دخول وحدة متنقلة للإنعاش الطبي حيز العمل بالمزونة    بنزرت: استكمال أشغال تهيئة وتجديد مركز طب النساء والتوليد وطب الاطفال والرضع ببنزرت نهاية جانفي المقبل    وزير الدّفاع يؤدي زيارة ميدانية إلى القاعدة البحرية بمنزل بورقيبة    الشركة الوطنيّة للسكك الحديديّة التّونسيّة:عدم تسجيل أية أضرار على إثر جنوح قطار المسافرين تونس - غار الدماء    الليلة: الحرارة تتراوح بين 6 و23 درجة    شكونوا المالي تراوري حكم مباراة تونس و نيجيريا في كان 2025 ؟    هذه الدولة العربية تسجّل أعلى أسعار السيارات الجديدة    محرز الغنوشي: الغيث النافع قادم والوضعية قد تتطور الى انذارية بهذه المناطق    ابدأ رجب بالدعاء...اليك ما تقول    منع بيع مشروبات الطاقة لمن هم دون 18 عاما..ما القصة..؟    ماذا في اجتماع وزير التجارة برؤساء غرف التجارة والصناعة؟    زغوان: مجمع الصيانة والتصرف بالمنطقة الصناعية جبل الوسط بئر مشارقة يعلن عن إحداث حقل لانتاج الطاقة الفوطوضوئية    شركة الخطوط الجوية التونسية تكشف عن عرضها الترويجي 'سحر نهاية العام'    خبير يوّضح: العفو الجبائي على العقارات المبنية مهم للمواطن وللبلديات..هاو علاش    يتميّز بسرعة الانتشار والعدوى/ رياض دغفوس يحذر من المتحور "k" ويدعو..    زيت الزيتون ب10 دنانير:فلاحو تونس غاضبون    تعرّف على عدد ساعات صيام رمضان 2026    عاجل: تهنئة المسيحيين بالكريسماس حلال ام حرام؟...الافتاء المصرية تحسُم    وليد الركراكي: التتويج باللقب القاري سيكون الأصعب في تاريخ المسابقة    وفاة ممرضة أثناء مباشرة عملها بمستشفى الرديف...والأهالي ينفذون مسيرة غضب    موسكو تدعو مواطنيها إلى الامتناع عن السفر إلى ألمانيا لهذه الأسباب    فضاء لبيع التمور من المنتج إلى المستهلك من 22 إلى 28 ديسمبر بهذه الجهة..#خبر_عاجل    11 مليون عمرة في شهر واحد... أرقام قياسية من الحرمين    أبطال إفريقيا: الكاف يسلط عقوبة الويكلو على أحد الأندية المغربية    ما ترميش قشور الموز: حيلة بسيطة تفوح دارك وتنفع نباتاتك    بداية من اليوم..دخول فترة الليالي البيض..    أنشطة متنوعة خلال الدورة الأولى من تظاهرة "مهرجان الحكاية" بالمركب الثقافي بسيدي علي بن عون    التمديد في المعرض الفني المقام بالمعلم التاريخي "دار الباي" بسوسة الى غاية منتصف جانفي 2026    افتتاح الدورة 57 للمهرجان الدولي للصحراء بدوز    اسكندر القصري ينسحب من تدريب مستقبل قابس    موزّعو قوارير الغاز المنزلي بالجملة يعلّقون نشاطهم يومي 12 و13 جانفي 2026    وداعًا لأسطورة الكوميديا الأمريكية بات فين    عاجل: اليوم القرار النهائي بخصوص اثارة الافريقي ضدّ الترجي...السبب البوغانمي    مع Moulin d'Or : قصّ ولصّق وشارك...1000 كادو يستناك!    رياضة : فخر الدين قلبي مدربا جديدا لجندوبة الرياضية    عاجل: هذا ما تقرر في قضية المجمع الكيميائي التونسي..    السجن لطالب بتهمة ترويج المخدرات بالوسط الجامعي..