كان التشغيل وما زال التحدي الأكبر الذي تنكب مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية على محاولة إيجاد حلول له. ومن بين الآليات التي تم اعتمادها آلية تكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بهدف تشجيع التنمية الجهوية والحث على تشغيل أصحاب الشهادات. ووردت أهم هذه الإجراءات ضمن مجلة تشجيع الاستثمارات الصادرة سنة 1993 ثم عقبتها إجراءات أخرى في السياق نفسه. وقد أظهرت التجربة بعد مرور ما يقارب العقدين عجز هذه الآليات على توفير مواطن شغل بسبب عدم توفر مناخ كامل يشجع على الاستثمار مثل تدهور البنية الأساسية ونقص اليد العاملة المختصة إلى جانب سوء استعمال هذه الآليات وهو ما تعرضنا له في دراسة سابقة (انظر دراسة « الضمان الاجتماعي والصكوك البيضاء: تكفل الدولة والإعفاءات أنموذجا» جريدة الشعب عدد 1121 بتاريخ 9 افريل 2011). وتواصل بعد 14 جانفي اللجوء إلى الآليات نفسها وذلك بإصدار عدة نصوص قانونية تقضي بتكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي. وتركزت هذه الإجراءات على المجالات التالية: تكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي عند انتداب طالبي شغل بصفة قارة لأول مرة من حاملي الجنسية التونسية. تكفل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للأعوان التونسيين إلى مناطق تشجيع التنمية الجهوية في قطاع السياحة والصناعة والصناعات التقليدية وبعض أنشطة الخدمات. إجراءات ظرفية لمساندة المؤسسات لمواصلة نشاطها وذلك بتكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي سواء في حالة التخفيض بثمان ساعات في الأسبوع أو الإحالة على البطالة الفنية.( عدة مراسيم بداية من فيفري2011). ولكن إلى أي حد مازالت هذه التدخلات قادرة على المساهمة في دفع الاستثمار وإلى أي حد بإمكانها أن تشجع على التشغيل فعلا. التكفل بالمساهمات دون اشتراط المستوى الجامعي تم توسيع مجال التكفل بمساهمات الأعراف لمدة خمس سنوات عندما انتداب طالبي شغل بصفة قارة لأول مرة من حاملي الجنسية التونسية وذلك بإلغاء شرط المستوى الجامعي مثلما كان عليه الوضع في مجلة تشجيع الاستثمارات حيث كان الامتياز لا يمنح إلا لمن يشغل المتخرجين الحاملين لشهادة لا تقل عن باكالوريا زائد 2. وقد وردت هذه الأحكام ضمن الفصل 4 من قانون المالية التكميلي لسنة 2012 كما اشترط النص التطبيقي أن يكون المنتدب الجديد مرتبطا بعقد شغل غير محدد المدة وهو ما يضمن الاستفادة الحقيقية من هذا الامتياز والتشجيع على انتداب العمال لأول مرة أي العاطلين فعلا عن العمل. وتطبق على الانتدابات التي تتم خلال الفترة الممتدة من غرة أفريل 2012 إلى 31 ديسمبر 2012 وعلى الانتدابات التي تتم بعد تاريخ 31 ديسمبر 2013 بالنسبة للمتربصين الذين انتفعوا بتربصات إعداد للحياة المهنية أو عقود التأهيل والإدماج المهني المبرمة من غرة افريل 2012 إلى 31 ديسمبر 2013. ولئن عُدّ هذا الإجراء ايجابيا من حيث إلغائه للتمييز الذي كرسته مجلة تشجيع الاستثمارات بين أصحاب الشهادات وغيرهم من غير الحاصلين عليها فان حظوظ هؤلاء في سوق الشغل تبقى محدودة أمام حاجة المؤسسات إلى اختصاصات مختلفة ومستوى تقني متقدم في ظل التطور التكنولوجي المتواصل. التكفل بمساهمات المؤسسات في مناطق التنمية الجهوية يتمثل هذا الإجراء في تكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بالنسبة للمشاريع المنجزة في قطاعات الصناعة والسياحة والصناعات التقليدية وبعض أنشطة الخدمات وذلك في مناطق تشجيع