بعد حوالي ربع قرن قضيته ولا فخر معلقا من الرغيف الذي يؤلمني، تأكل مني مدارس الأمس فمدارس اليوم حتى مدارس الغد خالدة الذكر، يمكنني ان ازعم ان الوظيفة وإن منّت عليّ بمرتب قصير فقد اغدقت عليّ خبرة طويلة لا يمتلكها حتى خبير تربوي من مخابر الاممالمتحدة او مجلس الأمن، الموقرين.. (2) لقد نلت منابا من بقايا شرف المهنة ونبلها التاريخي حينما كان المتعلمون الصبيان ، كما ذويهم يقومون للمعلم يوفونه التبجيل غير انني نلت كيلا من عارها وخنارها اليومي حينما بات المعلم ذاته يقوم لهم يوفون التنكيل صاغرا ومخطوفا وفي يمناه مجلة حقوق الطفل، وفي يسراه حقنة الانسولين! شاعر سابق باحث في علم الاجتماع (3) اعرف ان كذا خبرة غير ذات نغم في ذُل تعسر الخبزة ، مما لا يترك لواحد مثلي ظلّ تيسر التكيف مع واقع الحال خاصة وأنني لقصر نظري بددت بصيرتي في إنفاقها على روث الكتب متطفلا على مجتمع المعرفة ومدعيا فهم الداء بالداء، وإن على حساب زوجة عاطلة مدعمة بطفلين مهددين : أصغرهما، بالتلفزيون واكبرهما بالمدرسة ! (4) لقد سمحت لي خبرتي تلك، رغم ذلك، بأن أعمل وإن فاشلا على ان أغمض عينا وافتح أخرى، تماما مثلما نصحني المسؤول الذي كان زميلا والزميل الذي سيكون، حتى لا أصير يوما ما الى الصراخ الأخرق من أعلى منصة دولية على طريقة الشهيد ياسر عرفات: «لا تُسقطوا غصن الأنسولين من يدي! لا تُسقطوا غصن الانسولين من يدي!» أو لا قدر الله: تعلموا.. تعلموا.. لا تعلموا الاطفال وهم يلعبون حتى يلعب الاعبون بمرتبي القصير وكم لعبوا ! بل بخبرتي الأطول فيخسر العباد وقد لا ينفعني حتى حبّ البلاد كما لم يحب البلاد أحد! (5) لقد حاولت أن أغمض عيني تلك على ما يتجاوز أرنبة أنفي حتى لا يُفهم انني فعلت ما سأفعل انتقاما لعجز شخصيّ على مواكبة ثقافة العصر الشبابية وعلى أخذ الحياة برمتها، حرة وطليقة، من الامام والخلف، مطبلا ومزمرا وراقصا لتأصيل اللهو وفرحة الحياة ولتحرير المعرفة من وقارها الثقيل وسموها المزعوم وما عليّ إذن إلا منح الثقة غير المشروطة لمنطق وآليات بناء الانسان الجديد المعول (ب) م وقبول تحدي إعادة هيكلة ذاتي المعطبة وجدولة ديوني العالقة وفق القيم الصاعدة لعلاقات المجاملة التي وإن بدت معكوسة ومقلوبة، فلانني لم اتشبع بعد بما يسمى علماء الاجتماع او النفس والاقتصاد با الروح الجديدة للرأسمالية القائمة على التحرير الشامل للمبادرة الفردية ومشاركة الجميع، أطفالا وكهولا، إناثا وذكورا، عاملين وعاطلين مؤقتين طبعا علماء وفقهاء أميين وجهلة، طاعنين في الفقر أو في الثراء شرفاء أو سفهاء واعتبارهم، على قدر سواء فاعلين أحرارا، منخرطين، كل حسب موهبته في الانقضاض على الفرصة اللبرالية السمحة في لعبة السعادة حسب منطق السوق الحرّ العابر للقارات بدءا بدكاكين بنقردان الجنوبية أو معابر «كارفور» في العاصمة حتى أسواق المعرفة في دبي الشقيقة.. (6) لقد أغمضت عيني فعلا على ما يراه الجميع صباحا مساء لم يقتض ذلك منّي، في الحقيقة لا شجاعة ولا جبنا لأنه كان موضوع تندّر يومي في مثلث اللامبالاة الرحيمة: البيت / الشارع / المدرسة ولأتجنب تهمة التجني على الغير كالكيد والغيرة من الطفولة أو اختلاق البدع او التحرش بالاخلاق الشخصية لذوي العزم والهمة من شبيبة الأمة فانني ساكتفي بالاختفاء وراء مقتطفات من عناوين الصحف الوطنية وبيانات مجلس التربية الذي مررت به يوما ما، قبل ان أزاح عن عضويته ديمقراطيا طبعا تكريما لي على «جديتي المفرطة» التي تزامنت لسوء حظي مع حصولي على شهادة الدراسات المعمقة في اختصاص لا يليق، على ما يبدو «شؤون التربية» (؟)