#خبر_عاجل    كأس أمم إفريقيا: برنامج مقابلات يوم غد    عاجل: عاصفة مطرية وثلوج تتجه نحو برشا دُول عربية    هذه أقوى عملة سنة 2025    تحذير خطير للتوانسة : ''القفالة'' بلا ورقة المراقبة يتسببلك في شلل و نسيان    سهرة رأس العام 2026.. تفاصيل حفل إليسا وتامر حسني في هذه الدولة    عاجل/ كأس أمم أفريقيا: الاعلان عن اجراء جديد يهم جميع المباريات..    ينشط بين رواد والسيجومي: محاصرة بارون ترويج المخدرات    صحفي قناة الحوار التونسي يوضح للمغاربة حقيقة تصريحاته السابقة    نانسي عجرم ووائل كفوري ونجوى كرم يحضروا سهرية رأس السنة    عاجل/ تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة..    بداية من من غدوة في اللّيل.. تقلبات جوية وبرد شديد في تونس    النوبة القلبية في الصباح: علامات تحذيرية لازم ما تتجاهلهاش    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    ويتكوف يكشف موعد المرحلة الثانية من اتفاق غزة    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    فوز المرشح المدعوم من ترامب بالانتخابات الرئاسية في هندوراس    اليوم العالمي للغة العربية ... الاحتفاء بلغة الضاد ضرورة وطنية وقومية لحماية الهوية الثقافية    تزامنا مع العطلة: سلسلة الأنشطة الثقافية والترفيهية الموجهة لمختلف الفئات العمرية    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فضح المسكوت عنه واقتحام المناطق الملغّمة
محمد شكري: عبد الحفيظ المختومي (الكنعاني المغدور)
نشر في الشعب يوم 08 - 12 - 2007

ندر أن كُتب في أدب السيرة الذاتية العربية الحديثة بمثل هذه الجرأة وهذه الصراحة وهذه الحميمية وهذا الوضوح: كسر حدود اللغة في اعتباراتها المتعددة وعوائقها الكثيرة، لتشارك السارد في تعاضد واتساق رسم عوالم خطيرة، والغاية اخراج المسكوت عنه من مدافن الصمت المعمّم والحشمة المصطنعة والاخلاق المتآمرة، واقتحام المناطق الملغمة بالمحرّم والمقدّس والعيب، بالفاضل والطاهر والعفيف..
هذه السيرة الذاتية / الاعتراف اصرار على الفضح الفاضح، إذ لا شيء سوف يخسره بطلها في وجوهه المتعددة (الحكي والفعل والتاريخ) ومراده الخروج من المراياالخلفية المحدبة والمقعّرة ليظهر واضحا شفافا في ادقّ تفاصيل ذاته جوّانيا وبرّانيا، بل قل كان يخسر الكثير لو لم يتجرأ ويركب مغامرة هذه الكتابة.
هو «الحكي الذي يكون فيه السارد هو البطل في حكيه / جيرار جينيت» وهو الفعل في انتاج وجوده الواعي في «التطابق بين المؤلف، الشخصية السارد» دون تزيد او نقص.
وهو التاريخ الإطار المرجعي للذات الساردة كونه شخصية موجودة ماهية وحقيقة ووعيا، زمانا ومكانا، تفاعلا وتأثرا بما يحدث والمساهمة في انتاجه تحريكا وخلخلة.
وعليه سيتجاوز كاسرا حدودا كثيرة وعوائق جمّة ليفصح فيفضح ويتكلم فيعرّي، ويفعل فيتحدّى، ويكتب ليؤسس نقيضا مطلقا لبعض سير رواد السيرة العرب، فطه حسين في أيامه مثلا لم يخرج من الايام العامّة ليغوص في الايام الخاصة في داخله، وميخائيل نعيمة، في «سبعينه» ظلّ مسيجا بمسيحيّته الصارمة وهاجس حكمة السبعين ورصانة العمر ولواحقه، ورأى محمد شكري في كتاباته اولئك وغيرهم: «تورما ذاتيا لا جذور له في الواقع الذي ينتمي اليه والذي من المفروض ان يعبّر عنه بدل الاغراق في الحديث عن عوالم الفرد ومتاهاتها / فيليب لوجون ص 5».
