لا يحظى المروي له بالعناية الكافية في التّعامل مع السّرد خلال المرحلة الثّانويّة. فالبرنامج الرّسمي للرابعة آداب، مثلا، يكتفي بالإشارة إلى الرّاوي دون المروي له ويفصّل نسبيّا القول في سبل دراسته. «الرّاوي: أنواعه- مواقعه- وظائفه»(1) والحال أنّ الرّاوي والمرويّ له من أبرز أعوان السّرد. وقد بات الاهتمام بهما- معا- من أبرز المشاغل المركزيّة في السّرديات الحديثة. ولئن كانت حظوة الرّاوي أسبق من حظوة المرويّ له فإنّ هذا الأخير لقي العناية الفائقة في التّنظيرات السّرديّة الحديثة وذلك تحت تأثير الدراسات اللّسانيّة وعلى وجه الخصوص النّتائج الّتي توصّل إليها إيميل بنفنيست Emile Benveniste في دراسة عمليّة التلفّظ، فكلّ تلفّظ يقتضي بداهة تفاعلا أو تواصلا بين باثّ ومتقبّل. يقول بنفنيست في هذا السّياق «... بمجرّد أن يعلن الباثّ عن نفسه ويمارس اللّغة حتّى ينتصب الآخر قبالته..»(2). ويعود الفضل في نحت مصطلح «المروي له» Narrataire إلى جيرار جينات Gérard Genette يقول مجسّما وعيه النّظري بنحت المصطلح «وقبل توضيح هذا البعد الأخير للعون السّردي لدى [بروست] علينا أن نقول كلمة أعمّ حول هذه الشّخصيّة الّتي اصطلحنا عليها [المروي له] والّتي تبدو وظيفتها في القصّة متغيّرة جدّا: المروي له هو أحد عناصر الوضعيّة السّرديّة شأنه في ذلك شأن الرّاوي»(3). ويبدو، في الدراسات النظريّة، سؤال الماهيّة ممّا أقحم العونين السّرديين في دائرة البحث والاستقصاء. فسؤال من الرّاوي؟ يشرّع لسؤال يقع في الطّرف المقابل هو سؤال من المروي له؟ ومن الأجوبة ما يضخّم دور الرّاوي فتقدّمه على أنّه سند عمليّة البناء الفنّي. يقول مثلا تودوروف Todorov في هذا السّياق «إنّ السّارد هو الفاعل في كلّ عمليّة البناء(...) فالسّارد هو الّذي يجسّد المبادئ الّتي ينطلق منها إطلاق الأحكام التّقويميّة، وهو الّذي يخفي أفكار الشّخصيات أو يجلوها ويجعلنا بذلك نقاسمه تصوّره [للنّفسيّة] وهو الّذي يختار الخطاب المباشر أو الخطاب المحكي ويختار التّتالي الزمني أو الانقلابات الزمنيّة»(4) ومثل هذا التّعريف- وأشباهه كثّر- يطرح العلاقة بين الرّاوي والكاتب وإذا سار أغلب المنظّرين للسّرد في مسار التّمييز الصّارم بينهما فإنّ بعض الدّارسين لا ينخرط في نعي المؤلّف ولا يقزّم دوره بل يحتفظ له بمكانة لائقة. يقول كيزر Kayser على سبيل التّمثيل: «لا يمكن أن يكون بأيّ حال من الأحوال الرّاوي هو الكاتب المعروف أو الّذي لم يعرف بعد ولكنّه دور أنشأه الكاتب وتقمّصه»(5). هذا ما ينطبق فيما نرى على الرّاوي في الرّحلة الغفرانيّة. وهي نصّ- كما هو معلوم- نشأ بفعل الاستطراد وأينع في رحم الرّسالة وقد ترتّب عن ذلك تحوّل في طبيعة الخطاب(من خطاب ترسّلي إلى خطاب سردي) وفي وضعيّة أطراف التّخاطب أبرزها شأن المعرّي الّذي تخلّى عن هويّة المُرسل ليتقمّص دور الرّاوي. ومن النقّاد من