أثارت الانتقادات التي وجهها مجلس إدارة البنك الدولي الى رئيسه المباشر بول وولفويتز اهتمام كل الملاحظين، على خلفية تعمّد هذا الأخير إسناد ترقية استثنائية غير مستحقةلأمرأة تجمعه بها علاقات غرامية. وقد ترتبت عن هذه الترقية مكافأة رفيعة، في مخالفة التراتيب المعمول بها في منطوقها القاضي باقتراح المشروع والتفاوض في خصوصه مع المصالح ذات النظر صلب إدارة البنك وفيما تداولته الصحافة الأمريكية من معلومات، فإن هذه العشيقة قد حازت دخلا أرفع من دخل وزير الخارجية الأمريكية الحالية! وعندما أثار أعضاء مجلس الادارة هذه الممارسة، وتوجهوا بالنقد للرئيس المباشر، فإنهم قانوا بما تمليه عليهم طبيعة مهامهم بدون أي شكل من أشكال التزلف والخوف والمحاباة اعتبارا للسطلة التي يتمتع بها الرجل. ولأن قوانين اللعبة واضحة في صلب المؤسسة فلم يجد الرئيس بدا من تقديم اعتذاراته على ما صدر منه معترفا في ندوة صحفية علنية بأنه أخطأ وخالف الإجراءات وأنه على استعداد تبعا لذلك للقبول بأي إجراء يتخذه مجلس إدارة المؤسسة ضدّه! في بلدان متخلفة ومسكينة أموال شعوبها، تنهب الأموال العمومية بسخاء أناء الليل وأطراف النهار بصيغ وأساليب متعددة، وتسندُ الترقيات المجانية لصديقات الفاعلين وأصدقائهم كلّ حسب مقامه ومستوى تسلطه وتعطى المكافآت والمناصب بمقاييس الانتفاعية ومنطق «الأقربون أولى بالمعروف» و «ردّ التحية بأحسن منها» ما دام «نهرو وارد وجاي من الصعيد» على حدّ تعبير صديقنا احمد فؤاد نجم، وهو منطقٌ ينتعش من مقدرات الناس ومتاعهم ! وما أكثرها التجازارت من هذا القبيل ونحوه في قارتنا الافريقية، وفي عالمنا العربي حيث يعتبرُ المتصرف نفسه مالكا شخصيا مطلقا للوسائل والمقدرات التي توفرها له، فيسوغ لنفسه باستعمالها بدون مراعاة الضوابط والتشريعات المؤطرة للتصرف الوظيفي وليس الشخصي لهذه المقدرات. والفرق بيننا وبين هذه البلدان التي سبقتنا سبقا حضاريا بأشواط زمنية معقدة، هو أن أجهزة الرقابة عندهم فاعلة، وصحافتهم تتوفّر على قدرات انتصار للحقّ وللشرعية هائلة، وأن الأفراد لا يتمتعون في أدائهم لوظائفهم بأي ارتقاء عن المحاسبة والمساءلة، وبأي شكل من أشكال الحصانة الضمنية. ولذلك فحتى التجاوزات القانونية التي تحدث ويقترفها بعض المسؤولين في هذه البلدان فإنها لا تمر مرّ الكرام كما هو الحال في هذه البلدان المسكينة التي ينهبها أول ما ينهبها مسؤولون فيها! ولأن أجهزة الرقابة في هذه البدان صورية يؤلفها متواطئون خوافون وصحافتها ملجمة مغلولة الإرادة ومورطة بشتى صيغ التورط فإن عمليات النهب والاعتداء المعلومة هنا وهناك يلفّها التعتيم والكتمانُ، ولا تستبد بها إلا الاشاعة الشعبية بما يطبعها من سعة خيالٍ وتجنيح ومبالغة. وتلك ضريبةغياب الحريات الصحفية وتحديدات حرية التعيير! وبالعودة للرئيس الحالي للبنك العالمي فإن الذاكرة تفرض استحضارات شغل وظائف نائب لوزير الدفاع الأمريكي، ولئن لم تفصح الصحافة الأمريكية عن قيامه بتجاوزات في هذه الخطة المُغرية، والمرشحة لفتح شتى أنواع الشهيات طبيعة أن قطاع الدفاع يكتنفه ضرورة التكتم والسرية، فإن الأيام قد تكشف ما يقرفُ وما يُحبط ! أما إذا عدنا للبنك العالمي فإن تبجحه بمحاربة الفساد في البلدان التي يتعامل معها البنك، لا يُمكنُ أن تكتمل صدقيتهُ إلا إذا كنس في عقر داره، وطال هذا النوع من الفساد وهو كذلك الذي أتاه رئيسه! كما أن العمل على مساعدة البلدان الفقيرة لتقليص دائرة الفقر فيها لا تستقيم أصولهُ إذا لم يحارب الفقرُ الفكري الذي يقبلُ بتجاوز القانون والأخلاق ويغلّبُ الأبعاد التشخيصية الذاتية على الأبعاد الموضوعية الكفيلة وحدها بضمان مصداقية المؤسسات التي تخلقها الى حدّ كبير مصداقية القائمين عليها. ولوسادت الشفافية وانتصرت الحقيقةُ في عدد من هذه البلدان المتخلفة لامتلأت السجون ومراكز الاعتقال بالمتطاولين من كل حدبٍ وصوبٍ على مقدرات وإمكانيات المؤسسات التي أشرفوا ويشرفون عليها، ولطالت المحاكمات الاموات والاحياء منهم على حدّ سواء! ولكن غياب الحريات واستشراء العنف المادي والمعنوي الرمزي هو دعامة هؤلاء المتطاولين التي تغطي ألاعيبهم، وتضمن لهم الارتقاء فوق المساءلة والمحاسبة وتسترُ عوراتهم ! وطالما أن دوام الحال من المحال ... فهذا ما قاله جعفر ماجد في قصيدة «الصباح الجديد». «تخبّرنا الأيام في كلّ لحظة بأن صباح الجائعين قريبُ ستسقط أصنام الطغاة