قتلى بهجوم "مدمر" على تل أبيب وحيفا وبزشكيان يؤكد الصمود    هجوم صاروخي إيراني غير مسبوق على إسرائيل ودمار واسع في كل مكان    بوادر مشجعة وسياح قادمون من وجهات جديدة .. تونس تراهن على استقبال 11 مليون سائح    الكرة الطائرة : المنتخب في إيطاليا وبن عثمان يحتجب    القيروان .. إستعدادا لاجتياز مناظرتي السيزيام والنوفيام .. جلسة توعوية للإحاطة بالتلاميذ وأوليائهم    بعد ترميمه فيلم "كاميرا عربية" لفريد بوغدير يُعرض عالميا لأوّل مرّة في مهرجان "السينما المستعادة" ببولونيا    مديرو المهرجانات الصيفية يواجهون صعوبات .. بين مطرقة ارتفاع كلفة الفنانين وسندان أذواق المتفرجين    المالوف التونسي يضيء ليل باريس    إجراءات لدعم التشغيل    اليوم انطلاق مناظرة «السيزيام»    رقم أخضر    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس العالم للأندية :باريس سان جيرمان يضرب أتليتيكو مدريد برباعية    تونس: حوالي 25 ألف جمعية 20 بالمائة منها تنشط في المجال الثقافي والفني    مدنين: حملة نظافة بجربة اجيم لجمع النفايات البلاستيكية    إطلاق خارطة السياسات العمومية للكتاب في العالم العربي يوم 24 جوان 2025 في تونس بمشاركة 30 دار نشر    وزارة المالية تعين لمياء بن اسماعيل في خطة امين مال عام للجمهورية التونسية    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    هكذا سيكون طقس الليلة    حملات الشرطة البلدية تسفر عن مئات المخالفات في مجالي الأمن والصحة    قافلة الصمود تدعو الراغبين في العودة إلى تونس لتسجيل أسمائهم في موقع التخييم بمصراتة    كأس العالم للأندية 2025: بنفيكا يواجه بوكا جونيورز وتشيلسي يفتتح مشواره أمام لوس أنجلس غدا    "إسرائيل تلجأ لتفجير سيارات مفخخة في طهران".. مصدر مطلع يكشف    المبادلات التجارية بين تونس والجزائر لا تزال دون المأموال (دراسة)    وزارة الصحة: اختيار مراكز التربصات للمقيمين في الطب ستجرى خلال الفترة من 16 الى 19 جوان الجاري    لجنة انتداب تابعة لوزارة التربية العمانية تزول تونس الاسبوع المقبل (وكالة التعاون الفني)    فيلم "عصفور جنة" يشارك ضمن تظاهرة "شاشات إيطالية" من 17 إلى 22 جوان بالمرسى    زفاف الحلم: إطلالات شيرين بيوتي تخطف الأنظار وتثير الجدل    دورة برلين المفتوحة للتنس: انس جابر في الجدول النهائي بفضل بطاقة الخاسر المحظوظ    مطار النفيضة يستقبل أول رحلة مباشرة من مولدافيا    لماذا تستهلك بعض السيارات الزيت أكثر من غيرها؟    المُقاومة اليمنية تقصف إسرائيل بالتنسيق مع إيران..#خبر_عاجل    وزارة الصحة تُعلن رزنامة اختبار اختيار المراكز للمقيمين في الطب    إتحاد الفلاحة بباجة يدعو إلى مراجعة سلم تعيير الحبوب بسبب تدني الجودة جراء الأمطار الأخيرة [فيديو]    الإعلامية ريهام بن علية عبر ستوري على إنستغرام:''خوفي من الموت موش على خاطري على خاطر ولدي''    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    الترجي الرياضي يعزز ثقة باسم السبكي بقيادة الفريق لموسم جديد    باجة: سفرة تجارية ثانية تربط تونس بباجة بداية من الاثنين القادم    جلسة عمل بولاية تونس حول مدى تقدم مخطط التنمية 2026-2030    كأس العالم للأندية 2025 - الوداد المغربي يتعاقد مع المدافع البرازيلي غيليرمي فيريرا    بنزرت: مشاركة قياسية ضمن أول دورة من فعاليات "نصف ماراطون بنزرت"    هل يمكن أكل المثلجات والملونات الصناعية يوميًا؟    