يقرّر التّماهي بين الرّاوي/الشّخصيّة الخياليّة والمعرّي/الإنسان(6) ولا أدلّ على ذلك من التّعليقات الّذي تعطّل السّرد وتذكّر بالخطاب الترسّلي الّذي يجهد المعرّي في الخلاص منه. ومن أبرز أمثلة تلك التّعليقات قول الرّاوي على شعر النّمر بن تولب العُكلي: «وهو- أدام اللّه تمكينه- يعرف حكاية [خلف الأحمر] مع أصحابه في هذين البيتين ومعناهما أنّه قال لهم، لو كان موضع [أمّ حِصن] [أمّ حَفص] ما كان يقول في البيت الثّاني؟ فسكتوا فقال حواري بلِمْص يعني الفالوذ. ويفرّع على هذه الحكاية فيقال لو كان مكان [أمّ حصن] [أمّ جَزء] وآخره همزة ما كان يقول في القافية الثّانية؟....»(7). ومن اليسير إسناد هذا التّعليق لشخص المعرّي لأنّه يجسّم حضور ثقافته اللّغويّة الموسوعيّة. فالمعرّي يتماهى مع الرّاوي لأنّه لا يحسن أحيانا التخفّي وراءه ولا يقوى دوما على تقمّص دور الرّاوي فينكشف حضوره الصّريح في مسار النصّ ولا يكون الرّاوي في أغلب الأحيان إلاّ صوت المعرّي نفسه والمبلّغ عنه. إنّ الرّاوي في الرّحلة الغفرانيّة عليه أن يكون شخصا معلوم الهويّة وما القصّة تبعا لذلك إلاّ تعبيرا عن «أنا» خارج الفضاء القصصي. ويمكن أن نسوق مثالا آخر عن التّعليقات الّتي تكشف هويّة الرّاوي الحقيقيّة، نعني بذلك مشهد الذبائح في المأدبة الّتي أقامها ابن القارح. يقول الرّاوي: «...فجاؤوا بالعماريس- وهي الجداء- وضروب الطّير الّتي جرتْ العادة بأكلها: كأبجاج العكارم وجوازل الطّواويس والسّمين من دجاج الرّحمة وفراريج الخُلد. وسيقت البقر والغنم والإبل فارتفع رُغاء العكر ويُعار المعز وثؤاج الضّأن وصِياح الديكة لعيان المُدْية»(8). لقد اختار الرّاوي من معجم الصّوت المفردات المجسّمة لحالة الفزع (رغاء- يعار- ثؤاج- صياح) وسبب الفزع رؤية تلك الحيوانات للمدية واكتشافها للمذبحة الّتي سيقت إليها وهذا المشهد بقدر ما يؤنسن الحيوان فإنّه يكشف تعاطف الرّاوي معه وهو تعاطف نجد تبريره في بعض مواقف المعرّي الأنطولوجيّة إذ عُرف الرّجل بزهده في لحم الحيوان ونزعته النّباتيّة. متأسّيا في ذلك بأهل الهند في تحريم الحيوان. يقول المعرّي في شعره: [غدوتُ مريض العقل والدّين فلْقني// لتسمع أنباء الأمور الصّحاح- فلا تأكلنْ ما أخرج البحرُ ظالما// ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح](9). إذن، ما يكشف حضور الكاتب/ المعرّي وما يحيل على مواقفه الأنطولوجيّة إنّما تعاطف الرّاوي الصّريح مع الذبائح من الحيوانات.. على هذا النّحو تنكشف بعض ملامح الرّاوي في الرّحلة الغفرانيّة فهو مجرّد دور تقمّصه المعرّي وقد يفرط في التقمّص فينسى نفسه ويظهر سافرا على ركح السّرد. ولا يفترق كثيرا شأن المروي له عن شأن الرّاوي فالتّلازم بينهما شائع في التّعريفات الّتي تروم حدّ ماهيّة المروي له. لأنّ المشترك بين الدّارسين في هذا السّياق هو الارتكاز على الوظيفة التّواصليّة