عشرة أيام مرّت على رحيل الشهيد شكري بلعيد, ودويّ الزلزال مازال يهزّ البلاد ورجع الصّدى يملأ أرجاء العالم, والأكيد أن من دبّروا وخطّطوا للجريمة النكراء, لم يكن في حسبانهم أن يكون لاستشهاد بلعيد كل الصّدى الذي أحدثته داخليا وخارجيا, ولا شكّ أنهم ندموا على هذه المغامرة التي انقلبت عليهم انقلاب السحر على السّاحر. صباح الإعلان عن الجريمة البشعة, سارعت حركة النهضة على لسان رئيسها وشيخها راشد الغنّوشي بالإعلان عن يوم حداد وطني في محاولة لاستباق الأحداث وتطويق ردود الفعل التي سرعان ما تفجّرت من كل جانب, ولعل أهم ما حصل هو الاستنكار الشعبي الذي عّبّر عنه التونسيون والتونسيات بعفوية وتلقائية دون أن تكون لهم ارتباطات بأي حزب من الأحزاب، وإنّما هو ضمير الشعب التونسي الأصيل الذي أدرك بالفطرة والحدس بشاعة الجريمة التي راح ضحيتها واحد من أبناء الشعب رفض المحاصصة واستمات في إعلاء كلمة الحق وفضح سياسة اقتسام «الكعكة» من أطراف الترويكا وهي من آخر تصريحاته في قناة نسمة ليلة الغدر به. من آخر تصريحاته أيضا تحذيره من العنف المستشري والدعوة إلى مؤتمر وطني لنبذ العنف، وإذا به يسقط في صبيحة اليوم الموالي ضحية عملية غدر قذرة, ولتستفيق تونس في ذلك الصباح على أوّل جريمة سياسية دموية, اهتزّ لها الرّأي العام الوطني والخارجي، مثلما اهتزّ قبل إحدى وستين سنة مضت لاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد, لكن مع الفارق - ويا للمفارقات – أنّ حشاد اغتالته يد الاستعمار, بينما سقط بلعيد شهيدا وتونس حرّة مستقلة، وأكثر من ذالك سقط شكري بتخبّط في دمائه بعد ثورة الحرّية وهو الذي أسهم بقسط وافر يشهد به له الجميع في إسقاط الدكتاتورية.. ولعلّ ما زاد في لوعة التونسيين والتونسيات استماعهم باستغراب واندهاش إلى بعض الأصوات في الحكم، وكأنها تبرّر الجريمة أو على الأقل هي تحاول أن تقلّل من وقعها، مثل ما قاله الشيخ الغنوشي من أنّ كل الثورات في العالم رافقتها اغتيالات مماثلة، أو ما ذكره من أن الحزب الحاكم لا ينسف الأرض التي يقف عليها، في إشارة واضحة إلى تبرئة ساحة بعضهم، والحال أن المتفق عليه هو أن هذه الجريمة لم تكن لتحصل لولا التحريض المتواصل في المساجد والمنابر الإعلامية على المعارضة و»الكفرة» و»العلمانيين» بل تمّ التحريض بصفة خاصة على الراحل الشهيد شكري بلعيد في أكثر من مناسبة إن بطريقة مباشرة في المساجد أو بطريقة غير مباشرة مثلما حصل أثناء أحداث سليانة عندما صرّح وزير الداخلية بطمّ طميمه أنه كلّما تحوّل شكري بلعيد إلى جهة من الجهات إلا وأشعلها اضطرابات.. وحتّى يوم الجنازة ونقل جثمان الراحل إلى مثواه الأخير، فقد بدا وأن وزارة الداخلية استكثرت عليه تلك الجموع الغفيرة من التونسيين والتونسيات الذين غصّت بهم مقبرة الجلاز، ففنّدت الرقم الذي تناقلته وسائل الإعلام التي قدّرت عدد مشيّعي الراحل من مقر سكنى والديه بجبل الجلود إلى المقبرة بأكثر من مليون، لتؤكد على لسان الناطق باسمها أن العدد لا يتجاوز الأربعين ألف... ولسائل أن يتساءل ما الفائدة من أن تحشر وزارة الداخلية أنفها في تقدير عدد المواطنين الذين اكتووا بلوعة الفراق واهتزت ضمائرهم استنكارا للاغتيال السياسي وإراقة الدماء؟. الجواب واضح وجلي، وهو أن وزارة الداخلية إحدى مكوّنات الترويكا الحاكمة، رأت في الجنازة كما رأى فيها غيرها من الملاحظين في الداخل والخارج، أن تلك الآلاف المؤلّفة من التونسيين في العاصمة وسائر الجهات إنّما صوّتوا في ذلك اليوم الحزين، يوم 8 فيفري، تصويتا مباشرا صريحا لا لبس فيه للأنموذج التونسي الذي يريدونه، صوّتوا