أشهد أنّي لم أكن يوما في مكاني، أو هكذا يتراءى لي دائما أنّي «على قلق كأنّ الرّيح تحتي» كما يقول شاغل النّاس. لا أتوانى عن السّفر كالماء يخشى الرّكود، يسكنني هاجس السّفر كالرّيح، والرّيح لقاح وخصب في جلّ أدبيّات الانسان وفكره. ولعلّ من مزايا التّرحال والمغامرة الكشف والاكتشاف وربّما في كثير من الأحيان اعادة الاكتشاف، وفي رحلتي الأخيرة كلّ تلك المزايا مجتمعة: أعدّت اكتشاف مبدعة تونسيّة أصيلة وناقدا متمكّنا من أدواته قدّم مقاربة أضاءت عملا روائيّا وحرّضت على معانقته وسؤاله علّنا نعثر على جماليّته بما هو فنّ خالص ونستكنه حقوله الدلاليّة بما هو رؤية ورؤيا للوجود والانسان. المبدعة مسعودة بوبكر كاتبة تسعينيّة بالمصطلح الذي استنبطه الدكتور محمّد صالح بن عمر، تفرّدت بالدّأب والعمل الجاد في سبيل اثراء المدوّنة السّرديّة التونسية والعربيّة. راكمت ابداعها حتّى مثّل ظاهرة كميّة ونوعيّة تشي بالاستمرار ومن هنا بالتشكّل والنّضج الفنّي والمضمونيّ. راودت مسعودة القصّة القصيرة في مجموعتين: «طعم الأناناس» (1994) و»وليمة خاصّة جدّا» (2004) وانتقلت من القصّة وهي جنس «هامشيّ» الى الرّواية ذلك العالم المركّب الشّديد التّعقيد في «ليلة الغياب» و»طرشقانة» و»وداعا.. حامو رابي». وقليلات هنّ الكاتبات التونسيّات أو العربيّات اللاّتي ارتقين الى مصافّ صاحبات التّجارب السّرديّة اذا ما استثنينا الرّوائيتين الجزائريّة أحلام مستغانمي والتونسيّة امال مختار. وهي تجارب جديرة بالدّرس والتّحليل لأنّها ببساطة تتمثّل الجنس الرّوائي أفضل تمثّل وتبدعه ابداعا خالصا بحرفيّة عالية. ولا غرابة أن تكون ضيفة «منتدى فنون الأدب» في المركّب الثقافي عمر السعيدي بجندوبة الكاتبة مسعودة بوبكر صاحبة «جمان وعنبر» وهي رواية صدرت سنة .2006 المكان ودلالته في رواية «جمان وعنبر»: وهي مداخلة للأستاذ فيصل عبيد الذي يرى من خلالها أن المكان خديم الدراما أي أنّه متورّط في الأحداث بشكل مباشر. يوظّف لتأطير الأحداث ويشدّها دلالة على الانتماء والتّجذّر والانتماء والأصالة. ويتجلّى حضور المكان بشكل لافت للانتباه اذ تدور كلّ الحكاية في المدينة العتيقة بوصفها قيمة رمزيّة تحيل على الخصوصيّة وروح الانسان. وأسلوبيّا يتجلّى هذا المنحى في الوصف الدّقيق والمكثّف للمعالم التّاريخيّة والبطاح والجدران والخرب الخلفيّة للمدينة. القراءة اتّسمت بالعمق وساءلت الرّواية مساءلة عالمة حرّضت الحضور على قراءتها أو اعادة قراءتها وتلك مشكلة بل أمّ المشاكل. أهلا بكم هنا: وأنا أنحت هذا الكلم وأصقل هذه الورقات في موات اللّيل على أنغام ايطاليّة رائعة في غرفتي السريّة لا يمكن أن أنسى اصالة الكاتب الصحبي العلوي ورفاقه في المنتدى فلهم من ربوع قرمبالية مدينة العنب والنّبيذ فائق الودّ. مُلحة اللّقاء: تعليقا على ما صرّح به علنا ثلاثة أرباع المتدّخلين في الحوار الأدبيّ من أنّهم لم يقرؤا الرّواية محور الجلسة هتف لي الأستاذ لطفي عيّادي خلسة: «أنا لم أقرأ الكتاب، عنوان يناسب تماما لقاءنا هذا الصّباح. أليس كذلك يا...». على اثر ذلك كدت أموت ضحكا. فهل كان ضحكا أم عويلا!؟