لم يتمكن الثوريون الحقيقيون من تسلم مقاليد الحكم لانهم لم ينطلقوا من تنظيم جاهز بشخوصه واهدافه ومشاريعه وكان الامر مجرد انتفاضة عفوية ضد الظلم والقهر والفقر قامت بها جهات محرومة ومهمشة على مر تاريخ تونس ما قبل الاستقلال وما بعده. ولم تشارك الاحزاب والمنظمات المسموح لها بالنشاط حينئذ بصفة فاعلة وقد فاجأتها الاحداث فلم تبادر باتخاذ مواقف واضحة ضد النظام القائم او مساندة قوية للمحتجين وذلك خوفا من بطش السلطة والمحافظة على المغانم الشخصية المكتسبة في حال تمكن النظام من اخماد الحريق بالوساڈئل القمعية. وكانت المساندة الفعلية متأتية من المناضلين الحقيقيين كافراد وكمجموعات عشائرية وعائلية بالاساس مما خلق جوا من التلاحم في جهات شهدت الغبن التاريخي والاقصاء من التنمية وتفشي ظاهرة البطالة بين صفوف الشباب الجامعي والفقر المدقع. وبازدياد وتيرة العنف لواد الثورة في مهدها حتي لا ينتشر لهيبها إلى باقي الجهات وبسقوط الشهداء وسفك الدماء اصبحت الثورة واقعا ومسألة جدية فتلقفتها جهات اخرى قريبة منها ومشاركة لها في البؤس والخصاصة والتهميش فاشتد بذلك عودها وزخمها واندفعت بعد ذلك في اتجاه المدن الساحلية الى ان لامست تخوم العاصمة مركز السلطة والقرار. وفي الاثناء بدأت الألاعيب الدولية والدسائس الداخلية تتحرك في الخفاء تغذيها الأطماع والغنائم والاستراتيجيات المستقبلية لايجاد مخرج ينسحب بمقتضاه بن علي من الحكم وإلهاء الشعب في قشور الحراك السياسي والرهانات الزائفة والمشاكسات الحزبية وذلك لتبريد الثورة وطمس الحقائق وقطع الطريق أمام الثوريين الحقيقيين من الوصول إلى الحكم. وكل ما يحدث الآن هو تلهية للناس لا أكثر ولا أقل وكبح جماح مطالبهم باستعمال الدجل السياسي العقيم تارة وبالعنف تارة اخرى لأن الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي لا يمكن تغييره بين عشية وضحاها كما ان البنية الفكرية ومستوى الوعي الاجتماعي لدى الغالبية من الشعب مازالت طوباوية وغير متجذرة في النفوس. والكثير من المقولات المتداولة كالديمقراطية والمحاسبة والعدالة الانتقالية ليست لها مدلولات على أرض الواقع فهي فقط ذات أبعاد لفظية زائفة ودمغجة سياسية لتحريك الغرائز ولا تمت للواقع بصلة. فلا يمكننا ان ننكر اننا دولة في حالة تخلف على جميع الاصعدة ونظامنا السياسي هش ومائع وغير مستقر في غياب المؤسسات القوية المستقلة والمواطن الفاعل الواعي والذي تجاوز هموم بطنه ولهذا فالحلم جائز لكن الواقع والمعطيات تفند كل اطروحات أهل السياسة والخير كل الخير في الواقعية ونكران الذات والتواضع الايجابي ونحن في مرحلة بناء للمستقبل وتأسيس لجمهورية الغد. وقد فتحت الثورة المغدورة ذراعيها حتى لمن لم يبارك انطلاقتها ولم يشارك في تضحياتها الجسام فأصبحوا في السلطة ولولاها لما زالوا في المنافي قابعين وفي الدهاليز مسجونين وفي ديارهم محاصرين وافواههم مكممة وحياتهم في جحيم. وبما انهم من راكبي الثورة فليس من اهدافهم تحقيق اهدافها بل الفوز بالسلطة والبقاء فيها كغنيمة شاء الله ان تكون من نصيبهم وتغيير المجتمع حسب تصورهم الخاص وتنصيب من يتبنى اطروحاتهم وغاياتهم الولاء قبل الكفاءة لان المسألة الاساسية والمحورية هي ربح الانتخابات المقبلة باستعمال اجهزة الدولة بالتمكن من المواقع الهامة وتعطيل عمل الفرقاء السياسيين والاستحواذ على جميع دواليب الدولة وهذا التمشي يعود بنا الى ممارسات العهود السابقة وقد عرفنا للتو ما آل اليه السير في هذا الطريق وما تمخضت عنه التجربة من مآسٍ وخراب. فالجري وراء توزيع المغانم كما يفعله المجلس التأسيسي لصالح نفسه وهو سيد قراره وتعدد المناصب الحكومية والمستشارين دون المس من الامتيازات الكبيرة الممنوحة للمسؤولين (السيارة البنزين المنزل) ودون محاسبة المفسدين وناهبي المال العام والمتهربين من الجباية لا يمكن ان يفهمه البطال وصاحب الشهرية الضعيفة والمكتوي بنار الاسعار. وقس على منوال ذلك ما يدور من جدل حول التعويضات وهي تقدر بمبالغ فلكية طائلة سيتحملها الشعب الفقير والجائع وليس من جيب الاغنياء والمفسدين ومن تلاعب بالأموال كما شاء وخاصة حاشية بن علي ممن فر منهم للخارج وممن مازال حرا طليقا يرتع في البلاد عرضا وطولا. فالدولة لا يمكنها تحمل اخطاء منظوريها الا من كانوا على حسن نية اما الافعال المقصودة فهي تنسب للاشخاص انفسهم القائمين بالأفعال المدانة وما على المتضررين الا ان يطالبوهم بجبر الضرر عن طريق المحاكم واذا فتحنا هذا الباب فعلينا ان ننصف الجميع من يوسفيين ويساريين ومضطهدين ومطرودين ومحرومين من التنمية ومهمشين وهلم جرا. فالمهم في العرف السياسي السليم هو تحقيق الاهداف التي نادت بها الطبقات الكادحة والمحرومة والمتطلعة الى غد افضل وبناء المؤسسات المستقلة بعيدا عن الغوغائية والجدل العقيم ورهانات ما قبل الاستحقاقات الانتخابية وهذا يتطلب وجود اشخاص لا يهمهم بهرج الكرسي وشهوة السلطة والتجاذبات الحزبية الضيقة أي رجال دولة بأتم معنى الكلمة لأن الدولة دائمة والكرسي مصيره الزوال ولو بعد حين.