فكيف سيكتب معيشه ومعيش الاخرين ومعيش الحياة؟ وكيف سينقل محكيّه من تشكيله في وعيه الى غيره بصوت ملفوظ مقروء مسموع «ليكتسب هويته الحقيقية بفقدانه لهويته المحدودة / نيتشة»؟
ويحسم الامر: على هذا «الغير» ان يقبل او يرفض، يبرّئ او يتّهم، أما انا فسأكتب باللغة التي ارتئيها، مخاطرا، متحدّيا ومعترفا «أنا أكتب إذن أنا مسؤول، ولن تقام لعنقي المشانق وتشعل الحرائق لما سأكتب» واللغة التي سيكتب بها صاحب «الخبز الحافي» إنما هي اساسا وعيه باناه. سوف يكتب في أجساد النساء ومن في سنّه وفي أجساد المثليّين الكهول باسفله ويكتب في جسده بأصابعه ويكتب في صراعه مع محيطه بعراكه وتشرّده واحتجاجه وتحالفه مع اللصوص والنشالين والسراق والمشرّدين والمطرودين ويكتب جراح معاركه الكثيرة وخيباته وحرمانه بالخمرة: رديئها وجيّدها وبالكيف والحشيش واعقاب السجائر والدجاج النافق والقمل والمبيت في العراء والمقابر وبيوت العاهرات والمقاهي ولن يهمّ ذاك «الغير» ما يكتب، هذا «الغير» ذو الوجهين دائما يقرأ في السرّ ويلعن في الجهر، ينفعل لما يقرأ في سره وينتعش متخيله ليعيش خيالا ما عاشه محمد شكري حقيقة وواقعا ويسب في جهره ويلعن محمد شكري الماجن والفاسق و»قليل الحياء» والمعلون..
لكنّ محمد شكري وهو يكتب يغتصب لحظة البوح ليحكي بعد ان اغتصبت منه طفولته وشبابه.. انها عملية تصفية حساب مع مرحلة برمّتها.
أخذ هذا المعيش المحكيّ حيّزين:
زمن السّرد
الزمن التاريخي للاحداث
يقول محمد شكري : «اكتب هذه المذكرات في سنة 1972 / الخبز الحافي ص 168» و..»أكتب بعض الفصول من هذه السيرة الذاية عام تسعين / الشطار ص 94»
وأنهاها عام 92، بعد توقف كما يقول عن الكتابة تسع عشرة سنة هي التي تفصل بين «الخبز الحافي» و»زمن الاخطاء»... متدرّجا خطّيا واضحا مراعيا تطوّر سنّ السارد وإدراكه ووعيه بالاشياء والكائنات والعالم.
أمّا الزّمن التاريخي للاحداث فيبدأ استرجاعا في بداية الاربعينات، وطفولته والهجرة من الريف الى طنجة بسبب المجاعة والقحط والحرب قالت انها تركتني في الخامسة او السادسة من عمري في الريف / خ ح ص «54» فالخمسينات «انا في السادسة عشرة / خ ح ص 105» (ولد محمد شكري سنة 1935)، «اليوم 30 مارس 1952، تمرّ اربعون سنة على حماية فرنسا للمغرب / خ ح ص 120»
وصولا إلى الثمانينات (موت الامّ 1994) مرورا بالسبعينات (موت الاب 1979) / الشطار / ص 9 / .
في هذا الزمن التاريخي راح محمد شكري يحكي حياته، هو طفل، لم تتشكل غرائزه وتنضج «رغبتي الجنسية تتهيّج كل يوم، الدجاجة، العنزة، الكلبة، العجلة تلك كانت إناثي / خ ح ص 31» فشاب في أوّل يفاعته، «عدت الى العمل في المقهى وأكل معجون الحشيش وتدخين الكيف / خ ح ص 36..
ذات مساء شربت النّبيذ وتحششت في المقهى / ص 37» ففوران الشباب والبلوغ الجنسي وبدء تجربته مع نساء المواخير، ودخوله حلبات الصراع ضد امثاله من اللصوص والمتسكعين والشطار، وتسلحه لهم في العراك وبامتلاك معرفة «الضرب بشفرة الحلاقة / خ ح ص ب 50» «أنا في السادسة عشرة شاب قادر على السرقة / خ ح ص 105»
أمّا المؤلف، السارد، البطل فهو محمد شكري عينه «محمد، ادخل انت الاول معها... انت تعودت على ان تدخل الاول / ص 48» «من أيّة ناحية من الريف أنت»
من بني شيكر
أعرف الشكريين، الريفيون شجعان / خ ح ص 155»
محمد شكري شاهد على ذاته / شاهد على أسرته / شاهد على الاخرين:
شاهدت على ذاته، شاطر من الشطّار، لص، مهمّش، رضع الفقر والحرمان والخصاصة والامية والضياع والتشرد، إنّه وجه من وجوه القاع، وتربّى ونشأ بين شقاء الام وعملها وأودها ولا مبالاة الاب، وبلغ شبابه بين احضان نساء المواخير والحانات فعاشر الخمرة وشرب منها بلا حدود مصحوبة ب «مزّة» استثنائية: حشيش وكيف الى حدّ العشرين من عمره وهو «لا يفكّ الحرف»..
