عاجل/ تعلّيق عمل شركة "شي إن" الصينية في فرنسا..    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    من صفاقس إلى منوبة: تفاصيل صادمة عن مواد غذائية ملوّثة تم حجزها    حجز أكثر من 14 طنا من المواد الفاسدة بعدد من ولايات الجمهورية    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    تونس تطلق أول دليل الممارسات الطبية حول طيف التوحد للأطفال والمراهقين    ممرض ألماني أنهى حياة 10 مرضى... ليخفف عبء العمل عليه    الأولمبي الباجي يعلن عن تاهيل لاعبيه هيثم مبارك وفراس المحضاوي    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    5 أخطاء يومية لكبار السن قد تهدد صحتهم    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    مدير ديوان رئيسة الحكومة: قريباً عرض حزمة من مشاريع القوانين على البرلمان    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    المنتخب التونسي للبايسبول 5 يتوج ببطولة إفريقيا    مونديال أقل من 17 سنة: تونس تواجه بلجيكا اليوم...شوف الوقت والقناة الناقلة    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    خروج قطار عن السكة يُسلّط الضوء على تدهور البنية التحتية للسكك الحديدية    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    اختتام الدورة الثالثة للمهرجان الوطني للمسرح التونسي "مواسم الإبداع": مسرحية "الهاربات" لوفاء الطبوبي تُتوّج بجائزة أفضل عمل متكامل    التشكيلات المحتملة للدربي المنتظر اليوم    شوف وين تتفرّج: الدربي ومواجهات الجولة 14 اليوم    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    الأربعاء المقبل / إطلاق تحدّي " تحدّ ذكاءك الاصطناعي" بالمدرسة العليا للتجارة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    مالي: اختطاف 3 مصريين .. ومطلوب فدية 5 ملايين دولار    تشيلسي يصعد لوصافة الدوري الإنجليزي بالفوز على وولفرهامبتون    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    منخفض جوي وحالة عدم استقرار بهذه المناطق    بطولة القسم الوطني أ للكرة الطائرة: نتائج الدفعة الثانية من مقابلات الجولة الرابعة    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    من كلمات الجليدي العويني وألحان منير الغضاب: «خطوات» فيديو كليب جديد للمطربة عفيفة العويني    عماد الأمن الغذائي والمنظومة الإنتاجية .. الدعم لإنعاش الفلاّح وإنقاذ الفلاحة    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    عاجل: من مساء السبت والى الأحد أمطار رعدية غزيرة ورياح تتجاوز 90 كلم/س بهذه المناطق    البنك المركزي: نشاط القطاع المصرفي يتركز على البنوك المقيمة    الدورة الاولى لمهرجان بذرتنا يومي 22 و23 نوفمبر بالمدرسة الوطنية للمهندسين بصفاقس    هام/ الهيئة الوطنيّة للوقاية من التعذيب تنتدب..#خبر_عاجل    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    جلسة عمل بوزارة الصحة لتقييم مدى تقدم الخطة الوطنية لمقاومة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باقعة الدهر ومربّي الأجيال
على هامش سنة ابن خلدون:
نشر في الشعب يوم 11 - 08 - 2007

هو عبد الرحمان بن محمد بن خلدون الزيتوني تعلما التونسي نسبة العاصمي موطنا الحضرمي اليمني أصالة، هذا الاسم الكبير الحائز لهذا الحجم العظيم في الفكر والسياسة والمعرفة والثقافة الاصيلة والمنطق السديد، قد انحدر من سلالة عربية لها أمجاد عريضة وعريقة في التاريخ.