موسم واعد في الشمال الغربي: مؤشرات إيجابية ونمو ملحوظ في عدد الزوار    السلطات الليبية: ''قافلة الصمود'' دخلت ليبيا بشكل قانوني    "فارس": إيران تسقط 44 مسيرة إسرائيلية على الحدود    مقترح برلماني: 300 دينار منحة بطالة و450 دينار للعاجزين عن العمل    الأهلي يُعلن غياب إمام عاشور رسميًا بعد إصابته أمام إنتر ميامي    إيران تعرب عن استيائها من "صمت" وكالة الطاقة الذرية    العثور على شقيق الفنانة لطيفة العرفاوي متوف داخل منزله    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    درجات الحرارة هذه الليلة..    المدير العام لمنظمة الصحة العالمية يؤكد دعم المنظمة لمقاربة الصحة الواحدة    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    خطبة الجمعة .. رأس الحكمة مخافة الله    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    موعدنا هذا الأربعاء 11 جوان مع "قمر الفراولة"…    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف عبّد المثقّف الطريق للأصوليّة؟
المثقّف العربي بين الشعبويّة والانهزاميّة: سمير بسباس
نشر في الشعب يوم 26 - 05 - 2007

يشوب مصطلح المثقّف شيئا من الغموض. فرغم وجود عديد التعريفات يظلّ مفهوم المثقّف قابلا لعديد التأويلات. كلّنا مثقّفون ومفكّرون بدرجة أو بأخرى كما أنّ حصر الفكر في القدرة على تبليغ الآراء من خلال الكتابة يجعلنا نتغاضى عن أشكال الثقافة الأخرى (الفنون والصنائع) ... هل نحصر المثقّف في ذاك الأكاديمي الحاصل على الشهادات العليا والخبير في أحد الميادين؟ أم أنّ المثقّف هو كلّ من اعتنى بالشأن العام وحام بفكره وخياله حول قضايا تتجاوز ميدان اختصاصه وأراد من خلال فكره أن يكون لسان حال الكونيّة حتّى وإن فكّر من داخل إطار ثقافي محدّد؟ أمّا إذا اعتبرنا أنّ المثقّف هو ذاك الذي يمكن أن يؤثّر في المستقبل وفي تطوّر مجتمعه أو حتى المجتمع الإنساني قاطبة من خلال إنتاجه الفلسفي والفكري والفنّي والأدبي أو توظيفه للكلام من خلال صياغة عميقة لأفكار عامّة فإنّنا سنضطرّ في هذه الحالة إلى تصنيف المثقّفين. لكن هذه التصنيفات تظلّ نسبيّة وقابلة للمراجعة.
نحن نمرّ بفترة تختصّ بسمات عديدة لعلّ أبرزها تعمّق أزمة الفكر (عربيّا وعالميّا) التي تعود إلى افتقاد المجتمعات المعاصرة للدّلالات والمعايير وهيمنة ظاهرة الاستهلاك وتردّي الإنتاج الثقافي والفنّي وسقوط الفكر عامّة في أحبولة التفكيك والتأويل وهيمنة وسائل الدّعاية والإعلام وتراجع نسبة المواطنين الذي يطالعون الكتب أدبا وفكرا وتفكّك الخيوط التي تربط بين المثقّف والمجتمع. لكنّ التاريخ علّمنا أيضا أنّ الأفكار المبدعة والإنجازات الفنّية الباهرة تبرز عادة في ظروف الأزمة والتراجع بحيث تكون ردّا عليها وتجاوزا لها.
في اعتقادي أنّ المثقّف الأصيل هو ذاك الذي يحوم بفكره إلى أبعد مجال ممكن ويعتني بالشأن العام ويتوجّه للواقع (ماضيا وحاضرا ومستقبلا) لا ليستجيب له بل ليواجهه. لا يعني ذلك أنّ نشاطه هذا سيجعل منه حكيما أو مرجعا أو بحرا من العلوم فتتحوّل أفكاره إلى أحكام نهائيّة ومطلقة تماما كما أنّ رجل العلم أو الخبير لا يمكن له أن يلمّ بكلّ جوانب القضايا سواء التي تتعلّق بميدان نشاطه أو تلك التي تتجاوزه.