التنمية الجهوية. وجاء ذلك بمقتضى المرسوم عدد 28 المؤرخ في 18 افريل 2011 الذي لم يكن سوى امتداد للفصل 25 من مجلة تشجيع الاستثمارات ( الفصل 25 مكرر). فهذه الآلية التي ترفع شعار التشجيع على التنمية في الجهات الداخلية بهدف خلق مواطن شغل تبقى آلية مبتورة بسبب غياب الظروف المناسبة والتي تتمثل في حد أدنى من البنية الأساسية ويد عاملة مختصة وإدارة عصرية وشفافة. إسعاف المؤسسات المتضررة لعل هذا الموضوع هو أكثر المواضيع التي حظيت باهتمام المشرع بعد 14 جانفي بالنظر إلى عدد النصوص القانونية الذي خصصت له بين قوانين وأوامر والتي تضمنت إجراءات لفائدة المؤسسات تمكنها من تكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي وتحديدا للمؤسسات « التي اعتبرت متضررة «. وقد تم حسب هذه النصوص اعتبار مؤسسات متضررة « المؤسسات التي تضررت ممتلكاتها بفعل الحرق أو الإتلاف أو النهب أو تراجع نشاطها بصفة ملحوظة أو توقف عن النشاط بشكل جزئي أو كلي مما أثر على رقم معاملاتها ومديونيتها وعلاقاتها بحرفائها لأسباب متصلة مباشرة بالوضع الاستثنائي». ولئن كان الهدف من هذه الإجراءات هو تمكين المؤسسات المذكورة من مواصلة نشاطها وبالتالي المحافظة على أكثر ما أمكن من مواطن الشغل فإن عدة نقاط استفهام تطرح حول محتوى هذه الإجراءات وتوقيتها. فقد صدرت أول هذه النصوص منذ فيفري 2011 أي خلال حكومة محمد الغنوشي وتم منذ ذلك التاريخ استعمال وصف المؤسسات المتضررة بكونها تلك التي تعرضت « للحرق والنهب والإتلاف». وإذا عدنا إلى مسلسل الأحداث آنذاك لأدركنا ما هي الممتلكات التي طالتها أيادي الشعب الهادر ولمن تعود ملكيتها. من الأكيد أنه لا يمكن بأية حال تبرير النهب والحرق والإتلاف ولا يمكن تصنيف كل الممتلكات التي تضررت ممتلكات تابعة لرموز الفساد غير أن ردود الفعل العنيفة تجاه هذه الممتلكات انخرطت آنذاك في مسار رد الفعل الشعبي العام. كما أنه من المشروع التساؤل من جانب آخر حول أسباب إسراع السلطة في تلك الظروف إلى إصدار هكذا إجراءات ضمن إجراءات أخرى وامتيازات مالية وجبائية. وقد تم العمل بهذه الإجراءات كامل سنة 2011. ثم تم التمديد بسنة أخرى طبقا لما ورد بقانون المالية التكميلي لسنة 2012 وذلك لفائدة « المؤسسات التي شهدت تراجع النشاط أو التوقف عن النشاط بشكل جزئي أو كلي ما أثر على رقم معاملاتها ومديونيتها وعلاقتها بحرفائها لأسباب متصلة مباشرة بالوضع الاستثنائي». مما يحيل إلى الاستنتاج أن المؤسسات المنتفعة سنة 2012 هي نفسها التي انتفعت بالامتيازات سنة 2011. وتمثلت الإجراءات الخاصة بالضمان الاجتماعي في تكفل الدولة بنسبة 50 % من مساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للعمال الذين يشملهم إجراء التخفيض في ساعات العمل بثماني ساعات على الأقل في الأسبوع بسبب تقلص النشاط. كما تمثلت في تكفل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني الوطني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للعمال الذين تتم إحالتهم على البطالة الفنية. وهذا يعني أن الأجراء الذين يساهمون بصفة رئيسية في تمويل الميزانية سيتعهدون بدفع بعض أو كل مساهمات الأعراف في الضمان الاجتماعي بقطع النظر عن ملكية هذه المؤسسات وعدد العمال المشتغلين فيها. وقد خصصت ميزانية الدولة لسنة 2012 مبلغ 55 مليون دينار لمساندة المؤسسات التي قيل أنها متضررة. والحقيقة أن هذه الإجراءات ليست جديدة بل هي في جوهرها نسخة مطابقة للأصل لإجراءات تم العمل بها سنتي 2009 و2010 عند حدوث الأزمة المالية