إن جدّه الأعلى خالد قد هاجر من حضرموت بجنوب جزيرة العرب الى الاندلس في منتصف القرن الرابع الهجري، ثم نزح جدّه الأدنى من اشبيلية الى تونس في منتصف القرن السابع هجري (13 ميلادي) ليستقر بعاصمة الدولة الحفصية تونس المدينة موطن سابقه المناضل الاستاذ المربي محرز بن خلف ومركز ادارة الحكم والعلم والثقافة بفضل جامعها المعمور «إذاك» كعبة الشمال الافريقي جامع الزيتونة الاعظم، هذا الاسم اللاّمع الذي ملأ ذكره الدنيا وشغل الناس وحفّز المادحين والقادحين على حد سواء طيلة ما يزيد عن سبعة قرون من الزمن، اي منذ ولادته سنة 732 ه الموافق 1332 م وسيبقى كذلك الى ما شاء الله، هو الذي أحسنت الدولة الآن مشكورة ممثلة في وزارة الثقافة سدّد الله خطاها، أحسنت كل منهما صُنعا وفعلت خيرا حين خصصت لاحياء ذكراه ودراسة اثاره ومناقشة افكاره وإظهار مزاياه وخصائصه واجلاء عبقريته وابراز فضله على العرب والمسلمين شرقا ومغربا لأنه فتح طريق البحث امام العقول النيّرة والأفكار السديدة كي تنحو منحاه في الوصول الى الحقيقة الاجتماعية التي ميّز الله بها الانسان دون غيره من المخلوقات وذلك حين قال عن دراية ومعرفة (الانسان مدني بطبعه) فما أروعها مقولة وما أخفها نطقا وما اصدقها حقيقة سرمدية باقية ما بقي الدهر، ولقد اطنب المتحدثون والكتاب قديما وحديثا في عرض التراث الفكري لهذا القطب الثقافي العملاق في مجال الفكر الانساني المتحرر وخصائص المجتمعات البشرية ودولها المتعاقبة في كامل افريقية (المغرب العربي الكبير الان) والاندلس الخ... ومعهما الشرق الادنى مصر وفلسطين وما حولها... ولقد كان قدر لمواطننا التونسي هذا ان يعيش ثلاثة أرباع القرن من السنين او بالضبط (74 سنة شمسية) (من 1332 الى 1406 م) استثمرها كاملة بالطول وبالعرض حيث تقلد خلالها أهم الوظائف السياسية (وساطات حميدة وسفارات ناجحة) والمناصب الادارية كالكتابة الخاصة والخطط القضائية السامية ومهام التربية والتعلم والتدريس العام.
كما تنقل اثناءها عائشا سواحا في غالب أركان الوطن العربي مغربا ومشرقا فمدة حياته المذكورة (74 سنة) منقسمة على ثلاث محطات مهمة ومتساوية تقريبا من حيث الطول:
I مدتها (24 سنة الاولى من حياته الحافلة) قضّاها في موطنه الاول اي مسقط رأسه الذي انزاد فيه عام 732 ه وهو تونس العاصمة الحفصية في المدينة العتيقة ما يعرف الان بنهج تربة الباي في غرة شهر رمضان المعظم بنزول القرآن الكريم، وقضى طفولته معززا في حضن أبويه الكريمين اللّذين جلبا له معلما خاصا لتحفيظ القرآن وتعليم مبادئ اللغة والدين، ثم اقبل على الدراسة بمعقل الثقافة الاصلية جامع الزيتونة الاعظم المنتصب بشموخ وسط المدينة وأسواقها العريقة فأتقن علوم الدين والعربية وأدبها وتضلع في فنون الشعر والنثر والتاريخ والاجتماع وكان مولعا جدا بمطالعة أمهات الكتب للمزيد من تعميق المعرفة وارادة التصحيح والتنقيح والمقابلة حتى صار من اعلم شباب زمانه واترابه وأقدرهم على المجادلة والتعامل الفكري والسياسي مع كل المستويات... وما لبث ان انخرط في وظائف الدولة وتراتيبها عن رغبة واقتدار حيث قلّده السلطان ابراهيم الحفصي خطة الكتابة الخاصة فقام بها وبما يلزمها من سرية وتكتم وتنظيم دقيق احسن قيام رغم حداثة سنّه.
