفضائيات ، فنعبر معه في رحلة يجعلها الكشف الذكي ممتعة وسائغة ، رغم المر والأهوال التي نراها بأم العين أثناء مطالعتنا لها . تكرّ الحقائق فنرى عبرها الرمل الذي يغطي مساحات شاسعة من رقعة الرؤية التي يشاهدها المواطن العربي. يشرح لنا بكلمات موجزة ووصف علمي موجز التصحر الذي تسبغه الفضائيات بخطابها المعوج والمتنوع على كل نبتة يانعة يمكن لها أن تظهر في العالم العربي. ويظهر لنا بشجاعة أدبية منقطعة النظير تفاصيل ما يعرض له كيلا يبدو أن ما يطرحه محض اتهامات تلقى جزافاً . وهكذا يشتغل منظار التشريح المكبر كي نرى وننظر ونسمع ونحلل أمام شاشات عمياء جل غايتها هي الوصول إلى متفرج مشلول وجامد العقل ، لا يمتلك سوى الرغبة في الإستهلاك الجشع والتسلية الفارغة ، أو في أحسن الأحوال العودة من جديد إلى العصور الوسطى بلباس عصري مجدد. ما يكتبه الخياطي نشاهده أمامنا في كل لحظة على فضائياتنا ، ولكن أهمية إيراده هنا هو التحليل الدقيق والذكي ، واللفتات المنهجية المطعمة بالأمثال الشعبية الساخرة ، وتحليل المفاهيم الأساسية التي يتخفى كل هذا الركام الإعلامي وراءها . يناقش الخياطي المفهوم الساري للتسلية في تقليص حجم المعرفة ، والمفاهيم الفنية (المتعارف عليها) والتي تنتج التخلف في قالب عصري ، ويراقب خداع النفس والآخر والاستباحة الدائمة لكل جميل ومضيء في حياتنا باسم العلم والثقافية. أين ينزلق الرمل ؟ يحمل مشرطه الحاد وينفذ منه إلى امبراطوريات إعلامية تحكم العالم العربي دون أن يسائلها أحد مستبيحة المعرفة، وناشرة الجهل والأمية تحت رداء الحداثة والموضوعية . يحطم هالة القداسة التي تحيط بالشاشة المتلفزة التي أصبحت مرجعا للعرب في كثير من أمور الدنيا والدين . والأهم ، أنه لا يتوانى عن فضح وكشف المستور . خطابات مكثفة من الجهل الذي يغذيه طموح تجاري للربح يجعل من الإدعاء واسطة كل شيء . ادعاء الموضوعية في برامج الفكر والسياسة ، ادعاء الحداثة في ما يخص الأسرة والفرد وعلم الإجتماع ، وادعاء الإخلاص والحميمية مع مواطن ضاق صدره بصعوبات الحياة ومشقاتها فصار نهباً لكل شاشة ولكل متحدث مغرض، ومحلل شره ، أو تاجر للصورة أو الكلمة . يدور بنا الخياطي في عالم من الثقوب السوداء ببصيرته الموسوعية ، ومراجعه المتعددة فيجعلنا نبصر الزمن وهو يمضي ، والحياة السوية وهي تتراجع في العالم العربي تحت حجج مختلفة يندرج بعضها في إطار تعميم حرية الرأي أو الوصول إلى الحداثة . نرى انحسار رقعة المعرفة وكيف أن تعلم القراءة والكتابة أديا إلى ازدياد عدد الأميين الذين صاروا يتلقون كل ما هو سالب ومشوه للحياة دون أن تحيد أية سلطة معنوية أم سياسية ساكناً . يتطور خطاب الفضائيات في عنفوان تكاثرها المستمر ويتسع ليشمل كل من يمكن له أن يصبح فريسة لأنواع مختلفة من الإستهلاك العقلي والفكري والتجاري . فمن استهلاك المسلسلات السخيفة ومحاربة بعضها في الوقت ذاته ، إلى التسليط المجاني للومضات الإشهارية على أعين المشاهدين ، إلى اختيار مقدمي برامج متحذلقين وجاهلين يغرقون في لغو الكلام وفي سفسطائية قاتلة إلى فلسفات أصحاب الدعوة مثل عمر خالد الذي لا ينفك يدلي بدلوه في جميع الأشياء ، إلى الأفلام الرديئة التي تشجع على البلادة ، أو تلك التي تتعرض لكل مختلف بشتائم وفذلكات وتجليات