لعل الذين ولدوا في أوائل الخمسينات من القرن الماضي هم أوفر حظا من الإحساس بالسرور والحبور في طفولتهم من الذين أتت بهم الأقدار والآجال في العقود السابقة. لقد ولدوا و تونس في أوج معركة النضال من أجل تحرير الوطن من الاستعمار الفرنسي واقترنت ولادتهم بتاريخ الثورة المجيدة ونفي الزعماء بل قل انه تاريخ عميق الدلالة: جانفي 1952 يختزل تواريخ حاسمة في الذاكرة الجماعية بدء من مقاومة المستعمر قبل انتصاب الحماية في 12 ماي 1881 وصولا إلى اغتيال كبار الزعماء (فرحات حشاد- الهادي شاكر - الشاذلي قلالة..) وغيرهم من شمال البلاد وجنوبها( حسن النوري- الحبيب بوقطفة) ومرورا بالأحداث الدامية بتازركة والمكنين وغيرهما علاوة على حوادث 9 أفريل 1938 بالعاصمة و حوادث 5 أوت 1947 بصفاقس. لكن الملاحظ في ذلك العقد هو أن الصراع الدموي الذي بلغ أوجهه عند اوائله كانت بوادر الانفراج قد بدأت تلوح في الأفق فمن حسن حظ ذلك الجيل انه لا يعي شيئا من ذلك الصراع إذ كان ما يزال في عهد الطفولة الأولى. إني واحد من مواليد غرة جانفي 1951 ومازلت اذكر تلك الفرحة العارمة التي غمرت بيتنا يوم 1 جوان 1955 ووالدي ينصت إلى المذياع بنخوة وابتهاج وتعلو محياه مسحة من السكينة والوقار. كان يومها هادئا... كنت في الخامسة من عمري واستشعر أن شيئا ما ذا بال يحدث خارج البيت لكن يتردد صداه في أرجائه، هتافات الجماهير في النقل المباشر من ميناء حلق الوادي وهو يستقبل عودة الزعيم الحبيب بورقيبة، ما يزال رنينها في مسامع وجداني، هذه هي بداية الوعي بما يسمى حدثا، أتلقاه من العالم الخارجي ولا اعرف له أهمية... حدث ستتدافع من ورائه الأحداث وسيتنامى الوعي بها مع التقدم في السن، حدث يعيد البهجة إلى ذاكرتي كلما عدت إلى درس الحركة الوطنية أو هي راودتني عن درسها فيما يحل بين يدي من اطروحات او مقالات، منشورات أو صحف، أو مخطوطات... حدث يحملني على التفكر والتدبر في أوضاع الأسرة والوطن وهما يواجهان اشد المحن أيام الاستعمار والحربين العالميتين... مرة أخرى بقدر ما يذكي فيّ لذة الإحساس بالتوافق التاريخي بين بداية الوعي بقضية وطني وحلم الطفولة المترع بفيض من الحب والأمن والبراءة وهي لذة تستحيل إلى مرارة كلما طالعتنا أنباء الحروب والانفجارات وتفاقم عدد القتلى والجرحى من المدنيين و النساء والأطفال بالخصوص. وكم اشعر بالخجل وأنا لا أجد ما يجدي في نقل تلك اللذة إلى المحرومين منها من أطفال روعتهم القنابل والمداهمات بعد سنتين من جوان 1955 وتحديدا يوم 25 جويلية .1957 حدث الكثير في حياتي وتاريخ وطني. تم الإعلان عن عيد الجمهورية وحمل إلينا الخبر والدي رحمه الله عند عودته من ساعات العمل. كانت الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، كنت أمارس مع أخوتي لعبا خفيفا في مكان لا تطاله الشمس المحرقة وربما كنا يومها نتأهب ليأخذنا أبي إلى الشاطئ لكنه لم يفعل. كان يتأهب بدوره للخوض في نقاشات ساخنة حول النظام الجمهوري واضطرابات الأوضاع في أوروبا وفي فرنسا أو الجزائر ومصر... هذه النقاشات تنال حظا وافرا مع زوار البيت من الأقرباء والأصدقاء لكن أبي كان يدخر الكثير منها لإثارتها في ناديه المأثور في مقر نقابة بلدية صفاقس. من كان يصدق يومها أن تونس ستنعم على مدى الخمسين سنة بالأمن والاستقرار في عالم يموج حولها بالقلاقل والنزاعات. كنت يومها أتطلع بحب وشغف كبير إلى عالم المدرسة وها أنا قد دخلته ولم أفارقه رغم اشتغالي في الوظيفة... ولم أفارقه وقد تخرج البعض من أبنائي والتحق بالمدرسة من جديد... أي العودة إلى العالم الذي لم أفارقه مرة أخرى... المدرسة هي جنتي فيها أدركت بعض ما جهلت من كياني، وضعت بين يدي مفاتيح المعرفة وآليات التفكير والكتابة منها تعلمت ما تيسر من الكتاب والسنة وبعض السطور من شريعة حمورابي وقانون نابليون ومنها انطلقت للبحث في معمار العجائب السبعة وفيها ارتقيت في مدارج المسرح... نعم مدرستي كانت جنتي وجمهوريتي ومحطة عبور إلى جمهوريات العالم... منها سافرت إلى جمهورية أفلاطون واليها عدت انشد حقيقة ما في جمهورية وطني: (1) ما من شك في أن تونس قد تعاقب على أياديها زخم حضاري متدافع ومتراكم جعل منها واحدة من ابرز بلدان العالم التي عرفت الحكم المقيد بقانون منذ عهد قرطاج سيدة البحار. (2) مامن شك في أنها مركز إسلامي حضاري كبير ومحوري منذ فتحها عقبة ابن نافع وانخرطت في منظومة الحكم الإسلامي الذي عرف صفحات ناصعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم). ثم أصبحت خلافة الشورى والعدل ملكا عضوما كما سماه ابن خلدون من بني أمية إلى سلطة العثمانيين الأتراك. (3) تحولت تونس عاصمة الغرب الإسلامي التي أخضعت صقلية لنفوذها ردحا من الزمن إلى رقعة ارض منسية يعمرها بشرهم «غبار أفراد» أكثر منهم رجال امة وشعب له تاريخ ووطن. (4) هجمة الاستعمار الشرسة ساهمت في ايقاض الحس الوطني بعدما فتحت جامعات فرنسا أبوابها للنخبة المثقفة ثقافة فرنسية، فشكلت مع روافد الثقافة الوطنية الأصيلة حركة وطنية تحريرية أصيلة وجادة استطاعت أن تنهض بأعباء الرسالة واستطاعت أن تنجح في خاتمة المطاف بكسب رهان المقاومة وتحقيق نصر القضية والحصول على الاستقلال.