II مدتها 26 سنة قضاها متنقلا بين المغرب الاوسط (الجزائر) والمغرب الأقصى (المملكة المغربية) والاندلس (اسبانيا) الآن، وذلك انه عندما طارت شهرته وذاع صيته في حذق التراتيب الادارية والتشريفات السلطانية وقواعد التوسط والمجادلة لحل المسائل السياسية المستعصية التحق بالسلطان أبي عنان المريني في (فاس) عام 755 ه فأصبح من رجال دولته البارزين ولما مات أبو عنان استعمله خلفه على كتابة سره فقام بالمهمة القيام الأمثل بعد عدة سنوات اجتاز البحر ودخل الاندلس فأنزله سلطانها من بني الأحمر في قصره الفخم بغرناطة وأكرمه غاية الاكرام، وقد اختص به في هذه المدة الوزير لسان الدين ابن الخطيب اختصاص الاخ بأخيه، وفي سنة 765 ه سار الى صاحب قشتالة، لإبرام عقد الصلح بينه وبين سلطان المغرب بهدية فاخرة فاستقبله بإشبيلية وعامله بالاكرام الفائق، وقيل انه طلبه للإقامة عنده لفرط إعجابه به فامتنع وأصرّ على العودة فزوّده بهدايا ثمينة ورجع الى غرناطة وبعد مدة قصد صاحب (بجاية) بافريقية فاحتفل به وقلدّه أعمال دولته ولم يزل مؤرخنا يتنقل بالبلاد المغاربية من أمير الى آخر وكل سلطان ينزل عنده يكرم مثواه ويعظم شأنه ويكلفه بمهمات ملكه الى ان نزل بأهله في قلعة (بني سلامة) بالمغرب الاوسط (الجزائر) 776 ه فأقام بها أربع سنوات متخليا عن شواغل السياسة، وفي هذه القلعة شرع في تأليف كتابه التاريخي الاجتماعي الجليل القدر الذي هو: (ديوان المبتدأ والخبر في اخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر) وأنجز (مقدمته) في كتاب مستقل ولكنه عظيم القدر عميق المحتوى بديع الاسلوب محكم التبويب شامل المعنى واللفظ محيط بكل شيء مهم، احاطة تدل على صفاء فكرة صاحبه وتوقّد ذهنه وسلامة ذاكرته، فجاء بدعة بين كل الكتب والمصنّفات، حتى قال فيه واصفة بحق:
كتاب قد حوى دُرَر المعاني
وبحر فوائد لمقتنيه،
فلا تعجب لهاتيك المباني
فان البحر كل الدر فيه
ثم انتقل هذا الرحالة العظيم الى بلدة تونس مقر أهله وذويه بمساكنهم وقبورهم سنة 780 ه فاستدناه سلطانها أحمد الحفصي وقربه من مجلسه واختصه لأسراره فلم يرق ذلك لبطانته والمقربين اليه فكادوا له ولم تنجح مساعيهم لأن الحسود لا يسود ولا يعيش الا مكبوتا وكان محل حفاوة السلطان الذي كلفه بإتمام مؤلفه النفيس فأكمل منه مؤرخنا ما تيسّر له ورفع أول نسخة منه الى خزانة السلطان الذي ابتهج به...
(انظر كتاب خلاصة تاريخ تونس ح . ح عبد الوهاب ص 121 و 122 ط 1952).
III هذه الفترة الاخيرة من حياته رحمه الله ومدتها 24 سنة قضى أغلبها في مصر وفي القاهرة بالذات بين التدريس والتأليف والقضاء، وذلك انه بعد ان اهدى كتابه النفيس الى السلطان الحفصي اشتاقت نفسه الى الحج والرحلة الى المشرق بعد ان عاش وساح متنقلا بين اقطار المغرب الاسلامي الفسيح فقصد سنة 784 ه أرض الكنانة مصر عن طريق البحر ونزل بميناء الاسكندرية ثم التحق بالقاهرة وتصدر المجالس يبث العلم فأقبل عليه الطلبة من كل فجّ وصارت مكانته بينهم لا تضاهى فاتصل شأنه بسلطان مصر الطاهر برقوق فأكرمه وأحسن مثواه وولاه قاضي قضاة المالكية بالبلاد المصرية فقام بها احسن قيام وعدل في القضاء وأنصف المظلومين من الظالم وسدّ أبواب الفساد ونشر العدل في البلاد وفي هذه الفترة قدم أهله من تونس وقبل ان يرسو بهم المركب اصابته ريح عاتية هوجاء عنيفة قاسية أغرقت السفينة بمن ما فيها تماما وغرق أهله وولده قبل ان يكحل نظره برؤيتهم بعد غربة وفراق وشوق شديد.
وقد صدق الشاعر في قوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وكانت هذه الواقعة الأليمة اكبر المصائب التي جرحت فؤاده وقصمت ظهره فانكفأ على نفسه وتسلح بالصبر والايمان بالله وبالقضاء والقدر وهو الامام الفقيه والعالم القاضي المحنّك والمؤلف البارع والمربي الناجح ولسان حاله يقول:
وتجلّدي للشامتين أريهم
أني لريب الدهر لا أتزعزع
وتخلى بعدها عن القضاء وانعكف على التدريس والتأليف، خرج للحج سنة 799 ه فقضى فريضته وتنقل في بلاد الحجاز ثم بلاد الشام (سوريا وفلسطين) وكان في دمشق حين حاصرتها حيوش الغزو المغولي الغاشم، فلم يبق مكتوف اليدين مستسلما كالنعجة العجفاء امام الذئب الكاسر، بل قام بأخطر مهمة في حياته كلها وهو يومئذ فوق السبعين من عمره حين تدلى بحبل من أعلى سور دمشق ليقابل الغازي المتجبر (تيمور لنك) ويحاول معه انقاذ المدينة من الدمار المغولي المحدق بها.