لا يخجل من سرد تفاصيل جسده وتشريحه في نوازعه ونزواته وثوراته، فهو شبيه بصديقه الحميم جون جينيه في كتابه «مذكّرات اللص»، الذي «عانق عصره دون ان يتخاذل او يخجل من تشريح نفسه وغيره». اتعب جسد صاحب «الخبز الحافي» صاحبه كثيرا وأمتعه اكثر، فلم يتورع عن قبول كل شيء، انه الوعي بالجسد، انه جسده لذلك توزّع بين لغة الجسد وجسد اللغة في معادلة جريئة ولذيذة يندر ان يأتيها أحدهم تحكمه محرّمات وطقوس صارمة وقاسية.
ذكر أصحابه وأصدقاءه من الشّطار بحب وعطف كبيرين يذكّراننا بفتوّة ووفاء الصعاليك، والعيارين والحشاشين العرب قديما: / التّفرسيتي، السّبتاوي، الذي قال له يوما: «التسوّل مهنة الاطفال والشيوخ العجزة، عيب أن يتسوّل شابّ قادر على السرقة اذا لم يجد عملا / خ ح ص105» وعبد السلام والكبداوي والقندوسي.. وسلافة وبشرى، «اخبرتني امرأة في سنة 63 ان سلافة وبشرى في الدار البيضاء لتحترفا الدعارة رسميا في نفس سنة52 / خ ح ص 168» وحميد والمختار الحداد الاعمى بين طنجة والعرائش...
هو عاشق وهران وتطوان، لكن لطنجة عشق استثنائي وما اجمل قصيدته فيها «طنجيس» / الشطار ص 213. عاشق لأسواقها ودروبها وازقتها وحاناتها ومينائها وحرّها وقرّها وليلها:
«إنّ ليل طنجة هو ليلي، لا يودعها من عاش فيها حتى تأذن له سرّتها./ كم عدت اليها مهما كان تناسلها وما اكثر ما سافرت وعدت عن نصف طريقي اليها / الشطار ص 175» وهو عاشق للعرآئش عشق جون جينيه لها حيث يحتضن ترابها الى الابد، يرنو من قبره اليها ويعانقها..
العرائش هذه ذهب اليها في العشرين من عمره ليدخل المدرسة لاول مرّة ذهب لصّا، صعلوكا، لم يتخل عن عاداته وسلوكاته الطنجويّة.. ليتخرج من مدارسها متعلّما حاملا الشهائد يكتب عقود القرآن..
«مسكين تزوّج مسكينة.. لم تحضرني أيّة شريعة تمنع ما سأقوم به. إن الفقر فوق القانون، قلت: ولماذا لا، على بركة اللّة.. سجّلت متاع كلّ منهما.. سلّمت للرّجل نسخة وأمّنت الاخرى عند السي عبد الله.. رفعنا أنا والسي عبد الله ايدينا وشرعت اقرأ دعاء الخير والسي عبد الله يردد امين./ مدّ لي الرجل اوراقا ملفوفة رفضتها/. ألحّ.. انصرف الزوجان فقال لي السي عبد اله:
هذا أعظم عمل خير تقوم به في حياتك. سيكون لك مستقبل عظيم ان شاء الله / الشطار ص 65».
الفقر ليس قدرا.. الفقر ليس لعنة..
وشاهد على أسرته:
متعاطف مع أمّه، السيدة ميمونة / خ ح ص 72، وأخته إرحيمو، والقتيل عبد القادر / خ ح ص9، وعاشور الذي مات هو أيضا / خ ح ص 49، وعبد العزيز.. ولامّه مكانة خاصة، يقول في فصل «موت الامّ» من الشطار / ص 193 وما بعدها:
«افتح انا العاقل
إنّه هو إذن زوج أختي.. ما حدث لابدّ أن يكون مصيبة حتى يجيء في هذه الساعة
أمّك ماتت
بصوت مبحوح ثمل:
ماتت إذن
نعم... البس بسرعة
... متى ماتت؟
منذ ساعات في المستشفى المدني، مضى يومان وهي في غيبوبة.
بماذا ماتت؟
بنزيف أنفيّ، لم يتوقف خلال أسبوعين.