متوهمة دون أن يسأل أحد عن مدى ضررها وتخريبها للجيل الجديد . وإلى اختصار الواقع المعقد الملتبس بجمل سخيفة لا تغني ولا تسمن من جوع . هكذا نشهد في تحليلات الكتاب ما يبين لنا بتفاصيل التفاصيل عمق استبلاه المشاهدين ، وجمود الصور العربية المتحركة ، ومعضلة الإستمرار في كل تفاصيل اقتناص الصورة وتغريبها بما يؤسس للفراغ الثقافي الظلامي . ذلك أن المراجع السياسية والإقتصادية على أنواعها حتى بأعتى قواها الرجعية تحتفل بما يأتيها من الغرب وتختار منه ما يعزز سلطاتها على أذهان الناس لمواصلة التحكم بهم . ويضرب الخياطي أمثلة ملموسة من الإستهزاء بالتاريخ القديم وذائقة الناس معيداً إيانا إلى ذلك التاريخ المتنوع والغني لمختلف الحضارات التي تعاقبت على منطقتنا ، مقارناً الصور التي تعكسها المسلسلات التاريخية التعيسة بما يوازي حلقات الهزل الكوميدي الرخيص. ففي معظم تلك المسلسلات التاريخية نرى الملابس الرثة والسيوف الخشبية أو البلاستيكية ، ونشهد تهريجا في تصميم الديكور والملابس والأمكنة ، ولا نرى جهداً أو بحثاً يماثل تلك الروح العظيمة التي جمعت في منطقتنا عبر عصور عدة الفراعنة ، والفنيقيين ، والعرب الخ.. ويرسم لنا مقارنات جدية بين ما انجزه السينمائيون الإيرانيون مثل كيارستامي وسميرة مخملباف من محاولة ابتكار منظور للفضاء وايقاع المكان في الشرق. بين السينما والتلفزيون يعمل الكاتب على مقارنة التأثيرات والإختلافات الموجودة بين التلفزة والسينما ، ويرى أن التلفزيون شكل ثورة اتصالية شاملة بسبب تقدم الإمكانيات التكنولوجية ، مما انعكس على توفير الإمكانية الكاملة كي تنتشر الأطباق اللاقطة حاملة معها إلى أوطاننا آلاف المحطات من جميع أنحاء العالم دون أن تنطبق عليها قوانين الرقابة المألوفة التي تطبق في العادة على الكتب والأفلام وشرائط الموسيقى ، وحتى الإنترنت . ويجد أن المفارقة تتمثل في أن الرداءة وتخريب الوجدان التي تنشرها الفضائيات العربية، وتحكّمها بالمستوى الفكري والثقافي والسلوكي والذهني والمعرفي للمشاهد يمكنها أن تعطينا الحل بالمقابل . فقد شكلت ثورة الإتصالات وخصوصاً بعد اختراع النظام الرقمي (الديجيتال) مجالاً يمكّن فئات واعية من السينمائيين والصحافيين من صناعة أفلام تحليلية تستبطن الواقع المعاش ، وتساعد على فهمه وتحليله. ويضرب أمثلة متعددة على أفلام وثائقية تحلل ظواهر مهمة وحيوية في مجتمعاتنا مثل الهجرة المغاربية إلى فرنسا مبيناً الظلم التاريخي الذي صاحب مراحل زمنية عديدة ، فيما يرى أن التلفزيونات الرسمية تعمل على تسطيح وتبسيط الموضوع ذاته . وينبهنا إلى أن العداء المستحكم بين التلفزة والسينما بسبب التنافس على نيل المشاهدين يمكن له أن يعيد بلورة منظومة الخيال لدى المتلقي بغض النظر عن خصوصياته الثقافية بالمفهوم الشامل للثقافة . فهناك نظرة من قطاع العاملين بالسينما تنظر إلى الأعمال التلفزيونية على أنها (رعاع الصورة) ، ويرجع بنا إلى كتب وآراء عديدة تناولت الموضوع مقترحا التركيز على ( التليفيلم) أي الفيلم التلفزيوني الذي يمزج بين روائية السينما والأدوات الرقمية باحترام لشروط التلفزة مع تلقيحها بنوعية أفلام المؤلف . وهكذا لا يترك القارىء وسط الإحباط والغضب والهزء والسخرية التي تثيرها امبراطوريات الفضائيات