الّتي تحكم الخطاب السّردي. فالمروي له حسب برانس Prince هو «الشّخص الّذي يوجّه إليه الرّاوي خطابه»(10). ويلحّ بعض الدّارسين على خياليّة هذا العون فهو مسيّج بالنصّ لأنّه «جزء لا يتجزّأ من الحكاية»(11) كما يقرّر روسي Rousset. ولم يتوان جينات عن تضخيم دور المروي له في العمليّة الإبداعيّة فهو يرى أنّ «الكاتب الحقيقي للقصّة ليس الّذي يسردها فحسب بل كذلك ذاك الّذي يستمع إليها وله أحيانا نصيب الأسد في إنشائها»(12). لعلّ المروي له الّذي يجسّم موقف جينات هذا ويقفز إلى الأذهان بصفة تلقائيّة هو شهريار «ففي ألف ليلة وليلة اضطلعت شهرزاد بدور الرّاوي وكان شهريار هو المروي له، وعلى تقبّله يتوقّف استمرارها في الرّواية بل عليه تتوقّف حياتها ذاتها، ولو تخلّى المروي له عن التقبّل لانقطع السّرد وقُتلت المضطلعة به»(13). ولا تخلو علاقة المروي له بالقارئ من إشكال فمن الدّارسين من يفصل بينهما فصلا صارما وباتّا غير أنّ كيزر- مرّة أخرى- لا يرفض التّمييز بين المروي له والقارئ بل يرفض الصّرامة في الفصل بينهما. فالرّاوي هو دور يتقمّصه الكاتب. كما لاحظنا سابقا والمروي له (القارئ حسب كيزر) بدوره دور سرديّ يتقمّصه القارئ. يقول «إنّ القارئ إنشاء خياليّ، ودور بوسعنا أن نتقمّصه (نحن القرّاء الحقيقيين) كي نرى أنفسنا بأنفسنا»(14). ومثلما كان التّماهي واضحا بين الرّاوي والكاتب في الرّحلة الغفرانيّة فإنّ المروي له فيها لا يقلّ تماه مع القارئ الحقيق. لقد ترتّب عن العدول في فنّ الترسّل «وقد وصلت (الرّسالة) الّتي بحرها بالحكم مسجورة، ومن قرأها مأجور»(15) إلى فنّ القصّ «...فقد غُرس لمولاي الشّيخ الجليل- إن شاء اللّه- بذلك شجر في الجنّة لذيذ اجتناء»(16) تحوّلا في وضعيّة ابن القارح من مرسل إليه معلوم موضعه في التّاريخ خارج النصّ إلى مرويّ له غير محدّد الهويّة بالضّرورة ويحتلّ موضعا داخل النصّ. وتتوفّر- فضلا عن ذلك- علامات عديدة تجعل المروي له مثقلا بإحالات مرجعيّة. فعبارة من قبيل «أنا أقصّ عليك قصّتي»(17) تعلن افتتاح سرد قصّة ابن القارح في المحشر كما هو معلوم وليس هذا ما يشغلنا بل المهمّ عندنا في هذا المقام تحديد هويّة المروي له وهو «تميم بن أبيّ» ومن معه من عوران قيس حسب سياق القصّة، فهويّة المروي له هويّة تاريخيّة. نفس الأمر ينسحب على عبارة الأعشى «سحبتني الزبانية إلى سقر..»(18) فهي عبارة تفتح قصّة دخوله الجنّة والخطاب موجّه إلى «الشّيخ» تلك الصّفة الّتي لازمتْ ابن القارح طوال الرّحلة ويكون التّطابق ههنا بين المروي له وابن القارح الّذي تعيّنه بعض الجواري باسمه التّاريخي «أتدري من أنا يا علي ابن منصور؟»(19) وتعيّنه الثّمرات في خاتمة الرّحلة بكنيته التّاريخيّة كذلك «وتناديه الثّمرات من كلّ أوْب وهو مستلق على الظّهر: هل لك يا أبا الحسن(ابن القارح) هل لك؟»