يمر أكثر من أسبوع الان على فاجعة اغتيال الشهيد الأستاذ شكري بلعيد أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، ويمر أكثر من أسبوع على مبادرة حمادي الجبالي رئيس الحكومة، بتكوين حكومة كفاءات وطنية بعيدة عن المحاصصة الحزبية (بغض النظر عن ان كانت تمثل حلا للوضع الذي الت اليه البلاد أم لا) ولكنه اقرار بالأزمة الخانقة التي تعيشها على مختلف الأصعدة، ورغم هذا مازالت مواقف «النهضاويين» تتضارب، في سيناريو متكرر ومعتاد كلما وجدت النهضة نفسها في وضع صعب. حركة النهضة التي تبدو تدرك جيدا فنون المناورة السياسية، التصعيد والسير بخطوات الى الوراء حينا، تعيش اليوم أسوء وضع منذ عودتها للعمل العلني، ومنذ توليها مقاليد السلطة بالبلاد، خاصة أنها لم تنجح في تقريب وجهات نظر أقرب مكونات المشهد السياسي لها – ما عدا المؤتمر- وتزداد دستة المعادين لها كما وكيفا.. فهي لم تنجح في طمأنة فئات واسعة من الشعب التونسي قبل خصومها السياسيين في أنها كما تقول «حركة معتدلة وتؤمن بمدنية الدولة وتساهم في الانتقال الديمقراطي الذي تعيشه البلاد». واذا بلغ الأمر حد اغتيال النشطاء السياسيين الفاعلين، فلا يمكن بحال من الأحوال لوم مختلف مكونات المشهد السياسي والحقوقي في أن يحذروا المبادرات التي تخرج عن النهضة وحكومتها، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نلوم حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (مثلا) وفريق الدفاع المتطوع للكشف عن القتلة المجرمين الذين اغتالوا شكري بلعيد بأن يؤكدوا أنهم لا يثقون في أجهزة وزارة العدل ووزارة الداخلية التي يتولاها نهضاويون . الى اليوم عاشت البلاد عاما ونصف على انطلاق عمل الترويكا، ومن على رأسها حركة النهضة، ولا تكاد الأوضاع تتعافى من أزمة الا وتدخل في أخرى موالية خانقة، رغم أن البلاد كانت مهيأة على مختلف المستويات لاحتمال تعايش بين المختلفين، ليبراليين وشيوعيين واسلاميين وجميع من يحمل رأيا أو موقفا، لكن يبدو أن للنهضة رأيا آخر.. انغلاق سياسي رفضت حكومة حركة النهضة طيلة مسكها بمفاصل الحكم أي حوار مع مختلف مكونات المشهد السياسي ممثلين بالمجلس الوطني التأسيسي أو غير ممثلين، وكانت الحجة في ذلك «الشرعية».. بل ضربت عرض الحائط جميع محاولات تقريب وجهات النظر، والتخفيف من حدة التوترات والتجاذب الخطيرين اللذين اتسم بهما المشهد طيلة هذه الفترة، وانتهجت الحركة خطابا تخوينيا معاديا للمختلفين معها جميعهم بتنوع مشاربهم معتبرة اياهم «ثورة مضادة» وكأنما تحمل النهضة وحدها مشروع الثورة، ونسيت أنها وجميع الأحزاب أكدوا أن انتفاضة الشعب التونسي على النظام الزائل كانت هبة شعبية دون مراجع سياسية ولا أيديولوجية. من جانب اخر رفضت الحركة مبادرات جدية وطنية التفت حولها مختلف مكونات المشهد السياسي والمدني كمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل للحوار الوطني ولم تشارك بها، وانتهجت سياسة الهروب الى الأمام... بل انها شرعت لنفسها وحدها رسم سياسة الدولة ولم تحظ بأكثر من 40 بالمائة من مقاعد التأسيسي... وذيلت واستصغرت ارتفاع الأصوات حول تراكم مؤشرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالبلاد واعتبرتها «مؤامرات» تحاك ضدها..الى أن ردت الجماهير التونسية التي خرجت بمئات الآلاف «فجيعة» واحتجاجا على اغتيال الشهيد بلعيد، وتعبيرا عن رفضها لتواصل هيمنة النهضة... والدخول بالبلاد في منعرجات خطيرة قد تهدد أركان الدولة. مفاصل الدولة مذ توليها مقاليد السلطة، انطلقت مباشرة حركة النهضة في اعفاء الكوادر الكبرى بالبلاد وتعويضها بأخرى قريبة من الحركة، أو من أبناءها وقد بلغت التعيينات في أقل من تسعة أشهر على بداية اشتغال حركة النهضة أكثر من1200 مديرا عاما ورئيس مصلحة واطارا ساميا في الادارة، وهي محاولة من الحركة –لا يختلف حولها اثنان- للتحكم في مفاصل الدولة واخضاع المؤسسات لها، وهو ما أكدته مختلف مكونات المشهد السياسي والحقوقي التي نبهت من خطورة أن تعمل النهضة على إعادة سيناريو «الحزب الدولة» كما كان عليه الأمر في عهد