فالمثقّف الأصيل يرفض الضمان (garantie) والرّاحة ويعترف بجهله وهو يطوّر مقارباته ورؤاه. فكلّما أثارت أفكاره النقد والتساؤل إلاّ وكان ذلك حافزا لتطوير الفكر. هو لا يتوقّف عند النقطة التي توقّف فيها أسلافه ولا يكمّل ما بدؤوه بل يتجاوزه خلقا وإبداعا وتجديدا. فهو يتوجّه بالنقد والتمحيص للإرث الرجعي والمتخلّف والأحكام البائدة والفكر الموروث والمحنّط. يتوجّه المثقّف للعالم (الكون -الإنسان - المجتمع -الفكر - المعرفة)... بصفته قابلا للفهم والصّياغة ولكن هذه القابليّة لا تتوقّف ولا تُستنفدُ في أيّ فكر محدّد. فهو يقف على مسافة من ذاته ومن لا وعيه ومن تاريخه وأفكاره السابقة والحاضرة وسلوكه. الفكر الخلاّق هو انفتاح على الحرّيّة وامتحان لموت الأفكار وبالتالي القبول بامتحان الحرّية بما في ذلك حرّية صياغة الأفكار الجديدة. يتوجّه المثقّف للكلّ التاريخي-الاجتماعي-النفسي-البيولوجي «المادّي» مع أنّ تعريف المادّة أصبح اليوم مثيرا للجدل) ولكن هذا لا يعني أنّ فكره سيلخّص هذا الكلّ ويحتويه في نسق معرفي محدّد . (كمثال على ذلك: نظريّة الأنساق العامّة وقوانين التاريخ الماركسيّة والداروينيّة.
لا يمثّل المثقّفون طبقة خاصّة أو طليعة كما يتراءى للبعض. ثمّة من يعتقد أنّ امتلاكه لناصية العلم والمعرفة والثقافة (في ميدان محدّد) والقدرة على التنظير سييسّر له طريق السلطة ويخوّل له أن يتكلّم باسم الشعب. لقد راج هذا المعتقد في العشريات الأخيرة وقد يكون مردّ ذلك تنامي سلطة التكنوقراط والخبراء والبيروقراطيّة بصفة عامّة وهذا التوجّه نلتمسه في أوساط اليمين واليسار على حدّ سواء. في الحقيقة فلقد اندمج جزء هامّ من هؤلاء المثقّفين في الجهاز البيروقراطي والأكاديمي وفقدوا كلّ تميّز وفرادة. «يميل بعض المثقّفين الذين يهتمّون بالأفكار العامّة والشأن العام إلى تضخيم أعمالهم النظريّة بل يتوهّمون أنّهم قد اكتشفوا حقيقة المجتمع والتاريخ والكون وجسّدوها في « العقل « (La Raison) أي من خلال النظريّة ولا من خلال دراسة الحركة الفعليّة للتاريخ وللنشاط الحيّ للبشريّة إن على المستوى الاجتماعي والتاريخي أو العلمي. إنّهم يخفون ما أمكن حركة التاريخ بصفته بناء وخلقا لأشكال ومؤسّسات ويستعيضون عنها بأفكار جاهزة ومثبّتة. يصبح المثقّف في هذه الحالة خطرا على نفسه وعلى التاريخ وعلى غيره أيضا» :
1986 Seuil Cornélius Castoriadis, Domaines de l'homme,
يمكن للمثقّف أن يساهم في حركة التاريخ ولكن ذلك لا يعني بالضرورة الانتماء لحزب من الأحزاب أو الخضوع للأوامر أو التوقيع على عرائض ولكن أن يتصرّف كمواطن لا أكثر.
المسار من الفكر إلى السياسة ليس حتميّا ولا يُطلب من المثقّف أن يكون بالضرورة رجلا سياسيّا، فما يجمع المثقّف والسّياسي هو التّوق إلى الحرّية. تاريخيّا ارتبط ظهور الفلسفة بنقد التمثّلات الاجتماعيّة السائدة والنظرة المهيمنة للكون والتاريخ . إذن المثقّف الأصيل هو ذلك الذي يرفض فكرة «كلّ ماهو عقلاني فهو واقعي وكلّ ماهو واقعي فهو عقلاني» (هيجل) إنّه يؤثّر في المجتمع ولكن دوره هذا لا يتعدّى كونه مواطنا، فصفة المثقّف لا تزيد في مواطنته شيئا.