العربية، بل يقترح إمكانيات عديدة وحلول منوعة ، محفزاً الفكر وإعمال الخيال ،وموجهاً العقل بتعمقه وتركيزه على التفاصيل إلى تغيير الواقع بدلاً من الوقوع فريسة له . القطيعة مع الواقع وتشويه صورته يجول بنا الخياطي في رحلات سندبادية متعددة بين عشرات البرامج فكأننا نراجع واقعنا اليومي الذي صار يتكرر أبداً مثل رحلة عبثية . وهو يمحص ويجادل ويبحث ويفتش بين أكوام القش بمنهجية من يستطيع أن يجد طريقه كي يجد الإبرة التي يفتش عليها، فالكتاب لا يتعامل مع الواقع بوصف حيادي،أو ادعاء أكاديمي زائف، بل إنه يقلب المواضيع التي يتعرض لها ويعيد مواجهتها. إنه يعيد الصوت الضائع للمشاهد العربي الذي انطوى على نفسه فريسة لليأس والخذلان عازماً في قرارة نفسه على عدم الخوض في الواقع البصري الذي يحيطه . ذلك ان هذه الفضائيات التي اكتسبت شعبية أين منها شعبية الزعماء الأسطوريين في الزمن الماضي ، صارت أداة تتحدث باسم الفكر الأصولي ناشرة اليأس من تغيير الواقع . إن هذه الإمبراطوريات النفطية التي امتلكت ألسنة طويلة هي الفضائيات حققت طموحها في زعامة العالم العربي ساحبة إياه إلى ظلامية القرون الوسطى ، مبشرة بفردوس الماضي التليد ، ومهدمة كل الإنجازات الإيجابية التي يمكن تحقيقها لأية فئة أو جماعة أو دولة . ففي غمضة عين صار يمكن لمذيع في هذه العروش أن يدّك حصون منيعة ويبث السموم المحتقنة منفذاً سياسة محطته ومصالحها دون أن يساءله أحد . بل إن هذه الفضائيات صارت تكتسب شيئا فشيئا موقع المنزل والمترفع عن الهوى ، فكأنها الخصم والحكم . بل وعملت ثورة الإتصالات على تعميق هوة التخلف وعلى نقض الخطاب التقدمي الحداثي وردمه في جب النسيان عبر هذه المحطات . أولاً: بسبب تقلص مساحة امكانيات الإتصال المتوفرة أمام الوسائل القديمة كالجرائد والكتب وعدم جاهزية انتشارها بفعل طغيان الصورة ثانيًا: لأن امكانيات أية محطة مما يذكره الكتاب تماثل إمكانيات موازية لدولة كاملة ، إن لم تكن التعبير الحي والكامل عن تجاذب المصالح السياسية والإقتصادية بين الدول المذكورة . ومع هذا فإن الخياطي يطرح بديلاً وحيداً يتمكن من مواجهة ركاكة هذا الواقع المحكم الخناق على المواطن العربي . فهو يرى أن دور المثقفين الحالي ينحصر في تشاؤم العقل وخذلان العزيمة . فالديناصورات والفيلة تعبث بيننا ، وتدمر عقول شبابنا ، ماحية انجازات رعيل كامل من حركات التحرر الوطني، ، ومن تراكم منجزات سابقة من عصور النهضة . وهو يرى أن هذه الكائنات التي تستخدم الفضائيات تعمل على تدمير وتخريب أية امكانيات لتطوير وتفعيل حياتنا كما يتجلى في موضوع تحرر المرأة وحرية الفكر وتعدديته . وهي تحيلها إلى رماد ما بعده رماد ، في غياب حرية الرأي والسجال . أو في ظل حرية تبتكرها على طريقتها عبر برامجها الحوارية ( الغنّاء) لتعزيز خطابها الرجعي . لا يقول كتاب( تسريب الرمل) كلمة سحرية تفك الطلاسم وتطلق سراح الحقائق المكتومة والمخبأة عن جماهير طامحة على الحقيقة . فكاتبه لا يؤمن بالمعجزات ، لكنه يقول المخبوء والمسكوت عنه ببساطة آسرة ، وبتملك علمي وفكري مذهل في عصر تكممت فيه ألسنة المثقفين والفنانين باليأس المطلق حتى أننا نقراه كمن يمسك كنزاً . ------------------------------------------------------------------------