للحرّية والكرامة في ظلّ دولة مدنية، وبالتالي هم عبّروا بذلك عن رفضهم للنمط الهجين الذي يريده الحزب الحاكم لتونس والتونسيين. هذا هو بيت القصيد.. اغتالوا شكري بلعيد وفي حسبان من دبّر اغتياله إسكات صوت الفقيد إلى الأبد لتخمد بقية الأصوات ويستكين التونسيون والتونسيات ويلوذون بالصمت خوفا ورعبا، لكن العكس هو الذي حصل وهذا ما يفسّر ردود الفعل السمجة الرّخيصة التي زادت في الحطّ من شأن أصحابها وإعلاء مكانة الشهيد في الأفئدة والقلوب. كان من الواضح أنهم استكثروا على الشهيد كل تلك المكانة الرفيعة التي حازها لدى عامة التونسيين والتونسيات وردود الفعل التي أثارتها الجريمة في العواصم الكبرى، وهيأة الأممالمتحدة والهيئات الحقوقية والإنسانية في العالم، فعمدوا إلى سيناريو بائس بأن دعوا إلى وقفة نهضوية في شارع الحبيب بورقيبة أرادوها ردّا على الحضور الجماهيري الواسع في موكب الجنازة، ويا لبؤس السيناريو، وخطب من خطب في الجموع النهضوية التي لم تتجاوز بضعة العشرات من الأنصار، وأطلّ أحد رموز الجناح المتشدّد لطفي زيتون غير مدرك لخطورة الموقف بأن قال: «نحن مع شرعية صندوق الاقتراع، لكن إذا فضّل البعض شرعية الشارع فنحن لا نخشى الشارع». هذه دعوة صريحة إلى الفتنة والصدام والشيء من مأتاه لا يستغرب، فقد تعوّد الرأي العام على تصريحات هذا الرجل غير المسؤْولة. لكن ما علاقة جنازة شكري بلعيد بالشرعية؟ أليس للأموات حرمة؟ أليس للموت قدسية؟ وما بال هِؤلاء الذين يردّدون على مسامع الناس أنهم أتقياء يخافون الله، يتغافلون عن أبسط آداب الخشوع والانحناء أمام مصيبة الموت؟.. الجواب هو أنه مثلما كان الشهيد بلعيد لا يتردّد في فضح ما كان يسميها بحكومة الفشل، ها هو بعد استشهاده ينزع عن الجماعة ورقة التوت. نعم، بدا واضحا أن استشهاد شكري بلعيد أربك الجماعة وأفسد حساباتها، وبدل أن نراهم يخشعون مع الخاشعين ويشاطرون التونسيين والتونسيات حسرتهم ولوعتهم رأيناهم هلعين خوفا على «شرعيتهم» لا سيما بعد مباشرة الجبالي بتشكيل حكومة كفاءات، فرأوا في ذلك مسّا من الشرعية، وهذه مسألة أخرى ليس المجال هنا لمناقشتها وإما الذي يهمّنا هو استغراب التونسيين من أن ترى الجماعة تصبّ مخزون حقدها الأعمى على الفقيد وأنصاره وأحبابه ومن ورائهم عامة التونسيين الذين ملّوا الوعود والانتظارات، وعندما هبّ الاتحاد العام التونسي للشغل هبّته التي سيسجّلها له التاريخ بأن أعلن بلا تردّد وقوفه المبدئي مع الشعب التونسي في هذه المحنة، ورفضه العنف ومصادرة ثورة الحرّية والكرامة، ودعا إلى الإضراب العام، وصلت تهديدات سافرة تستهدف المنظمة الشغيلة في شخص أمينها العام حسين العباسي، ويا للخزي والعار، لكن عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، فهذه سقطة أخرى من سقطات الجماعة المدوّية، وهنا مكمن الخطر كل الخطر، إذ يبدو أن الماسكين بزمام السلطة، لم يستوعبوا ولو النزر القليل من الدروس التي كان من المفروض استخلاصها بعد استشهاد المرحوم شكري بلعيد. نحن ما زلنا إزاء خطاب سياسي متشنّج ومتصلّب يتغافل عن مكامن الداء الحقيقية وسبل الخروج بتونس من عنق الزجاجة، وستبقى الأمور على حالها أو تزداد تأزّما وتعقيدا ما دامت عقلية الاستئثار بالحكم هي المسيطرة بدل الانفتاح والتوافق لتتّسع تونس للجميع، وتبقى مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل ودعوته إلى حوار وطني واسع، المدخل الأنسب قبل فوات الأوان. ختاما، ومثلما جاء في كلمة التأبين التي ألقاها حمّة الهمّامي رفيق درب الشهيد «نم يا شكري قرير العين، فلا نامت أعين الجبناء»..