... بموت أمّي تموت كل أسرتي... إنّها لا تعرف أني قد آخيت ليلي مع اي ليل.. غادرت تطوان شاعرا ان حبلنا السري قد انقطع وان جذوري من شجرة عائلتي قد تعفّنت الى الابد...»
ألا يذكّرنا هذا المقطع الحواري المؤثر بما ذكره «غريب» ألبيركامو حين استلم برقية اعلام بوفاة والدته؟؟
توفّيت أمّه عام 1984 / الشطار ص 100، يقول في حوار صحفي:
«لقد حدث عندما نشر «الخبز الحافي» عام 1981 بالعربية ان ذهب أحد الجيران عند أمّي وقال لها: إن ابنك كتب كلاما يسيء الى أسرتك، وإلينا جميعا فأجابته أمّي الرفيعة،، «إنّه يعرف ما يفعل» هؤلاء كانوا الجيران وتلك كانت امي / القدس العربي، فيفري 2002.
أمّا الاب «حدّو علاّل الشكري» / الشطار ص 99، فالحديث عنه غيرالحديث «لان العقل لا يتجمد امام اليقين، بل يهوى عبور الممرات الضيّقة للظواهر الخادعة.. وطقوسيّة الوقائع.. (وقد) زوّدنا فرويد بجهاز مفهومي قادر على الولوج الى قلب الحقيقة الانسانية عندما اخرج كتلة الاستهامات المكبوتة الى شبكة سردية ودلالية جاهزة للتموضع في البنى اللغوية بعد ان كانت مدفونة في ظلمات النفس واللاوعي / التحليل النفسي والادب ص7»، وسوف يخرج محمد شكري تلك الاستيهامات من اللاوعي الى لغة الوعي اللغة ليحكي قصّته مع ابيه في ما يسمّى «قتل الاب».
يعترضنا هذا «المفهوم الفرويدي / اللاكاني» في وجوه متعدّدة الصّياغة، متوحّدة الدلالة:
إنكار الاب الخطوة الاولى لقتله:
«ألست انت ابن السيد حدّو؟
كلاّ لست أنا
أعاد السؤال بالحاح وحيرة:
ألست انت ابنه محمد الذي عاد من وهران؟
قلت لك لا، ولا أعرف شخصا بهذا الاسم
ما اسمك إذن؟
محمد
لكنّ أباك هو السيد حدّو بن علاّل وأمك هي السيدة ميمونة.
قلت لك إنّي لا أعرف سوى نفسي.»
هكذا تبدأ الخطوة الاولى: محوه من وعيه ودفعه الى زوايا الإنكار تمهيدا لقتله.
القتل:
«إذا كان من تمنّيت له أن يموت قبل الاوان فهو أبي.. في الخيال لا أذكر كم مرّة قتلته / خ ح ص91.
في السينما مات أبي في خيالي كما مات خصم البطل على الشاشة هكذا تمنيت دائما ان اقتله / ص 97.. حين يموت ابي سأزور قبره لكي... / خ ح ص 100... إنّه كلب / ص 76 وأبوك؟ مات (أبي سيموت في صيف 79، بعد 23 سنة / الشطار ص 3، تتمنى لو أنّي اموت (فكرت: ها أنت بدأت تقول شيئا معقولا ) خ ح ص 95
في ما تقدم/ الحقل المعجمي المسيطر هو القتل / الموت (يموت، قتلته، مات في خيالي أقلته، يموت، كلب، مات، أموت..)
فبم يفسر محمد شكري ذلك؟
يقول: «انما اريد ان اقول ان موت ابي في ذهني تم في اللحظة التي مات فيها اخي / اننا لا نقتل أباءنا الا بقدر ما يقتلون انفسهم فينا، إنّ الاب هو الذي يؤجل اويعجّل، يقصر او يطيل موته في ابنائه والموت درجات متفاوتة ثم ان الابن لا يستطيع ان يخلق سلطتهس الا بتحرّره من قيد سلطة أبيه..»