ثم سرعان ما عاد الى القاهرة وبقي منقطعا للعلم والتأليف الى ان طرقه أجله المحتوم سنة 808 ه يوم 25 من رمضان المعظم الذي ولد في غرة مثله قبل ثلاثة أرباع القرن، وكان يوم وفاته موافقا 15/3/1406 م، ولعل من طالع الخير والبركة ان تكون ولادته في بداية العشرة الاولى ووفاته في وسط العشرة الاخيرة من الشهر الكريم الذي أوله رحمة ووسطه مغفرة وأخره عتق من النار بشهادة الحديث النبوي الشريف فرحم الله مواطننا الكريم وعالمنا الجليل وسفيرنا القدير الى المشرق والمغرب الفيلسوف العالمي والمؤرخ العربي المسلم النزيه عبد الرحمان بن خلدون الذي دفن بمقابر الصالحين والصوفية خارج باب النصر بالقاهرة في رمضان سنة 808 ه.
الفرية العظمى:
وهي تلك الكذبة الكبرى التي لفقها بعض الكتاب والمؤرخين العرب المحدثين حول مؤرخنا النزيه وفليسوفنا الاجتماعي العربي المسلم التونسي نشأة وتعلما حين وصفوا ما كتبه في تاريخه وبالذات مقدمته العظمى بالانطوائية القومية والانحياز العرقي او ما يعرف بالشعوبية اي التحامل على العرب كل العرب وانهم قد دمروا الحضارة وخرّبوا العمران في بلاد المغرب الاسلامي عامة وفي (افريقية) اي تونس بوجه أخص ابتداء من منتصف القرن 5 ه (وقت نزوح الهلاليين وزحفهم على افريقية بتحريض من الامراء الفاطميين والعبيدين المنتقلين من المهدية بتونس الى القاهرة المعزية بمصر) حتى نهاية القرن 8 ه سنة وفاة ابن خلدون 808 ه = 1406 م، والحقيقة المنطقية ان الشعوبية هي توجه أدبي فكري او سياسي عرقي عنصري قائم على التصغير من شأن العرب كأمة، وتفضيل العجم أو الترك عليهم قديما وحديثا وفي كل المجالات، والمنتحل لهذا التوجه من الشعراء والادباء والمفكرين يقال فيه شعوبي، والنحلة ظهرت طاغية اكثر في عصر الدولة العباسية، ومن هؤلاء الادباء: الشاعر الضرير بشار ابن بُرد الفارسي الاصل العربي النشأة واللسان والثقافي والذي استهرا في القرن 2 ه على يد خلفاء بني العباس الذين مدحهم ونال رفدهم وعطاياهم وخاصة المهدي بن المنصور ثالث خلفائهم الذي كان يغدق عليهم ويبر به إشفاقا ومحبة وإعجابا بالشعر الرائع والبيان الفائق، ثم سخط عليه مرة واحدة حين رآه سكران يعربد في شوارع البصرة وينال من العرب والمسلمين ويرفع صوته بأذان الصلاة فرماه بالزندقة وأمر بجلده حتى مات وأراح الناس من سخريته ولذع لسانه نتيجة غروره بأصله الفارسي وتفضيله قومه على كل من سواهم، ومن ادباء ذلك العصر الشعوبيين ايضا المترجم الناثر الفنان عبد الله ابن المقفع صاحب (كليلة ودمنة)، والحقيقة المماثلة للعيان ان القرآن الكريم الذي هو القانون الاساسي للاسلام والمسلمين ينبذ كل العنصريات والعرقيات الجاهلية ولا يسمح بالتفاخر بالانساب والآباء والاجداد ويجعل اتباعه من كل الاجناس والالوان أمة واحدة تجمع بينهم الاخوة في العقيدة والايمان، ولا فضل لأحد على احد الا بالتقوى والعمل الصالح (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) 13 الحجرات والتقوى هنا هي الاستقامة مع الله ومع الناس (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدوني) 92 الانبياء، فهل كان ابن خلدون وهو رجل الفقه والعلم والأدب ورجل السياسة وفلسفة الاجتماع والعمران البشري هل كان شعوبيا يكره العرب ويتحامل عليهم ويستنقص أمرهم؟ الجواب الشافي عن هذا السؤال المحير نأخذه من كتاب الأديب الناقد والمحقق الحازم محمد أبو القاسم كِرو في كتابه القيّم: دراسات في التاريخ والتراث ط. دار المعارف بسوسة تونس 1991 ص 9 وما بعدها...
