يغادرنا الصيف يعج بالصور ويتوضّأُ بالظلال. ركام من الصور القديمة والحديثة يلتبس فيه المبنى بالمعنى حتى يستحيل كلاهما جحر الاخر ومثواه. في هرقلة لم يتأخر اعتراف محمد البكري (1) كثيرا بعد ان كان نفى بمكر. ربما استنجادي بدرويش انتزع منه ذلك. حدثته عن الكرمل والجليل (أعلاه وأدناه) وكأنني عائد لتوي منهما. ما اقرب البعنة (قريته) والبروة (قرية درويش) من شاطئ هرقلة. مثلما كانت صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة على مرمى حنين من حمام الشط. كأن ليس بين البرّين بحر او شرائط اخبار ملونة عابرة. أرهق هواء الوطن رئتي كليهما (ومعهما الراحل إميل حبيبي) وهو يصلهما من خلال انابيب يضيقها العدو يوما بعد اخر، أرهقهم نسب 48 وخذلتهم مغامرة 67 وعمد انتقام 82 شتاتهم بين «إخوتهم». هل وجدنا في هرقلة ملاذا من الصور؟ رغم أننا كنا «دُعينا» من اجل الاحتفاء بها واختيار البعض منها أبطالا. كانت الصور في أغلبها بليغة معاصرة. كنت بصدد ترشيح فيلم برتغالي قصير جدا لأحد المراكز الاولى. وان لم يتم ذلك لنهايته الكافكاوية ربما فلكي اجده متوجا في نص درويش عن حريق بيروت (2). تتلاشى البعوضة والكلمات مثلما تتلاشى مع كل موجة شوق اشارة من شاشة الهاتف الجوال. حتى بياض الورقة يتلاشى جارا المبنى ومعناه (أو المعنى ومبناه) في دوامة ثقب رمادي يعود محمد (البكري) لابسا البحر مقبلا على صيده لكنه يهب الشأن الاكبر من شاهيته الى التبغ. يتذكر جنينا ويجتر جناية أحد المتدخلين في نقاش البارحة دوائر من دخان وسراب قبلة في انتظار رشفة شاي ثم... «أتصوم رمضان؟»هكذا كنا نتحاشى عبثا الصور. تدبرنا الملاذ اذا ام افتعلناه؟ نهرب الى البحر فنجدها. تغادر الكلمات والضحكات والذكريات طاولة الغداء وتغطس في الماء صورا تولد من صور. يسبقنا الى الشاطئ محمود درويش وكاتب ياسين وإميل حبيبي. يهرب الجميع من اللامعنى تاركين اوراقهم وحبرهم وأشواقهم ولغتهم ولغة غيرهم. الهوية: هاجس سكن صور هرقلة ووجدانها. جسر معلق بينها وبين تكرونة قوامه صور صنعها الاجانب لتعرض عندهم وعندنا. صور تحل ضيفا على غير مضيف. كم انتجت أرضنا من الصور. هل يشفع لعمانا ان الصورة لم تكن لنا ديوانا؟ ها هي تغدو، رغم ذلك، الباب الاول في عناوين استهلاكنا الثقافي وتنتصب ديوانا لأوهامنا وأحلامنا وأضغاثها. صورنا مختلفة جدا عن بقية صور عالم قد يكون عالمنا حسب مدى صلابة وشائج الجغرافيا والثقافة والتاريخ. صورنا تكاد تكون نسخة من صور عالمهم. الجنوب عالمنا والشمال عالمهم. الصور في هرقلة تقول بعض ذلك، صور الجنوب (الذي تمتد رقعته داخل حدود الشمال) بسيطة وبليغة. شحنة من المثلجات تعبر الصحراء لتحط بين أيدي اطفال شعوب لم ينصفها الغرب ولا الشرق. تلك هي قصة شريط «DESSERT» (مع تلاعب تشكيلي بإحدى نسختي حرف «S» بحيث يمكن قراءة «DESERT») مثلا من سلوفينيا. صور عن صحراء ما في زمن تحاول فيه الراليات (سباقات السيارات) رشاشات التلفزة احتكار صورة الصحراء وتعليبها وتسويقها. يزور الشريط الجزائري «بعض الفتات للعصافير» (3) نقطة على الحدود بين بلد محيّد (الاردن) وبلد عصيّ على التركيع (العراق) حيث يغدو النفط (او نزر منه) حياة يومية رتيبة بشكل يغوي بالتساؤل (بريئا كان ام متلبسا) عن امد الاحتلال ومداه. يعود محمد (البكري كذلك). نجتمع على طاولة طعام لا ننتظره. يتكفل الذباب بذلك. يحوم ويحط. ننتقم من الطعام فلا ننتظره. يأتي وينتظر وينشط الذباب فنأمر برفع ما قُدم. كيف نميز استياء الذباب من رضاه؟ لا يجيب درويش الا بعد حين فأكثر على صفحات الشعب كذلك، ربما يكفي الذباب (أخضر كان ام أسود أم أزرق) سيل من دم اثر غارة، او سطح هريسة فلفل حتى يصبح سيد شاشة ما تحتل بوقاحة وسعادة بيتا آمن من قصف. كل الشعوب الخارجة حديثا او قديما من محنة التعرض للاحتلال تعاني اشكالا مع التاريخ، قراءة وكتابة واستهلاكا. الطائفة الثانية بخصوص تلك التي تعوزها وثائق تشتت او حملها معهم المحتلون. غير بعيد في قرية بيع الافلام كان الفرنسية، كان نصيب صور العرب هامش احتفاء بمن خدم اشلاء طموح فرنسا الاستعماري في مستنقعات اسيا. الانتاج فرنسي بالطبع والشخوص ومجسدوها ومديرهم مغاربيون. قد تكون الحصيلة مؤثرة وتطهيرية وذات بعد ادماجي بلغة المسرح. لكنني لم أر الصور بعد. أتاحت لي هرقلة صورا اخرى هي قوام شريط قصير لخالد البرصاوي من انتاج سنة 2004 (4) سيل من صور حركات تحرر من مختلف جهات الارض، مشاهد معارك مسلحة واستعراضات جيوش ناشئة وملامح زعماء رحلوا. صور تحتفظ بنَفَس سينما قد لا تجد سوقا حتى رمزية او معنوية في زمن لا تقبل فيه مهرجانات الشمال من صور الجنوب غير تلك المنشقّة عمن صمد من أنظمة الجنوب «الشعبية» أو تمارين سينمائية مجردة من مرجعية جغرا سياسية ما تحشر كلها (الصور) في ملاجئ ملحقة بالبرامج الرسمية قد تسمى بانوراما او تكريم او ما شاكل.
------------------------------------------------------------------------- (1) حضر في ملتقى هرقلة السينمائي بشريطه التسجيلي «من يوم ما رحت» المهدى الى روح الكاتب إميل حبيبي. (2) جريدة الشعب 02 سبتمبر 2006 ص 10. (3) اخراج نسيم عماوش انتاج سنة 2005. (4) شريط بين نومين.