على موقع جريدة الشعب على الأنترنت استطلاع للرّأي حول المهامّ التي يريد المصوّتون أن تُبادر بها الحكومة. وكما هو منتظر، فإنّ مسألة توفير الشغل لطالبيه حازت قصب السّبق بنسبة تصويت قدرها 37 %. قُلت هذا الكلام لوالدتي، أطال الله بقاءها، فعلّقت بقولها: ياه ! لقد اختزلت هذه العجوز الطيّبة في عبارة واحدة ما يحار بعض المثقّفين في توصيفه إلاّ بخطابات طويلة مملّة وجافّة. وبما أنّني محسوب على تلك الفئة من المواطنين الآيلة إلى الانقراض ممّن يبحثون في العلّة وبنت العلّة، فقد عدتُ إلى كُتبي أبحث عن هذا المثل الشعبي ظانّاً أنّه محض تونسي ولا علاقة له بالأدب العربي «الرفيع». وكانت المفاجأة ! إنّه مثل عربي قديم في معناه وإن اختلف مبناه. ففي كتاب «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب» للعلاّمة الثعالبي شرح للمثل العربي «مواعيد الكمّون»، فيقول: «يُضرب مثلاً للمواعيد الكاذبة، وذلك أنّ الكمّون لا يُسقى بل يُوعد به بالسَّقْي فيُقال: غداً نسقيك وبعد غد نكفيك، فهو ينمو بالتّمنية على المواعيد الكاذبة». وهذا أيضا ما يُشير إليه الميداني في كتابه «مجمع الأمثال» في تفسير المثل العربي: أَخْلَفُ مِنْ شُرْبِ الكَمُّونِ. أمّا ابن أبي عون، فيشير في كتابه «التشبيهات» إلى تناول الشعراء هذا المعنى، فقد قال بشّار بن بُرد: لاَ تَجعَلْنِي كَكَمُّونٍ بِمَزْرَعَةٍ ... إِنْ فَاتَهُ المَاءُ أَغْنَتْهُ المَوَاعِيدُ ! وبالطّبع، ما كان لمثل هذا المعنى أن يغيب عن أشدّ شعراء العربيّة إيغالاً في الهجاء والسخرية، وأقصد الشاعر ابن الرومي، فهو القائل في من منّاه وأخلف: كَمْ شَامِخٍ بَاذِخٍ بِثَرْوَتِهِ ... أَضَلَّهُ قَبْلِيَ المُضِلُّونَا جَعَلْتُهُ بِالهِجَاءِ فُلْفُلَةً ... إِذْ جَعَلَتْنِي مُنَاهُ كَمُّونَا ! إنّها بحقّ معركة الكمّون والفلفل، معركة الهدوء في المطالبة بالحقوق ضدّ اهتياج رأس المال في هضم تلك الحقوق، وكأنّي بابن الرومي يصف معركة «عَرْفٍ عرقوبيّ» أخلف وعده لعُمّال مؤسّسته حتّى التجؤوا إلى جعله «فُلْفُلاً حَارّاً» ... يَعِدُ العرفُ العمّال بالسّقي ماءً مقابل العرق المبذول شُغلاً بما يحفظ الكرامة وماء الوجه ويُحيي العوائل، ويشعر العرقوبيّ ب»الحكّة والعطس» كلّما أثير موضوع السقي ! وللباحثين عن ابنة أخت العلّة أقول إنّ العرقبة هُنا نسبة إلى عرقوب، وهو رجل من قُدماء العرب ضُرب به المثل في بيع الأماني الكاذبة حتّى قيل: أخلفُ من مواعيد عرقوب! إنّه الواعد الكذوب الذي قال فيه الشاعر العربي القديم: إِذَا جِئْتَهُ يَوْماً أحَالَ عَلَى غَدٍ ... كَمَا يُوعَدُ الكَمُّونَ مَا لَيْسَ يَصْدُقُ ! ياه مرّة أخرى ! الشعر في مواجهة إخلاف المواعيد... من مواعيد الأصدقاء إلى مواعيد الأعراف، وُصولاً إلى مواعيد حكومات «عرقوبيّة» تمنّي الآلاف بالشُّغل والكرامة، وتُخلف ! وليحظ القارئ الكريم أنّني استخدمت في حديثي إليه لفظة «ياه» مرّتين، والأكيد أنّه شعر بأنّها اختزال لعبارة «يا الله»، ولم يبق لنا غيره نستعيذ به من شرّ «العرقبة»، وهو في هذا مُحِقٌّ إذ تحفل اللهجة التونسيّة الجميلة بعشرات الأمثلة ممّا يُسمّى «اقتصاد اللغة» توفيراً للجهد والوقت... وذلك رغم كثرة كلامنا وقلّة أفعالنا وطول أيّامنا المملوءة جعجعة وعرقبة دون أن نرى «طحيناً» ! والأكيد أيضاً أنّ نفس القارئ الكريم قد تساءل عن علاقة السرّ بالكمّون عند فُلان (وخاصّة عند فُلانة !) في قولنا «فُلان عنده السرّ والكمّون»... وللعلم فإنّ السرّ في أحد معانيه هو الزّواج، وهذا ما سنتناوله في فُرصة قادمة قد تكون غداً أو بعده أخذاً بخاطر ذاك القارئ الذي يتمنّى ذلك. قارئي العزيز: تُريد أن أشرح لك الأمر الآن ؟ نعم، بكلّ طيبة خاطر أقول لك: عِشْ بالمنى يا كمّون !