هي مقاربة فرويدية لمفهوم قتل الاب واذا ورد القتل حصريا في الحقل المعجمي المسيطر عند محمد شكري فان ذلك يعني بوضوح الاستقلال عن سلطة الاب المتسلط والطاغية المتجبر والمتحجّر والغليظ لا قتله حقيقة، أوليس قتل الاب هو من ثقافة «الطوطميّة؟ أو ليس قتل الاب هو قطب الرّحى في العقدة الأوديبيّة؟
الا يفسّر اضراب محمد شكري عن الزواج من زاوية التحليل النفسي ميله للبقاء إبنا قاتلا لابيه لا ابا سيأتي الدور عليه ليقتله ابنه؟ ويظل القتل هو قتل هوام اي علي مستوى الذاكرة والفكر والذهن والتصور والتخيل هو نوع من التخيل اللاواعي Fantasmatique / مجلة مواقف / ص 38 ص،
مات والد محمد شكري بيولوجيا موتا طبيعيا لعلّة او مرض ما / لكنه مات مقتولا في «خيال»ابنه قبل ذلك منذ طفولة البطل السارد (يستعمل محمد شكري لفظة «في خيالي» اكثر من سبع وعشرين مرة من ص 36 الى ص 103 من كتابه خ ح .
وعليه نفهم ميله الى أمّه التي سوف تحتل وظيفة الاب وحبّه لها وعطفه عليها حتى وفاتها يشاركها معاناتها «احيانا انتحب معها. كنت اؤازرها. ص 11 . بدأت تنتحب انا ايضا غلبني الحزن فسالت دموعي ضمتني اليها ونعست / خ ح ص 15 « انها هي بدورها مقهورة مثله موجوعة ومهانة وذليلة فصار رابط «التضامن القهري» هو الجامع بينهما ضد سلطة الاب ولكون الابن ذكرا فلن يقتل هذا الطوطم الفحل الاب إلا هذا الذكر النازل من صلبه لا غير ليثأر لنفسه ولكل المضطهدين مثله من لدنه، انه «اوديب» ناطقهم الرسمي وممثلهم في «قتل الاب» ومن ثم العودة الى رحم الام.. قتل الاب انقاذ للقبيلة كلها.
ألم يرد في كتب الأخبار ان فرعون لما اعلمه احد سحرته المنجمين انه سيلد طفل يهدد عرشه ويأتي على ملكه امر بقتل جميع الاطفال ولنلاحظ كيف حدد هذا المنجم جنس المولود الذكورية وسينجو طفل ما يتربى في بلاط فرعون، وحين يكبر يقتل أباه، وان ليس أبًا بيولوجيا بالضرورة؟ ومات او «قتل الاب» سيان، لكنّ محمد شكري يعلن «سأكون شيطانا هذا لا ريب فيه. الصغار اذا ماتوا يصيرون ملائكة، والكبار شياطين. لقد فاتني ان اكون ملاكا / خ ح ص 233» والملاك وديع اما الشيطان فمتمرّد لا اب له.. ومتمرّد على كل شىء وشاهد على تمرّده في «خبزه الحافي» مع «شطاره».
حاول محمد شكري ان يضع نصه / سيرته في المشهد كتمثيل له «ان المسافة بين هذا الكاتب وإبداعه الادبي ضيّقة جدّا فكل آثاره تمثل مشهدا لحياة واحدة، فقط هي حياته / التحليل النفسي والادب: السيرة الذاتية ص 99 100 « حياة هامشي صعلوك، شاطر، وبعد مغامرته في ذاته ومع الاخر مدا وجزرا، هبوطا وصعودا، علمته الحياة فاستوعب ما تعلم وقال بوضوح ما يريد « لقد علمتني الحياة ان انتظر. ان اعي لعبة الزمن بدون ان أتنازل عن عمق ما استحصدته: قل كلمتك قبل ان تموت فانها ستعرف حتما طريقها. لا يهم ما ستؤول اليه، الاهم هو ان تشعل عاطفة او حزنا او نزوة غافية ... ان تشعل لهيبا في المناطق اليباب الموات.. ان نرقص على حبال المخاطرة نشدانا للحياة / ح ح ص 4...»
الاحالات
الخبز الحافي، نشر الفنك 2007، الدار البيضاء، المغرب
الشطار دار السّاقي ط أولى 1992.
فيليب لوجون: السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الادبي ترجمة وتقديم عمر حلي، المركز الثقافي العربي بيروت الدار البيضاء ط اولى 1994
جان بلاّمان نويل Jean BELLEMIN- NOوL التحليل النفسي والادب
منشورات عويدات بيروت لبنان ط 2 1999.
مجلة « مواقف» العددان 70 / 71 شتاء ربيع 1993 دار الساقي: النظام الابوي / ب: السلطة الابويّة و»القتل».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.