(20). بل إنّ الرّاوي المتماهي مع المعرّي لا يتوانى عن خطاب صريح، في بعض السّياقات، يتوجّه به إلى المروي له المتماهي مع ابن القارح ولا أدلّ على ذلك من هذا الخطاب الّذي يبرّر استطرادات الشّرح والتفسير. يقول الرّاوي/المعرّي: «وذات أنواط كما يعلم..»(21) وتحدّد بنت الشّاطئ هويّة المروي له فتقول «الضّمير هنا للشّيخ ابن القارح علي ابن منصور»(22). إنّ هذا التّماهي الّذي تكرّس في الرّحلة العلائيّة بين الرّاوي/ الكاتب التّاريخي من جهة والمروي له/ القارئ التّاريخي من جهة أخرى يمثّل إشكالا واقعيّا أمام المواقف النظريّة الّتي تبالغ في عزل النصّ عن سياقه وتتعامل معه نظاما مستقلاّ بذاته منغلقا على نفسه (التّنظيرات البنيويّة والسيميائيّة) ولا يشكّك ذاك الإشكال في أنّ الرّاوي/المروي له من عالم الخيال (شخصيات خياليّة، من أعوان السّرد) وأنّ الكاتب/ القارئ من عالم التّاريخ ولكن العلاقة بين النصّ الفنيّ وسياقه التّاريخيّة قائمة ولا يمكن إلغاؤها وهي لا تثبت على وضعيّة واحدة فربّما قويت واشتدّت فيحدث التّماهي حدّ التّطابق حيث ينتصب الكاتب في نصّه مخاطبا قارئه على نحو مباشر وربّما خفتت وضعفت فيغيب التّماهي والتّطابق. ولعلّ هذه الإشكاليات هي الّتي وجّهت السّرد الحديث نحو تقليم مخالب الرّاوي والحدّ من صولاته وجولاته في النصّ بإخماد صوته وإعلاء صوت الشّخصيات فيطغى الحوار(بأنواعه المختلفة) على السّرد وتضحي الرّواية منطوقة ومعروضة على لسان الشّخصيات لا مسرودة كما هو الحال في رواية الشحّاذ لنجيب محفوظ. هوامش 1- سفر البرامج الرّسميّة اللّغة العربيّة المرحلة الثّانيّة مطبعة المركز الوطني البيداغوجي سبتمبر 2008 ص72 2- Emile Benveniste, Problèmes de linguistique générale éd. Gallimard 1974 T.2 p.82 3- Gérard Genette, Figures 3 Cérès éd. 1996 p. 406 4- تودوروف، الشّعريّة ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة دار توبقال للنشر المغرب ط2 1990 ص56 5- Kayser, Poétique du récit éd. Seuil paris 1977 p.70 6- محمّد القاضي «جماليّة النصّ السّردي» ضمن مؤلّف جماعيّ «في أنماط النّصوص الأبنية والتّأويل» سيراس للنشر تونس 2001 ص124 7- رسالة الغفران دار المعارف مصر ط8 سنة 1977 صص154/155 8- المرجع نفسه ص271 9- اللّزوميات تحقيق عمر أبو النّصر ط. دار الجيل بيروت د.ت. ص113 10- Gérard Prince, introduction à l'étude du narrataire, Poétique N14 1973 p178 11- Jean Rousset, la question du narrataire, (in) colloque de cerisy- Paris 1tri..1982 12- جينات صور 3 (مذكور) ص409 13- الصّادق قسّومة طرائق تحليل القصّة دار الجنوب تونس 2000 ص138 14- كيزر من يروي الرّواية (مذكور) ص68 15- رسالة الغفران 139 16- المرجع نفسه ص140 17- المرجع نفسه ص248 18- المرجع نفسه ص178 19- المرجع نفسه ص286 20- المرجع نفسه ص379 21- المرجع نفسه صص140/141 22- المرجع نفسه هامش ص141