، بعد عشرين سنة من الفشل في تطويع معارفي ومجاهلي في الضحك على الذقون : انهاه عن كلام البذيئ فطعنه فمات. اسند له عددا رديئا (من الأمام) فقص ببيضة (من الخلف). أقصته عن الدرس فصفعها امام السيد القيم (في قاعة الاعلامية) . أدخل غريبا الى ساحة المدرسة فأجابته تلميذة بطريقة غير متحضرة. أقصي عن الدرس، فعاد اليه متسللا من النافذة (المجاورة لمكتب الدخول). دخن سيجارة (واحدة فقط) في حصة الرياضة بمشاركة زميلته. هربا زجاجة خمر (مرناق / فارغة !؟) الى حصة الرياضيات (في الثلاثي الأول). شمّا غراء مخدرا أمام المدرسة ثم رشا بقاياه على مقعد مدرس العربية (في الثلاثي الثاني). خاطب مدرس التربية المدنية «تخ... انت والمودير متاعك!». خاطب مدرس الجغرافيا: عرّضلي في الدورة.. يا قمر! (7) ليهنأ الجميع: لقد رفعت ، بلا طمع أو جبن، رايتي البيضاء، لم أكن مستسلما قنوعا، بل قنوعا مستلهما الطابع الثوري لاخلاق العبيد ، وإن لم أتخلّ عن بلاغتي التي بها عرفت وسأعرف دوما، بلاغة التذمر والشكوى، والتي هي أيضا حسب مستشاري الصحي جداري الاخير الذي به أحتمي من التصلب أو التحلل الذهنيين.. لقد تحررت الى حدّ من أوهام نفوذ العلم والمعلم البائدين رغم أن «اللعب قد بات حرّا وديمقراطيا ومباشرا أمام بيتي»: لقد رجح ابني التلميذ هو أيضا، الذي وضح النظام التربوي في ما اعتبر «قلب العملية التربوية» بديلا عن المدرسة والذي بات في متانتها على ما يبدو، عاد قبل رفع العلم بقليل، مُدمى الكوعين والركبتين بعد أن قطع عليه طريق المدرسة الابتدائية ثنائي ضال من تلاميذ مدرستي المهنية فأوقفاه وهدداه طالبين منه التنازل الطوعي عن كل ثروته الشخصية. ولما كان فقره من فقري وعجزه من عجزي عن افتداء الجسم السقيم بحفيف الدينار او رنين الملاليم أدباه ولعنا أباه المدرس الذي هو أنا على ايقاع تعويذة صباحية لا تبيد تعرفها كل بوابات مدارسنا من رأس الجبل حتى راس جدير، تعويذة رمزية ألقت المسافة الفاعلة بين السطو الممنوع والتسول المشروع «هات مْيَة « (8) لقد رفعت رايتي البيضاء لأنني فشلت في أن أجعل من كتابي هراوة مهيبة ، مثل بعض من قرأ وكتب وتعلم وعلّم كيف ومن اين يؤكل الكتف، فشلت تماما في تثبيت معادلة باتت محرومة سلفا، في الحقل التربوي، بين المعرفة والوجاهة أو العلم والاخلاق ، لا عن علة في علمي او خلقي الشخصيين او علم وخلق من علمني في القرن الماضي، بل عن ضيق في النفس من فرط الضيم وعن تضايق من النفيس، من فرط تكالب المتنافسين .. ذلك انني ، وإن تجنبت عيب الغنى / توريث البلادة، فانني لم استجب فضيلة الفقر / اصطناع الحيلة تلك التي بها أدرّا معزّة الخوف الذي استبدّ بي بعد أن قرأت صدفة خبر احد شهدائها الصامتين، الاستاذ علي العزيزي، الذي قضى نحبه ، فجأة ومجانا، بعد ان تطاول ملاحقا لصوص ابنه من فصيلة «هات برطابلك». غير انه يبدو انني قد أكون أوفر حظّا منه اذا ما انتهيت فعلا الى مجرّد الصراخ من أعلى منصة دولية، على طريقة الشهيد عرفات، مقولا أنا ايضا : «لا تُسقطوا غصن الانسولين من يدي! لا تُسقطوا غصن الانسولين من يدي!» أو يائسا مترحما: «لكل كتاب أجل!» هوامش وإحالات : 1 كناية على ما يعتبره المتخصصون في الشأن «بقانون الصمت» Loi du silence الذي يدل كل مدرس (موظف) قلق بالمقياس المرضي على ما تنتظره منه المؤسسة: التحكم في قلقه ثم استبطانه حتى الوصول في النهاية، الى انكاره، وعليه عندما ينعدم الشعور به فذلك يعني انه لا يوجد. للتثبت والمصادقة او تكذيب كذا ادعاء يراجع: 2 كان سامحه الله كلما حضرت السيدة المرشدة الاجتماعية، يفرق في الحديث عن جلال خدمتها ونبالة مقصدها، بل انه يتمنى عليها لو ترفع صوته الى اعلى من أجل تكريم مدرسته النشيطة ذات الاولوية، بمختص في علم الاجتماع وإن بنصف الاستاذية من أجل احاطة نفسية واجتماعية رشيدة بابناء، التلاميذ من ذوي الحاجات الخصوصية والمساهمة في نشر ثقافة الاحترام والسلوك الحضاري وقواعد العيش السليم تطبيقا لمذكرة وزارة التربية والتكوين عدد 3052 بتاريخ 29 مارس 2004 . 3 الطريق الجديد، ع 54، نوفمبر 2006.