إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    تونس تسجل رسميا تحفظها على ما ورد في الوثائق الصادرة عن قمة البحرين بخصوص القضية الفلسطينية    رسما: وزارة الشباب والرياضة تتدخل .. وتمنح جماهير الترجي الرياضي تذاكر إضافية    مقابلة الترجّي والأهلي: وزارة الداخلية تُصدر بلاغا    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    الجبابلي: 21500 مهاجر غير نظامي حاولوا بلوغ سواحل إيطاليا خلال هذه الفترة..    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    إذا لم تكن سعيداً فلا تأتِ إلى العمل : شركة تمنح موظفيها ''إجازة تعاسة ''    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف: الدخول للمتاحف والمواقع والمعالم الأثرية مجانا للتونسيين والأجانب المقيمين بتونس    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    عجز الميزان التجاري للطاقة يرتفع    كأس تونس: تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    عاجل- صفاقس : الكشف عن ضلوع شركات وأشخاص في بيع محركات بحرية لمنظمي'' الحرقة''    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    عاجل : جماهيرالترجي تعطل حركة المرور    الترجي الرياضي التونسي في تحضيرات لمواجهة الأهلي    التمويلات الأجنبية المتدفقة على عدد من الجمعيات التونسية ناهزت 316ر2 مليار دينار ما بين 2011 و 2023    وزارة التربية تعلن قبولها ل100 اعتراض مقدّم من الأستاذة النواب    محمد عمرة شُهر ''الذبابة'' يصدم فرنسا    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    وزارة الداخلية تُقدّم قضية ضدّ كل من نشر مغالطات بخصوص ما حصل بدار المحامي    ضبط معدات لاسلكية لاستغلالها في امتحان الباكالوريا..وهذه التفاصيل..    مفزع/حوادث: 15 حالة وفاة خلال يوم فقط..    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    رئيس الجمهورية ووزيرة المالية يتباحثان ملف التمويلات الأجنبية للجمعيات    الاقتصاد التونسي يسجل نموا ب2ر0 بالمائة خلال الثلاثي الأول من 2024    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    كتاب «التخييل والتأويل» لشفيع بالزين..الكتابة على الكتابة اعتذار عن قبح العالم أيضا    حزب الله يستهدف فرقة الجولان بأكثر من 60 صاروخ كاتيوشا    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    ينشط في عديد المجالات منها السياحة .. وفد عن المجمع الكويتي «المعوشرجي» يزور تونس    أخبار المال والأعمال    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    محكمة العدل الدولية تنظر "وقف العمليات العسكرية في رفح"    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    طقس الخميس: أمطار ضعيفة والحرارة تصل الى 41 درجة    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاقتصاد التعاوني الاجتماعي منطلقات وأبعاد
بقلم الهادي الشمانقي
نشر في الشعب يوم 15 - 12 - 2007

كلما تفاقم الظلام إلا وازداد بريق النجوم، تلك هي الحركة التأسيسية النقابية في العشرينات . وتكريسا للتواصل وبحثا عن الاعتبار يتولى الاتحاد العام التونسي للشغل إحياء ذكرى تأسيس الحركة النقابية للمرة الثانية على صعيد الوطن الصغير تحت عنوان: الاقتصاد التعاوني الاجتماعي، ذلك أن مجموعة من الوطنيين التقدميين هبت بقيادة المؤسس محمد علي الحامي إلى وضع مشروع يتعلق بتكوين جمعية التعاون الاقتصادي التونسي، فوقع تأسيسها بقاعة الخلدونية يوم 29 جوان 1924 وفي 06 جويلية من نفس السنة تمت المصادقة على القانون الأساسي ووقع انتخاب لجنة وقتية للغرض.
إن الاقتصاد التعاوني الاجتماعي، توجه قد أرساه محمد علي ونضج بين يدي فرحات حشاد و أنجزه، بطرق شتى، كل من أحمد التليلي وأحمد بن صالح والحبيب عاشور.
انطلاقا من المشروع وتنفيذاته، يجدر التساؤل حول القراءة المعتمدة: هل تولوا تقديم علاقات الإنتاج عن وسائل الإنتاج ؟ كيف يمكن مقاومة العولمة من خلال إرساء اقتصاد تعاوني اجتماعي ؟
1/ منطلقات مشروع التعاونيات: الاقتصاد التعاوني الاجتماعي بين التجذر والحداثة
كان المشروع نتاجا لتلاقي الأصالة والحداثة.