أن يكون المثقّف مواطنا فهذا لا يعني أن يتحوّل إلى مثقّف شعبوي. يدّعي المثقّف الشعبوي بأنّه ملتصق بالحياة اليوميّة وأنّه يستقي أفكاره من الشعب ومن الواقع وكأنّ هذا الأخير ينطبع في ذهنه فيصبح تفكيره مرآة للواقع.
«من أين تأتي الأفكار السعيدة؟ « من الواقع؟!
لكن متى حمل الواقع معه أفكارا؟ فحتى وإن كان فكرنا مقاربة للواقع فهذا لا يعني أنّ الأوّل نسخة من الثاني. إذن يدّعي المفكّر الشعبوي أنّه يستمدّ فكره من الواقع الاجتماعي بحيث يعبّر عن «روح الأمّة» وتطلّعاتها. لكن لا يمثّل هذا الادّعاء سوى قناعا إيديولوجيّا يخفي نزوعا سلطويّا يتلحّف بالدّفاع عن طموحات الشعب والتعبير عن رغباته. إنّه نقيض الفكر. فالفكر هو أوّلا وأساسا بناء، تصوّر وخلق. المثقّف الشّعبوي هو «لسان الشعب « و» صوته» لكن «الشعب « أو « الإنسان - الجمهور « l'homme-masse كما يقدّمه لنا المثقّف الشعبوي ليس سوى صورة كاذبة وتصوّرا مبهما في ذهنه. فهو يعتقد أنّ مسايرته للفكر المهيمن والغالب سيجعل منه نجما وهو لا يتوانى عن إعلان نبوءات سياسيّة واجتماعيّة-تاريخيّة تكون نتيجة لاستقرائه للأوضاع.
لكن من قال أنّ تطلّعات الشعب تتوافق مع المصلحة العامّة؟ أليس من الجائز أن تكون التصوّرات المهيمنة في المجتمع هي العائق الأساسي أمام نهضته؟
لقد فهم المثقّفون الشعبيون أنّ الغالبيّة ترتاح للوثوقيات وهم الذين يتقنون فنّ إطراب الجموع في نفس الوقت الذي ينتشون فيه لتصفيقها. هم يقدّسون الجمهور والإنسان-الجمهور المتطابق ويحصلون من مجاراتهم للتيار على مكسب ورزق وينتحلون منازل متعدّدة الأوجه: المثقّف الملتزم، المثقّف التراثي، المثقّف الأصولي... يحدث أن يكون المثقّف الشعبوي مقاولا وتاجر كلام يسوغ أحكاما ومواقف ويرسّخ مفاهيم بائدة ويصوّر الواقع في شكل ناصع ويستحضر الماضي في مظهر ملائكي، طاهر وعفيف ويستغلّ في ذلك مركزه الأكاديمي وعلاقاته. بمجرّد أن تنهار مشاريع الشعبويّين وتنبّؤاتهم وتسقط أوهامهم يلعنون الشعب وأب الشعب وينتقلون بسرعة السهم إلى مواقف انهزاميّة ويصبحون من سدنة الأقوياء يروّجون لمشاريعهم الهيمنيّة.
نعود لنؤكّد أنّ المثقّف الأصيل يكشف زيف المفاهيم السائدة والبالية ويثير التساؤل ويمكن أن يسير عكس التيار وصولا إلى معارضة رأي الأغلبيّة. لقد أخطأ أرسطو عندما رأى أنّ «الإنسان حيوان يبتغي المعرفة» «في الحقيقة الإنسان حيوان يبتغي بالأساس الإيمان والرّاحة والحقيقة الوثوقيّة» (كاستوريا ديس: نفس المصدر).
أن يتحمّل المفكّر مسؤولياته فذلك لا يعني أنّه ينطوي على نفسه ويترفّع على الشعب ويحتقره. فلقد ارتبطت نشأة الفلسفة بظهور ميدان للنقاش وساحة عموميّة لتصارع الأفكار فكان المفكّر و (الفيلسوف) مواطنا يمارس حياته الاجتماعيّة ككلّ الناس، لكن أفلاطون جاء بفكرة ضرورة انسحاب الفيلسوف من المجتمع والمدينة وترفعة عن العامّة واعتبر أنّ التفكير صفة خاصّة بالقلّة النيّرة وقد ترك هذا الموقف آثاره على مسيرة الفلسفة والفكر بصفة عامّة. لقد عبّر الطيب التيزيني عن هذا الموقف حينما صرّح: «إنّ جماهير الشعب متخلّفة ومعادية للفلسفة... لذلك يخاف الفلاسفة من اختلاط فلسفتهم الرّاقية وتفكيرهم المتميّز مع الشعب». إنّه نفس موقف الفقهاء الذين يعتبرون أنّ أغلبيّة الناس بسطاء لا يفقهون في الأصول شيئا لذلك فلا بدّ لهم من فقيه راسخ في العلم يرشدهم إلى طريق الصواب ويأخذ بأيديهم وهم خنوعون. لهم ظاهر اللّفظ ولنا الفتاوى والأحكام.
