من أغراض الشعر العربي (الهجاءُ) الذي هو ذكر مساوئ المهجوّ وإلحاقُ العار به حقا أو ظلما وبهتانا أو عبثا واستهزاء فمن الشعراء من يمدحُ حين يقع الإحسانُ إليه، ويهجو حين يناله المنعُ والحرمان، وقد يكون الهجاء بين قبيلة وأخرى معادية أو بين فرد وفرد، أو بين فرد وجماعة يرى أنهم عائدون عن الطريق المستقيم كما نرى ذلك عند ابن الرومي والمتنبي، وأحيانا يكون مصدرُ الهجاءِ انعكاسا للفخر وهو ما نجدهُ عند عنترة بن شداد في العصر الجاهلي أو عند الأخطل والفرزدق وجرير في العصر الأموي، ولكن الهجاء الذي يعلقُ بالأذهان ويتداوله أكثر الناس ويتناقلونه فيما بينهم هو ما كان سخرية وتندرا ولهوا ومجونا وهذا ما عُرف به أبو دلامة وابنُ الرومي وقبلهما الحُطيئة الذي هجا نفسه وهجا أمُّه وزوجها فمن هجائه لأمه قوله: جزاكِ اللهُ شرّا من عجوز ولقّاكِ العُقوق من البنينا تنحّيْ فاجلسي عنّي بعيدا أراحَ الله منكِ العالمينا ألم أظهر لك البغضاء منّي ولكن لا أخالك تعقلينا أغرْبالا إذا استُودعت سرّا وكانونا على المتحدثينا حياتك ما علمتُ حياةُ سوء وموتكِ قد يسرُّ الصالحينا أمّا زوج والدته فقد قال فيه: لحاكَ الله ثم لحاك حقّا أبّا ولحاكَ من عمّ وخال فنعم الشيخُ أنت لدى المخازي وبئس الشيخُ أنت لدى المعالي جمعت اللؤم لاحياك ربي وأبواب السفاهة والضلال والحطيئةُ هجا أخويه، وهجا زوجته بل إن نقمةَ الحطيئة على أهله وواقعه ومجتمعه جعلته يلعن ذاته ووجوده ويسخّرُ شعره للقذف والثلب والهجاء نتيجة توتّر ونقمة لازمته حياته كلها حتى أصبح الهجاء نوعا من تخفيف آلام نفسه ولا أدلّ على ذلك من أنه لمّا شعر ذات يوم برغبته في الهجاء ولم يهتد إلى من يهجوه هجا نفسه فقال: أبتْ شفتايَ اليوم إلا تكلّما بسوء فما أدري لمن أنا قائله أرى لي وجها شوّهَ الله خلقه فقبّحَ من وجه وقُبّح حامله ولسائل أن يسأل عن سرّ هذه النفسية المتشائمة عند الحطيئة؟ والجواب من ذلك يكمن في أنه مجهول النسب مما جعل منه شخصية شاذة متوترة ناقمة على الحياة وما فيها ومن فيها وخاصة أمه التي جلبت له بخيانتها العار والشنار . ومما يُروى عن الحطيئة أنه لمّا حضرته الوفاة قال له قومه: (بم تُوصي)؟؟ قال: ويل للشعر من رواية السوء. فقالوا: بم توصي؟ قال: بلّغوا غطفان أن شاعرهم الشماخ أشعر العرب قالوا: أوص بما ينفعك قال: أبلغوا أهل ضابئ أنه شاعر مفوق بقوله: لكل جديد لذّة غير أنني رأيتُ جديدَ الموت غير لذيذ قالوا: ويحك أوصِ بما ينفعك، قال أبلغوا أهلَ امرئ القيس أنه أشعرُ العرب حين قال: فيالك من ليل كأنّ نجومه بكلّ مُغارِ الفتل شُدّتْ بيذبُلِ قالوا: اتقِ الله ودع عنك هذا قال: أبلغوا الأنصار أن صاحبهم أشعرُ العرب إذ يقول عن الذين اعتادوا استقبال الضيوف حتى أصبحتْ كلابهم لا تهر عليهم: يغْشون حتى ما تهرُّ كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل قالوا: قل غير هذا مما توصي به قال: الشعرُ صعب وطويل سُلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلّت به إلى الحضيض قدمهْ يُريد أن يُعربهُ فيعجمه قالوا: نريد منك وصية قال متفاخرا بشجاعته في القتال حتى كاد يهلك: قد كنتُ أحيانا شديد المعتمد وكنتُ ذا غرب على الخصم ألد فوردتْ نفسي وما كادت ترد فقالوا: ألك حاجة؟ قال: لا والله ولكني أجزع على المديح الجيد يُمدح به من ليس له أهلا قالوا: فمن أشعر الناس؟ فأومأ بيده إلى فمه وقال: هذا الجُحيرُ إذا طمع في خير ثم استعبر باكيا وكانت نهايته مأساوية إذ مات وهو محمول على ظهر أتان وهو يردد: لا أحد ألأمُ من حُطيّه هجا بنيهِ وهجا المريه من لؤمهِ مات على فُريّه لحاكَ الله: لعنك الله يذبل: جبل السوادُ المقبل: معظم الناس المقبلين الإعراب والإعجام: الوضوح والغموض الغربُ: حدُّ السيف الأتانُ والفرية: أنثى الحمار المرية: تصغير للمرأة وهي زوجته