الدكتاتورية. من ناحية أخرى عملت الحركة على تعيين أغلب الولاة من أبنائها، كما المعتمدين، وأيضا جددت نشاط العمد وعينت كثيرين منهم موالين لها، وقد شهدت البلاد أيضا محاولات انقلابية وتعويضا للمجالس البلدية، بأخرى موالية للحركة –رغم التوافق الكبير على مكوناتها-وشهدت المعتمديات والمناطق البلدية احتجاجات على هذه التسميات الموالية دونما اعتبار لمصالح المواطنين ولا لخصوصيات البلديات، وقد واجهت مكونات المشهد السياسي هذه الاجراءات والمخططات برفض شديد وتأكيد على أن النهضة تحاول مد عروقها والاستحواذ على جميع هياكل الدولة محليا وجهويا. اختراقات وأجهزة مشبوهة من جانب اخر صدمت أخبار من هنا وهناك الرأي العام لتؤكد أن الحركة تحاول جاهدة اختراق أجهزة الأمن في البلاد، وأن عددا من الكوادر تنسق مع منبليزير مقر الحركة، وهو ما راج في الآونة الأخيرة، حيث فجر زياد الهاني عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين أخبارا في هذا الاتجاه وطالب بفتح تحقيقات في ذلك، وواجهه رفض وتكذيب من وزارة الداخلية ومن قيادات حركة النهضة. وفي سياق متصل أكد مجلس الشورى –وهو أعلى سلطة قرار بحركة النهضة – دعمه بوضوح لمجالس وهيئات حماية الثورة، وهي «مكونات» ثبت تعديها على المختلفين مع سياسة النهضة، وعلى المنظمات الوطنية كما حدث في ساحة محمد علي واعتداء منتسبين لما يسمى «هيئات حماية الثورة» على النقابيين يوم احتفالهم بذكرى استشهاد فرحات حشاد، وبلوغ الأمر حد تورط عدد من المنتسبين لها في عملية قتل لطفي نقص المناضل بحركة نداء تونس بتطاوين. وتطالب جميع مكونات المشهد السياسي والحقوقي والمدني والنقابي، الحكومة بحل هذه الرابطات والهيئات التي أصبحت تعمل كسلط أمنية موازية وتهدد استقرار وأمن فئات من التونسيين، ويتهم هؤلاء النهضة بالوقوف وراءها، بل يعتبرها كثيرون جناحا «عنيفا» تابعا لهذه الحركة. وتؤكد الوقائع أيضا أن الحركة تنسق مع تنظيمات زعماؤها متهمون بتقويض أمن الدولة والعباد، كأنصار الشريعة وجمعيات ذات توجهات سلفية، بل ان عددا من قيادات الحركة معروفون بعلاقاتهم الوثيقة بهذه المجموعات وقد سبق للحبيب اللوز والصادق شورو تنظيم لقاءات وندوات مع هذه المجموعات، ويتسائل عدد من التونسيين عن «التوقيت وتحركات هذه المجموعات التي اقترنت أغلبها بأحداث هزت البلاد وكانت جميعها قريبة من مواقف الحركة وتوجهاتها». مخطط خطير ان الأوضاع التي بلغتها البلاد من احتقان سياسي شديد، وأزمة حكم هو نتيجة مباشرة لتوجهات حركة النهضة في المرحلة السابقة، بل ان عددا من المتابعين يعتبرون أن الحركة تحبك «مؤامرة» خطيرة على التحول الديمقراطي بالبلاد، خاصة أنها أبدت عداء شديدا لكل مختلف معها طيلة هذه الفترة. من جانب اخر فان تواصل الأوضاع الاقتصادية الخطيرة وتفاقم وضع نكوس التنمية والاستثمار وبلوغ نسبة التضخم المالي الى مستوى الستة بالمائة وهي نسبة لم تشهدها تونس من قبل، كما تردي الأوضاع الاجتماعية وتزايد الاحتجاجات الشرعية في مختلف أنحاء الجمهورية، يؤكدان أن الحركة لم تحكم على قاعدة برنامج اقتصادي واجتماعي ينهض بالبلاد ويبعدها عن الخطر وأنها عجزت في هذه المرحلة تماما أمام الملفات المطروحة على طاولة الحكومة... ولكن في المقابل فان الحركة تعمل على تغريق البلاد في التداين دون جدوى من ذلك كما يذهب الى ذلك المختصون الاقتصاديون، بل تعمل على تجسيم توصيات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي دون مفاوضات ولا حتى نقاش، حتى أن الشاذلي العياري رئيس البنك المركزي المعين من قبل الحركة لا يكاد يمر أسبوعا الا ويصرح غير راض على سياسة الدولة في الدعم وحاثا اياها لالغاء هذا الصندوق. ان الأوضاع التي تمر بها البلاد البلاد اليوم تتطلب من حركة النهضة «اعادة نظر» في سياساتها ومنهجها، ويتطلب أن تخطو خطوات مطمئنة للتونسيين ومغلبة للمصلحة العليا للوطن، عبر الحوار والقطع مع الخطاب والممارسة المعادية لكل مختلف معها، والا فان الحركة قد تساهم حتى «عن حسن نية» في مالا يتمناه جميع التونسيين للبلاد وقد بلغت الأزمة فيها حد الخطر.