في الواقع إنّ موقف المثقّف النخبوي المرتفّع هو الصورة الأخرى للمثقّف الشعبوي. كلاهما يحتقر الشعب، فهذا ينتج تفكيرا ضبابيّا سفسطائيّا عسير الفهم يتوجّه به إلى النخب وذاك يستجيب ل»رغبات» الشعب ولنقل يخادعه ويخاتله ويتظاهر بمسايرة معتقداته ورؤاه.
المثقّف العربي والتّمحور على الذات
منذ بروز الشذرات الأولى لفكر النهضة كان جليّا أنّ هذا الفكر بتلوّناته العديدة يعاني من جرح أليم اسمه انحطاط الحضارة العربيّة الإسلاميّة. فنفكّك هذه الحضارة وخضوعها لعقود من الزمن للهيمنة الاستعماريّة أثّر بصفة بليغة في الفكر العربي. فهذه الحضارة التي كانت تبزغ فيها الشمس وتغيب في نفس الوقت والتي امتدّ نفوذها من أقاصي آسيا إلى عمق أوروبا تتفتّت إلى كيانات مشتّتة ويعشّش فيها الفكر الخرافي. كان محور النقاش هو القيام بتجديد ديني والأخذ من الغرب مع الحفاظ على الهويّة وكان أغلب المفكرين يرون أنّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة بحاجة لمشروع إصلاحي يرفع لواءه مستبدّ عادل « فالسبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان» (محمد عبده : رسالة التوحيد، طبعة المسار، القاهرة، ص19 ) وما «تقدّم « الغرب الاستعماري إلاّ نتاجا «لسُبَاتِ من له حقّ وحراك من لا حقّ له « يمكن القول أنّ الفكر الإصلاحي كما عرفناه لدى الطهطاوي وخير الدين والكواكبي وعلي عبد الرازق لم ينتصر بل لقد «انتهى هذا المسار تماميّا متحجّرا «(عبد المجيد الشرفي : الإسلام والحداثة، الدار التونسيّة للنشر، 1990، ص210 ) وكانت الغلبة للفكر الأصولي والتراثي.
فلقد تمحور الفكر العربي أساسا حول قضايا الذات والهويّة. فالتأكيد على التراث لم ينبع من وعي بضرورة المراجعة والنقد لتحرير الذات والفكر والانفتاح على أفق جديدة بل كان يجسّد هروب المثقّف العربي من دراسة الواقع المعاش والاختفاء وراء التراث والماضي ولو ب »نقده « والسّقوط في ما سمّاه البعض في لعبة النصوص . اعتنى المثقّفون العرب بالثقافة المكتوبة أو كما يسمّيها البعض بالثقافة العالمة والحال أنّها «ليست سوى جزءا من الثقافة كان ضئيل الحضور إن لم يكن هامشيّا كالفلسفة الإسلاميّة» (علي أومليل : في التراث والتجاوز : المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، 1990، ص16 ) وحتّى وهم يدرسون هذا التراث المكتوب فإنّهم لم يتساءلوا عن أسباب «غياب المجتمع والسياسة كما كانا في الواقع الفعلي في الأدب السياسي الإسلامي « (نفس المصدر).
تغلّبت النزعة التبريريّة في دراسة التاريخ والتراث الفكري العربي الإسلامي. الكلّ يريد أن يبيّن أنّ «بواكير الفكر المادّي» (حسين مزوّة) والعقلاني (محمد أركون محمد عابد الجابري) والدّيمقراطي (محمد أركون حسن حنفي علي حرب).. موجودة في التراث.
يبحث المثقّف العربي في خزينة التراث عن عوامل الوحدة والتوحيد ليبني على أساسها مشاريع وبرامج فوقيّة. من الهويّة إلى الهويّة، من التراث إلى التراث تلك هي مسيرة الفكر العربي المعاصر.
