روى لي أحد الثقات أنّ واحدًا من مناضلي الحركة الوطنية زار الزعيم الحبيب بورقيبة بمكتبه في بداية الاستقلال وطلب منه أن يوفّر شغلا لابنه. وبقدر ما كان الزعيم حريصا على خدمة المناضل، فإنّه كان أشدّ حرصًا على ان يكون الولد صنوا لأبيه، وربّما أفضل منه. لذلك، وحسب رواية الرّاوي فإنّ الحوار الذي دار بين قد يكون كالآتي: المناضل: لي ولد عاطل، أرجو ان تجد له شغلا الزعيم: هل أنّ ولدك مثلك؟ المناضل: «أطول وأخشن، لكن راسو صحيح» الزعيم: أقصد هل هو مناضل مثلك؟ المناضل: وما حاجتك بالمناضلين وقد انتهت كل المعارك؟ الزعيم: أمامنا معركة كبرى وأنا في حاجة لمناضلين من طراز خاص. المناضل: هذا (الولد) لا يصلح للمعارك أنا أريده أن يعمل حتى يستطيع أن يتزوج... الزعيم: وما المشكلة، أنا في حاجة لمناضلين.. المناضل: قلت لك أنّه لا يصلح الزعيم: هل يحذق صنعة؟ هل عنده شهادة؟ المناضل: لا. الزعيم: لا هو مناضل ولا هو يحذق صنعة، فماذا تريد أن أصنع معه؟ في أي شغل سأعيّنه؟ المناضل: معلّم مثلا. الزعيم: أمّا هذه فيلزمها شهادة. انتهى الحوار عند هذا الحدّ وخرج المناضل بدون نتيجة. ****** هذه قصة تذكرتها وأنا أرى أو أسمع عن الهيستيريا التي حلّت بجماعة الكرة عندنا بمناسبة انتخابات مكتب الجامعة بعد اسبوعين، واعلان قائمات المترشحين النهائية اليوم أو غدا. وحسبما تردد طوال الاسبوع من أخبار، فإنّ بعض الاسماء قد تكون سقطت، أو هي لم تترشح أصلا لأنّ أصحابها يفتقرون الى شرط الشهادة. (العلمية طبعا). وبتمسكها بهذا الشرط، تكون اللجنة الاولمبية أو اللجنة العليا او غيرهما من السلطات قد وضعت المترشحين لعضوية مكتب الجامعة في خانة الموظفين الذين سيجرى انتدابهم لشغل وظائف محددة وتنفيذ أوامر ومخططات مضبوطة مسبّقا، لا يناقشون محتواها ولا يقدمون بدائل عنها، لا شخصية لهم ولا إستقلالية... والله نحمد أنّ مثل هذا الشرط لا يطلب من المترشحين الى مجلس النواب ولا الى مجلس المستشارين، كما أنّه لا يطلب من المترشحين والمترشحات الى قيادات ومكاتب الإتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحر والاتحاد الوطني للمرأة التونسية، كما لا يطلب من المترشحين الى المكاتب القيادية واللجان المركزية والمجالس الوطنية للاحزاب السياسية والبلديات والجمعيات والهيئات، كما أنّه لا يطلب في عدد غير محدد من الوظائف ذات الصبغة الاستشارية أو حتى التنفيذية. فهذه الهياكل او المنظمات او الاحزاب تضع القوانين المسيّرة للبلاد وتناقش أعوص المسائل ولها أهلية اتخاذ أصعب القرارات.. وان أحصينا فإننا لن نفي أيّا منها حقه في ما حققته البلاد من تقدّم وازدهار وسمعة مشرّفة. ***** وبالعودة الى كلام الزعيم، فإننا نقول اليوم أنّ جامعة الكرة عندنا في حاجة الى مناضلين يذوبون في خدمتها لا يبخلون عليها بل على البلاد بأي جهد، يتطوّعون، يفكرون، يخططون، يخدمون الصالح العام. فما يأتيك به المناضل، المحنّك، المحتك بالناس، القريب من الجماهير، قد لا يوفّره لك صاحب الشهادة (العلمية) مهما أوتي من علم وتدقيق واختصاص. انظروا الاستشارات والمؤتمرات والندوات. وأنا اتصوّر بالمناسبة أنّ عددا كبيرا من مسؤولي الجمعيات الرياضية ممن هم من المناضلين القاعديين الحقيقيين، قد حرموا من حق الترشح لعضوية مكتب الجامعة القادم نتيجة هذا الشرط، رغم اقدميتهم في التسيير وإدارة الجمعيات. وبالعودة الى كلام الزعيم مرة اخرى فإننا نحتاج ايضا الى اصحاب الشهائد، وأنا بالمناسبة اطالب بان يقع انتداب موظفين ممن يحملون أعلى وأكثر الشهائد ليتولوا المناصب الادارية، المدير الاداري ومن معه من الموظفين، المدير المالي ومن معه من خبراء المال والتوظيف، مدير العلاقات الدولية، موظفون يتقنون كل اللغات وخاصة الانقليزية والالمانية والاسبانية والبرتغالية والروسية ولما لا الصينية والتركية واليونانية والصربية (الاجازة على الاقل) موظفو علاقات عامة، قانونيون، اجتماعيون، نفسانيون، اعلاميون واتصاليون، هؤلاء هم أساس العمل التنفيذي، هم «التقنوقراط»، يعدّون الملفات، يحضرون السيناريوهات المحتملة لكل مسألة، لكلّ قرار، يسبقون الاحداث، ينبّهون، يدققون... وهكذا يتكامل الطرفان.