والموضوع مطروق من كثير من المؤرخين النزهاء والكتاب المنصفين منهم الاديب الكبير المؤرخ الشهير ساطع الحصري السوري العراقي في كتابه (دراسات عن مقدمة ابن خلدون).
وحتى مؤرخنا المرحوم عثمان الكعاك له كتاب بعنوان (العرب وابن خلدون) أحسب انه صدر في الخمسينيات ضمن سلسلة (كتاب البعث) التي أوقفت ظلما وعدوانا المهم هنا ان ابن خلدون وهو التونسي المعتدل المتسامح بريء من هذه التهمة، تهمة الشعوبية ضد العرب بالمرة غاية ما في الامر انه كان في تجواله عبر المهام التي قام بها في جميع أرجاء المغرب الاسلامي والاندلس يشاهد ويعاين الخراب والفساد اللذين تقوم بهما بعض القبائل من الاعراب الرحل فوصف ما رآه وحلله واستخلص منه فلسفته وعلمه الجديد، علم الاجتماع وفلسفة العمران البشري، وواضح ان ابن خلدون لا يعني العرب فقط بل كل البدو المتنقلين الرحل من البربر، قبائل (زناته) وكتامة وصنهاجة ومن الاعراب بنو سليم وبنو هلال ورياح، فالمشكلة اذن هي بين البداوة والحضارة لا بين العرب وغيرهم من الاقوام فكلما كان عنصر البداوة قائما ومتمكنا كان الجهل بالقيم والاشياء وبمكانة الانسان وحقوقه ومكاسبه متمثلا في سلوك الناس لان من جهل شيئا عاداه ومن عاداه داسه ودمره وأتلفه، وهذا ما كان من الاعراب الرحل والقبائل البدوية سواء الزاحفة من صعيد مصر يدفعها الفقر والجهل ويقودها الطمع فيما مناها به الخليفة الفاطمي المعز الحاقد والناقم على السلطان الصنهاجي الذي استخلفه في تونس فلم يكن عند حسن ظنه وأعلن استقلاله بدولته او قبائل البربر المتنقلة في ربوع شمال افريقيا تعاني من عدم الاستقرار وتحمل الحقد على كل اصحاب ومظاهر النعمة والترف وعلامات الرفاهة ورغد العيش الذي حُرموا منه بحكم ترحالهم وفقرهم فكان ما كان من تخريب القصور وإتلاف المرافق وتدمير صور الحضارة واظهار الفساد والافساد في الارض وفرّ أهل القيروان الى تونس وسوسة وعمّ النهب والعبث في البلاد وهلكت الضواحي والقرى العامرة بأهلها مثل رقادة والمنصورة، فوصف ابن خلدون كل ذلك بأمانة وجاء بعده المؤرخون ورفعوا شأن ابن خلدون وأعلوا ذكره وأشادوا بمقدمته ونقلوها الى لغاتهم المختلفة لأن ما فيها وخاصة الباب المعنون بالعمران البدوي، صادف هوى في نفوسهم واستجاب لما يضمرونه من حقد دفين وكراهية معمقة لكل العرب والمسلمين فراحوا ينفثون سمومهم بقدمائهم ومحدثيهم وأعلنوا مناحة كبرى على مصير البلاد والعباد وما آل اليها أمر حضارة الرومان في المنطقة وها هي النجدة والاسعاف يأتيان لانقاذ ما تبقى على أيدي الجيوش الفرنسية الزاحفة منذ مطلع القرن 19 ه على شعوب وبلدان الجزائر وتونس والمغرب الاقصى والجيوش الايطالية من رومة الزاحفة على ليبيا حتى الحدود المصرية وأخذ عنهم هذه الترهات والمهازل العدائية مسلمة تلاميذهم ومريدوهم من كتاب ومؤرخي العرب المسلمين المغرورين حتى الاعماق بما عند الغرب من كل شيء (ويأبى الله الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون) 32 التوبة، والكلمة الاخيرة والعليا والعزة الحقيقية والنصر والتمكين لله ولرسوله وللمؤمنين رغم الداء والأعداء.
صالح بن عبد الجليل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.