«الاعتزاز بالذات وبالخصوصيّة الحضاريّة يقيم القاعدة التي نستطيع على أساسها أن ننتقل إلى الاعتماد على الذات مع التفاعل الذّكي والنقدي مع جميع معطيات العالم المحيط بنا... فليخدم كلّ ماهو عالمي كلّ ماهو عربي «(أنور عبد الملك، من الوضعيّة إلى الإبداع الفكري، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، نوفمبر 1987، ص265 ).
«إنّ الشعوب لا تستعيد في وعيها ولا يمكن أن تستعيد إلاّ تراثها وما يتّصل به» محمد عابد الجابري، نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت 1989، ص6 ).
«إنّ العرب الذين أخضعوا تقريبا كلّ إسبانيا في السنوات 711 إلى 718 نُظر إليهم من قبل أكثريّة سكّانها ليس كفاتحين وإنّما على العكس كمحرّرين ... وهذه المسألة تجد إيضاحا لها في البديل الذي قدّمه العرب للإنسان، هذا البديل الذي قام على جلب العرب معهم حضارة غنيّة ضخمة وإنسانيّة « ( الطيّب التيزيني، في المجال الفكري الراهن، دار الفكر الجديد، بيروت 1989، ص174 ).
«لكلّ مجتمع نمطه وآلياته الخاصّة في ممارسة السلطة والحرّية « (علي حرب، نقد النصّ، ص163 ).
«إنّ بواكير الديمقراطيّة قد تحقّقت ودُوّنت في القرآن وفي سنّة النبيّ وفي نهج الصّحابة» (محمّد أركون ولوي قاردي، الإسلام بين الأمس والغد، ص101).
«إنّ التخلّف الذي أصاب المجتمع العربي مصدره الشعوب الوافدة على الإسلام من غير العرب ...» (مطاع صفدي: استراتيجيّة التسمية، مركز الإنماء القومي،1986).
«يعود التفتّت الذي أصاب الحضارة العربيّة الإسلاميّة للشعوبيّة أي هؤلاء الناس المنحدرين من شعوب غير عربيّة والمتظاهرين بالإسلام» (معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي، عالم المعرفة، الكويت، 1987، ص94).
«لا بدّ من إخراج أوروبا من مركز الثقل الثقافي العالمي ومن محور التاريخ وردّها إلى حجمها الطبيعي في الثقافة العالميّة الشاملة» (حسن حنفي، التراث والتجديد، مكتبة الجديد، تونس 1980، ص 121).
«نتوجّه إلى التراث نستلهم منه قبل كلّ شيء الأفكار والمذاهب والأحداث والمواقف التي تشحذ الهمم وتعبّئ الصفوف... لنحوّله إلى سلاح من أسلحة إيديولوجيا الكفاح» توفيق سلوم، نحو رؤية ماركسيّة للتراث، دار الفكر الجديد، بيروت 1988، ص 95).
«لا بدّ من مشروع نهضوي عربي جديد يسمح للعرب بدخول عصر العولمة كقوّة بشريّة، اقتصاديّة، ماليّة وعسكريّة... عندها فقط تحظى حضارتنا باحترام الشعوب الأخرى» (مسعود ظاهر : التكرار الأيديولوجي في ملف الآداب، ماي 2000، العدد 5 و6، ص93 ).
«إنّ إطار الحضارة الإسلاميّة المعاصرة هو الوحيد القادر على صنع نقطة التقاء بين إطارين رئيسيين من الحضارات التاريخيّة: الحضارة الآسياويّة والحضارة الهنديّة الأوروبيّة» (انور عبد الملك، نفس المرجع).
««لقد تمّ اختراع اليونان المعجزة وفق نموذج التأصيل الغربي» (عمر كوش، نقد المركزيّة الغربيّة، الآداب، 413، سنة 2000، ص 25).
«لا بدّ لنا أن نطوّر مصطلحا نقديّا عربيّا بدلا من نقل المصطلح الأجنبي بعوالقه المعرفيّة أو قيمه المعرفيّة» (عبد العزيز حمّودة: المرايا المقعّرة، عالم المعرفة، أوت 200، ص490 ).
