تعالت في الفترة الاخيرة بعض الاصوات منددة بتصاعد وتيرة الاضرابات النقابية ومنذرة بعواقبها الوخيمة على سلامة مناخ الاعمال وانكماش الاستثمار الخاص ونفور الاستثمار الاجنبي وتراجع النمو الاقتصادي وخلق مواطن الشغل، وموجهة أصابع الاتهام للاتحاد العام التونسي للشغل ولهياكله القطاعية الجهوية. وإزاء هذا التوصيف الكارثي والمنحاز للوضع الاقتصادي والاجتماعي في بلادنا فاننا لا نملك الا أنّ نواجهه بالمعطيات والارقام الرسمية التي تفند هذه الادعاءات بما لا يدع مجالا للشك حيث انها تفيد بما يلي: 1 ورد في تقرير الادارة العامة لتفقدية الشغل والمصالح صلب وزارة الشؤون الاجتماعية ان عدد الاضرابات لسنة 2012 انخفض بنسبة 8٪ مقارنة بسنة 2011 كما انخفض عدد العمال المشاركين في الاضرابات بنسبة 22٪ خلال السنتين وكذلك الشأن لنسبة المشاركة في الاضرابات (من 74٪ إلى 56٪) ولعدد الايام الضائعة التي تراجعت ب 22٪ ما بين السنتين. 2 الاغلبية الساحقة للاضرابات المسجلة سنة 2012 شملت مؤسسات خاصة (92,5٪) لا تحترم الاتفاقيات المبرمة ولا الحق النقابي ولا تقوم بخلاص الاجور في مواعيدها. 3 أكثر من خُمُسيْ الاضرابات (44٪) المسجلة سنة 2012 غير مقرّرة من قِبل الهياكل النقابية اي انها فجئية وعفوية نفذها العمال بسبب عدم تكفل اصحاب العمل بواجباتهم في توفير ظروف عمل وسلامة مهنية (49٪)، عدم صرف الاجور في مواعيدها (35٪) الاعتداء على العمال والنقابيين وتعطيل العمل النقابي (16٪). 4 أغلب اضرابات سنة 2012 جدّت في قطاع الخدمات والمناولة (23٪) المعروف بمخالفته لمقاييس العمل الدولية والتشريعات الوطنية. تمكن النقابيون سنة 2012 من إلغاء 69٪ من الاضرابات التي وجهوا بشأنها إنذارات من خلال حرصهم على الحوار وإنجاح جلسات المصالحة. سجلت مصالح تفقدية الشغل تراجعا بنسبة 32٪ ما بين سنتي 2011 و2012 في الاعتصامات ذات الطابع الشغلي وحدثت جل الاعتصامات اوكلها في القطاع الخاص (28٪ في الصناعات المعدنية والميكانيكية، 24٪ في الخدمات والمناولة، 16٪ في صناعة مواد البناء، 12٪ في النسيج...) ان كل هذه المعطيات الرسمية تغيد بان الاجراء ونقاباتهم اعطوا لحكومة الترويكا فرصة لاصلاح الاوضاع بعد الانفجار المطلي الذي عاشته الحكومة السابقة كما تفيد بان هذه الاضرابات ذات خلفية اجتماعية مهنية صرفة لا علاقة لها بالتسيس او بتوظيف الهياكل النقابية لخدمة اجندات حزبية معارضة لذلك فان نظرية المؤامرة تصبح حجة من لا حجة له وذريعة العاجز عن إدار الملفات الاقتصادية والاجتماعية والمتحصّن وراء الشرعية الانتخابية معتقدا انها تخول له عدم المساءلة والانغماس في تلبية مطامع الانصار وتأجيل او تناسي مطالب اصحاب الحقوق المشروعة. وفضلا عما تفيد به المعطيات الرسمية حول كثافة واسباب الحراك الاجتماعي فإن المرء لا يملك الا ان يتساءل حول الاسباب الحقيقية والاطراف الرسمية التي تقف وراء عدم تنفيذ حوالي 150 اتفاقًا ممضى بين سلطات اشراف ومؤسسات اقتصادية من ناحية وهياكل نقابية من ناحية اخرى. ان التحجج بمؤامرة من اجل تعطيل عمل الحكومة اصبح أمرا ممجوجا وسخيفا بل لا يرتقي الى الجدل لا سيما بعدَ ما قرأناه في تقارير المنظمات الاقتصادية الدولية حول تفاقم ظواهر مزعجة ومربكة تعوق الاستثمار وخلق مواطن الشغل والنمو والثروة مثل استشراء ظاهرة الرشوة والمحسوبية والتعيينات الحزبية والسياسية في الخطط الوظيفية وظاهرة تهريب السلع وعديد التجاوزات الاخرى لا سيما في الاسواق وفي الاسعار أمام عجز أو تورط المصالح الادارية التي كادت تصبح مشلولة بفعل ما لحقها من عزل عشوائي لاطاراتها وتشكيك في نزاهتهم وتعويضهم بانصار لا خبرة لهم في إطار نزعة جامحة نحو منطق الارضاءات والمكافآت واقتسام الغنيمة. إن النقابيين واتحادهم يقدرون دقة الظرف الاقتصادي حق قدره وعبّروا اكثر من مرّة على استعدادهم للتضحية ومازالوا يبذلون قصارى جهدهم لمنع اي انحراف بالعمل النقابي نحو المغالاة والتعجيز الا انهم لا يملكون إلاّ تأدية واجبهم النقابي في الالتزام بالحقوق المشروعة للاجراء ولعامة التونسيين المادية والمعنوية منها لاسيما حقهم في العمل اللائق ومستوى معيشي محترم وحقهم في التمتع بحرياتهم النقابية والسياسية. ان هذه الحملة ضد مشروعية الحراك الاجتماعي والمبالغة فيه لا يمكن ان تخفي حقيقة الدوافع للواقفين وراءها ولعل التحديدات الموضوعة لحق الاضراب في مسودة الدستور خير مؤثر لحقيقة هذه الدوافع والمقاصد. على أي حال فلن تنطلي، وللحديث بقية وللنضالات مواعيد.