العالمية حيث أشارت نصوص تلك الفترة إلى المؤسسات التي تضررت بسبب « تقلص النشاط المرتبط بالأسواق الخارجية « فأصبحت العبارة سنة 2011 المؤسسات المتضررة بسبب « الحرق والنهب والإتلاف «. لذلك فإن الإجراءات الجديدة في مجال تدخل آلية الضمان الاجتماعي لدفع التنمية والحث على التشغيل ليست سوى « «. مساندة الجمعيات الرياضية وفي سياق غير بعيد وعلاوة على الأنشطة الاقتصادية تضمن قانون المالية التكميلي لسنة 2012 إجراءات ظرفية لمساندة الجمعيات الرياضية التي اتخذ في شأنها قرار اللعب دون حضور الجمهور وذلك خلال الفترة الممتدة من غرة جانفي 2012 إلى غاية 31 ديسمبر 2012. وتتمثل هذه الإجراءات في تكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني الوطني للضمان الاجتماعي بعنوان الأجور المدفوعة للأعوان الإداريين والفنيين المشتغلين كأجراء بهذه الجمعيات وكذلك وهذا هو الأهم بعنوان الأجور المدفوعة للاعبين المرتبطين بعقود في إطار اللاهواية مع الجمعيات المعنية. إن المتتبع لواقع الجمعيات الرياضية ومداخيلها يدرك لا محالة افتقار أغلبها لأبسط الوسائل المادية والفنية وعجزها على الاستجابة إلى حاجيات المنتمين إليها. غير أن تشجيع الرياضة والوقوف إلى جانب الجمعيات لا يكون على حساب موارد كان من المفروض أن توجه إلى دعم المشاريع المؤدية فعلا إلى التشغيل خاصة أن بعض الجمعيات المشهورة في ميدان اللعبة الشعبية لا تشكو أي عجز بدليل الأموال المرتفعة والخيالية التي تصرف « لشراء « اللاعبين». إن التعامل مع هذا الملف يتطلب موقفا أكثر حزما حتى لا يتحول إلى ملف مزايدة تختلط فيه الرياضة بالسياسة وتشترى عبره أصوات الناخبين وما بالعهد من قدم. طاحونة الشيء الجديد إن المتأمل في قائمة الامتيازات التي تم إقرارها منذ 14 جانفي إلى اليوم يلاحظ أنها إجراءات تقليدية ومحدودة الفاعلية وهزيلة النتائج خاصة أنها اعتمدت نفس الأساليب والصيغ القانونية والإدارية التي أثبتت التجربة ضيق أفقها بدليل ما وصل له واقع التشغيل في بلادنا وتواصل ملامحه إلى اليوم. أما من جانب تمويل هذه الامتيازات فان الدولة بصدد صرف أموال طائلة لدعم بعض الامتيازات التي يتضح شيئا فشيئا أنها غير مجدية وكان من الأجدى التركيز على دعم التكوين الأساسي والمستمر الذي يعرف تراجعا في أدائه وهو أمر طبيعي بعد أن فرطت الدولة فيه للخواص بداية من 1994. فمنذ انسحاب الدولة من القيام بدورها في هذا المجال وإقرار إسناد العائدات من الأداء على التكوين المهني أصبح القطاع مجال متاجرة وسمسرة وانتعشت المضاربات على حساب الجودة والنجاعة خاصة في مستوى التكوين المستمر الذي تحول إلى قطاع سياحي ترفيهي. وكمحاولة لتقديم بعض الحلول التي بإمكانها مزيد التعمق في هذا الملف وإيجاد آفاق جديدة للحث على الاستثمار والتشغيل نقترح: - إلغاء العمل بتكفل الدولة بمساهمات الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي وتوجيه الاعتمادات التي كانت مخصصة لتكفل الدولة إلى دعم البنية الأساسية ودعم مجهود التكوين. - تقييم مردودية المبالغ التي تم رصدها منذ بدء العمل بهذه الآلية من حيث مساهمتها فعلا في بعث المشاريع وخاصة من حيث نسبة عدد مواطن الشغل الناتجة عنها. - ربط الامتيازات التي قد تمنح في ظروف معينة بعدد مواطن الشغل وكذلك إعطاء الأولوية للمشاريع القادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في بعض المجالات وخاصة منها الفلاحية على أن تستعيد الدولة دورها تدريجيا للمساهمة في بعث المشاريع ذات التشغيلية المرتفعة.