«يجب أن يقوم علماء وفقهاء ذوو جرأة يعلنون على الملإ إلغاء قاعدة الارتداد فيكون ذلك أوّل إعلان حديث حول حقوق الإنسان في الإسلام « (علي حرب: حديث النهايات، المركز الثقافي العربي، سنة 2000 ، ص24 ).
«لا بدّ من الانتقال من العصر الذهبي الأوّل إلى العصر الذهبي الثاني الذي يمكن الإعداد له في المستقبل... وذلك حتّى لا يزهو علينا الغرب بأنّه صانع حضارة تقوم على اكتشافه وجده» (حسن حنفي: نحو تنوير عربي جديد، محاولة للتأسيس، عالم الفكر، عدد3، مارس 2001، ص92 ).
«إنّ ارتباط الدين بالسياسة لا يمثّل الخطر في حدّ ذاته سواء على الدين أو على السياسة» (برهان غليون: نقد السياسة، الدّولة، الدّين، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1991، ص385 ).
«الإسلام ليس كنيسة لكي نفصله عن الدولة « ( محمد عابد الجابري).
«لا بدّ من إيجاد قاعدة موضوعيّة لبروز منظومة قيم توفّر ما بين هو قديم وحديث...» (برهان غليون، مجتمع النخبة، دار البراق للنشر، سنة 1989، ص141 ).
«إنّ خصوصيّة فلسفة ما مرتبط بوعي يعبّر عن طموح أمّة... هناك دور كونيّ يمكن أن ننسبه للعرب والمسلمين في استئنافهم حضورهم التاريخي ...»(أبو يعرب المرزوقي، آفاق فلسفة عربيّة معاصرة، دار الفكر المعاصر، بيروت، أوت2001 ).
هذه عيّنات من الفكر العربي المعاصر وأحكامه: خليط من الفكر الأصولي والقومي الشوفيني ( الذي لا يخلو من عنصريّة وعصبيّة) فيصبح الفكر مرتبطا بجنس ودين ومن هنا تبرز المشاريع الفوقيّة: إعادة بناء علم العقائد، تكوين الكتلة التاريخيّة التي نخلط فيها الأصولي بالماركسي واللّيبرالي (الجابري)... على مدى ثلاث عقود عشنا على نمط هذا التفكير.
لم يخرج الفكر العربي من دائرة الهويّة والتراث، فالمثقّف اليساري يريد ردّ تهمة التنكّر للقوميّة فيبحث في التراث عن مؤيّدات لمرجعيّته والمثقّف القومي يبحث في التراث الدّيني عن مؤيّدات لفكره القومي ولم يدر الجميع أنّهم يصبّون عن وعي أو عن غير وعي في خانة الأصوليّة. اختلطت عليهم الأمور والسبل. فالانتماء الحضاري والقومي كما عناصر التوحّد الثقافي (لغة - تاريخ)... هي شروط للفكر ولا يمكن أن تمثّل المحور الرّئيسي لاهتمام المفكّر وحتّى وإن جزمنا بأنّ هذا الاختيار صائب فنحن لم نقرأ يوما دراسة أو مقاربة حول إشكاليّة اللّغة العربيّة وإمكانيّة «تثوير» مناهجها وأساليب تعبيرها كما أنّ التاريخ يُستحضر ككلّ متجانس لا يقبل المراجعة. كلّ مكوّنات الشخصيّة العربيّة تدخل في باب المقدّسات.
إنّ خاصّية الثقافة العربيّة تكمن في أنّ الدّين كان الوعاء الذي حوى كلّ عناصرها. فلقد ارتبط استعراب الشعوب العربيّة بالفتح الإسلامي (بينما لم تخلق المسيحيّة حضارة ووجدت إمبراطوريّة قائمة الذات) لذلك فإنّ العامل الدّيني شديد الحضور في الثقافة العربيّة. فبتركيز المثقّفين العرب على جانب الهوية مهّدوا لانتعاشة الفكر الأصولي وقبلوا أن «يلعبوا» معه في ساحته . مع فشل مشاريع الوحدة الفوقيّة وتفكّك الاتّحاد السوفياتي وتحوّل الصين إلى الرأسماليّة الفاحشة سقطت الأصنام والرموز المرتبطة بها وبقي المجال واسعا للأصوليّة . ثمّ إنّ الفكر الشعبوي العربي يتقاسم مع الأصوليّة العديد من التصوّرات لعلّ أهمّها تلك النزعة التكفيريّة. فمصطلحات من نوع الردّة والخيانة والانحراف والتحريفيّة والحسم كلّها من جنس واحد.
