يلوح في أفق الثورات العربية الناشئة حالة من الضبابية وعدم وضوح الرؤيا وتكتنف سماءها الغيوم التي تتحول من حين لآخر إلى زوابع ورعود تكاد في بعض الاحيان القضاء على ما انجز وتحقق. وقد تحول المشهد من تهليل وفرحة عارمة ونشوة كبيرة بالانتصار على أنظمة مستبدة وقاهرة إلى الفوضى والجري وراء الكراسي وتقاسم الغنائم والمواقع دون الشروع الجدي في الانتقال إلى حالة من تأسيس مبادئ الديمقراطية ودولة المواطنة. فقد غابت الحكمة على الفرقاء السياسيين بعد ان كانوا متوحدين زمن النضال ضد السلطة الحاكمة واصبحوا اليوم يتنازعون إرث النظام الميت دون التوجه نحو تحقيق الاهداف الحقيقية التي اندلعت من اجلها الثورات. ونظرا لهول الدمار الذي لحق بالمجتمع وبنيته الاقتصادية والسياسية والقيمية طيلة عقود من الكبت والحرمان والتهميش فقد اختلط الحابل بالنابل وتعددت المظاهر الغوغائية واشتدت وتيرة المطلبية والتجاوزات فتعطلت الحركة الاقتصادية بالخصوص ونما الشعور بين صفوف الشباب بالكفر بالثورة والاحساس بالخديعة والغدر. وقد زاد الطين بلّة التباطؤ الحاصل في معالجة الملفات الملحة كمحاسبة الفاسدين وايجاد حلول لمشاكل البطالة والتهميش والفقر المدقع وهذا ما شجع الذين تغولوا في العهود الماضية الركوب على الثورة بما لديهم من أموال منهوبة وعلاقات متنوعة داخليا وخارجيا بحيث عادوا من جديد للركح لإفشال الثورة بشتى الطرق وإلهائها في الهامشيات والصراعات الجانبية. واعتقد ان السلطات الحاكمة وقتيا بعد الثورة وأمام الكم الهائل من الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والمطلبية وجدت نفسها رهينة نزعتين متناقضتين، وهما تحقيق أهداف الثورة من جهة وتحقيق منطق الدولة من جهة اخرى . فالمنطق الثوري يستوجب ارساء العدالة الاجتماعية ورفع الغبن على المناطق المحرومة وتمكين الشباب العاطل من فرص عمل والقضاء على المحسوبية اي الاستجابة لتطلعات من ثار على النظام البائد وضحى من أجل ان تتحقق الثورة. أما منطق الدولة فهو ارساء دولة القانون والمؤسسات وكتابة دستور حداثي يأخذ بمبادئ حقوق الانسان والمواطنة والفصل بين السلطات وتكريس آليات الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة وحرية التعبير والاحتجاج. وأمام تعدد الصدامات بين الاجهزة الأمنية التي مازالت تتصرف حسب عقيدة العهد الماضي مع الاستعمال المفرط للقوة يولد لدى عامة الناس وخاصة المحرومين منهم والمهمشين والعاطلين عن العمل والذين شاركوا في الثورة غبنا مضاعفا وشعورا بولادة دكتاتورية جديدة على أنقاض الدكتاتوريات السابقة وكأن بلداننا العربية لا ينبت في أديمها الا الشوك والحصرم والطفيليات الضارة. فهل الكبت والحرمان ووطأة القهر الشديد لمدة طويلة تؤدي إلى النزوع إلى تعذيب الذات وتحطيم النفس والسيطرة ونفى الآخر وكما يفعل الانسان بميحطه تقوم السلطة المتعالية على المواطن البسيط بفرض ارادتها وقهره دون موجب؟ وهكذا تتوالد الدكتاتوريات وترث بعضها البعض في غياب الفكر الديمقراطي الحقيقي والعقلانية المجتمعية والتجربة الفعلية والدربة على التداول السلمي على السلطة فيتغلب منطق الغلبة والتشبث بالكرسي والمحافظة على الغنائم والمصالح. فمرحلة الانتقال الديمقراطي هي مرحلة من أخطر المراحل التي مرت بها الديمقراطيات الحديثة والقديمة ومن مقوماتها نبذ العنف وقبول الآخر والتسامح والتسامي على الاحقاد والتواضع لكي نصل إلى قطيعة تامة مع استبداد وتغول السلطة الحاكمة وان يعيش المواطن حرا كريما وسيدا باتم معنى الكلمة. وأما إذا ضاقت الصدور بما يظهر من احتجاجات وتفاعلات وآراء وأفكار ضد السلطة الحاكمة فلا تكون معالجتها بسوط الأمن وبالقهر والعصا الغليظة بل بالحكمة والتبصر والمجادلة دون استعلاء وتعالي وصولا إلى التشارك في إيجاد الحلول الكفيلة بنزع بؤر التوتر. فنحن مازلنا تحت وطأة اهتزازات تحولات ما بعد الثورة ونتلمس خيوط لعبة الديمقراطية الوليدة فيمكن ان تتسرب الثورة المضادة من حيث لا ندري وقد تعمي أبصارنا رياح الغوغائية وهامشيات الراهن من الأحداث، فتعود سموم الدكتاتورية من جديد وهي مازالت تطل علينا من ثقب الباب.