إنّ ما يجمع هؤلاء الشعبويّين هو سعيهم لإحياء عصبيّة عربيّة -إسلاميّة تكون قاعدة لبعث فلسفة عربيّة أي فكرا مبنيّا على أساس الجنس والدّين ! فالتعامل مع روح العصر يستند على مرجعية نعود لها بوعي (الجابري).
ظلّ الفكر يراوح حول ذاته المهزومة والمفكّكة يقلّبها، «يعشقها» ، يتقوقع حولها وفي الأثناء تراجعت الثقافة والفنّ وتقدّم مجتمع الاستهلاك أشواطا وأصبحنا مهدّدين في وجودنا واستباحت قوى الهيمنة بلداننا وغزت العراق وخطّطت لتفتيت الكيان العربي وتمزيقه وتذويبه.
خفتت أصوات معظم المثقّفين الشعبويّين والتراثيّين بينما قلب البعض ظهر المجنّ وبدأ يكيل المديح للعولمة ويدعونا للانصياع والقبول بالأمر الواقع (علي حرب- صادق جلال العظم) جفّت أقلام المثقّفين الشعبويّين والمؤدلجين بعد أن فقد بعضهم السند السياسي الرسمي الذي كانوا ينعمون به وسقطت رموز الدكتاتوريّة العالميّة.
نحن نعيش اليوم حالة من الاستقطاب الثنائي بين الفكر الأصولي المتحجّر والفكر الانهزامي . أطلق على هذه الثقافة بثقافة ما بعد غزو العراق. لكن هذه الخاصّية الأساسيّة لا تحجب عنّا حقائق أخرى . فلقد أثار غزو العراق عديد التساؤلات والقضايا التي تجاوزت المسألة الوطنيّة البحتة ونحن نعاين بوادر وعي ومراجعة للذات وتجاوز لحالة الاكتفاء الذاتي التي هيمنت على الفكر العربي طيلة عقود من الزمن.
من ناحية أخرى بدأت شعوب العالم قاطبة تستشعر مخاطر مجتمع الاستهلاك وتثير تساؤلات حول القضايا المصيريّة التي تهدّد وجودها (التلوّث التغيير المناخي تراجع التنوّع البيولوجي أزمة المياه أزمة الطاقة التحوير الجيني ظهور أوبئة جديدة التهديد النووي) ... برزت مقاربات فكريّة جديدة تحاول القطع مع التحنّط الأيديولوجي وتتوجّه بالنقد إلى المعايير والثوابت التي تأسّست على قاعدتها المجتمعات الغربيّة. ما يميّز هذه المقاربات هو تنوّعها وتفاعلها الإيجابي تجاه مختلف الأطروحات بحيث بدأت الساحة العموميّة تنفتح من جديد على الحوار الفكري البنّاء.
إنّنا اليوم في أمسّ الحاجة لثقافة عربيّة جديدة متحرّرة من قيود التراث والهويّة القاتلة و(التعبير لأمين معلوف) ومتسلّحة بروح نقديّة. كلّ ذلك يتطلّب من المثقّفين العرب شيئا من الشجاعة والإقدام لاقتحام الحصون المحرّمة والأسوار الاسمنتيّة التي بناها الفكر التراثي والأصولي حتى نجعل من الساحة العربيّة مجالا للصّراع الفكري الخلاّق (هذا لا يعني أنّنا سنتنكّر لتاريخنا ولغتنا ونتبرّأ من انتمائنا).
إنّه حتّى وإن وافقنا الجابري على ضرورة الانطلاق من التراث فإنّ ذلك يعني بالضرورة الابتعاد عن هذا المنطلق مسافات لا أن نحمل تراثنا في جرابنا وندافع عن كلّ جوانبه بما فيه من استبداد وانغلاق فكري وسياسي وتعصّب عرقي وديني وندعو إلى تجنّب «هتك الحرمات» و «جلد الذات».
أليس من الأنجع والأفيد أن نجلد ذاتنا خير من أن يجلدنا الآخرون وينهشوننا.
أليس من الأنجع أن نكشف عن المخفي والمستور من تاريخنا بدل من أن يطبق علينا الأصوليون بغطاء أسود يحجب عنّا الأنوار ويرمينا في غياهب الماضي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.