أ- المحايثات التاريخية
لم يكن مشروع التعاونيات مسقطا ولا مستوردا، بل كان سليل قراءة تراث اجتماعي وتواصلا لمخزون شعبي الذي تتسم ملامحه بالتعاون بالعمل كما عرف بالتويزة عبر أنحاء المغرب العربي الكبير. بحيث يتم إنجاز العمل جماعيا مع الحفاظ على الملكية الخاصة، حتى إذا كان من بينهم مصاب بداء عضال أقعده عن استغلال أرضه أو أرملة لا سند لها وقع إنجاز المقصود تطوعا بتقديم حصص عمل مستعينين بماعونهم الخاص ... كما يتخذ الاقتصاد التعاوني الاجتماعي شكل استغلال جماعي لبعض وسائل إنتاج مشتركة خاصة إذا كانت الآلة باهضة الثمن وأحيانا استغلال جماعي لأرض مشتركة.فكانت أشكالا شتى منتشرة في العشرينات ومتينة إلى حد أنها كانت تدرك أحيانا اشتراكية تلقائية أو اشتراكية بدائية.
كان يتم هذا النشاط في إطار الجماعة أو الميعاد الذي يسير شؤونه بنفسه وفي منأى عن المخزن. ولعل هذا ما شكل سمادا لمقاومة أعتى محتل عصره سنة 1881 اعتصاما بسلسلة الظهر التونسي بعدما صدته سلسلة جبال خمير، وكانت تلك بصفة موازية لقطيعة خيانة المخزن.من هذه الخلفية انطلق مشروع التعاونيات وفي أرضية اعترتها ظروف ضنكة، من ذلك الخروج من الحرب العالمية الأولى التي فرضت على شعب أرهقته المجاعة إلى حد إباحة أكل لحوم البشر في بعض الجهات .(1)
لئن انطلق الرأس المال الأهلي من هذه الأرضية نحو تنمية وسائل الإنتاج من خلال بعث مؤسسات وطنية في كثير من الجهات مثل الزاوش والذي تلاه شنيق، فإن المجموعة الطلائعية، بريادة محمد علي، ركزت على تعزيز علاقات الإنتاج بالتوجه نحو الشرائح المستضعفة، عمالا وحرفيين جاعلة من ضعفهم قوة إذ أن ذكاء الرواد يتمثل في تشخيص الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعيش واستيعاب خصوصياته فاستنبطوا التعاونيات وسعوا إلى الارتقاء بها إلى مصاف الحداثة التي تتمثل في وضعها في شكل مؤسسة منوطة بأحدث مناهج التدبير والمراقبة. وكان المشروع شموليا يرتقي إلى إقامة اقتصاد مندمج كما نظر له ذلك سمير أمين لاحقا. وكان المشروع يهدف إلى تأسيس القاعدة المادية ونشر الثقافة الاقتصادية والاجتماعية إذ أن « الأمر المعنوي هو الأعظم أهمية في التعاون الاقتصادي ويعد من خصائصها ، هو العمل الدائم لتربية الروح الاقتصادية بنشر المبادئ الاقتصادية وإفهام الناس ضروب المعاملات العصرية وأصولها ونتائجها المتنوعة « .(2) بحيث يمكن أن يفضي هذا التمشي إلى إنتاج الثروة وإدراك الفيض الوطني الذي هو أساس اشتراكية علمية التي قد تكون منشودة عند نضح الظروف ، إذ كان الحامي يؤكد على «أن هذا الفكر السائد في جمهور التونسيين .... هو الذي هيأ البلاد إلى النهضة السياسية قبل كل نهضة أخرى.... إن المجهودات التي تبذلها بنفسها لنفسها لا تعد مجهودات الحكومات أمامها إلا جزءا ضئيلا ....» (3)
ب- الاعتماد على القدرات الذاتية
كان قد توجه المؤسسون إلى الشرائح المستضعفة عمالا وحرفيين قصد بعث جمعية التعاون الاقتصادي التونسي، فوقع فتح باب الاكتتاب أمامهم. بحيث أن تعدد المشتركين يمكن أن يوفر موارد كثيرة رغم المساهمات الزهيدة قيمة فتعين على التخلص، في البداية، من وطأة الرأس المال الاحتكاري سليل الاحتلال، إذ أن التعويل على الذات هو النهج الذي ظل يؤكد عليه فرحات حشاد على « التفكير في استثمار الملكيات الصغيرة وذلك بتكوين تعاضديات إنتاج وتعاضديات خدمات تمكن المتعاضدين من التعاون فيما بينهم « .(4)
وبقدر ما أكد المؤسسون على الجانب المادي كانوا قد أعطوا أكثر أهمية للتضامن والتعاون قصد إدراك الوعي بالذات من خلال تكريس ثقافة العمل قيمة اجتماعية وإبداعية وبث فكر مستقل من خلال إيلاء العلم المكانة المنشودة . «فليس التعاون مجرد عمل مادي ضمن مؤسساته فإن السلطان الأعظم الذي تسير إليه وبه هذه المؤسسات إنما هو بث روح التآخي والتعاضد على العمل وحب الاشتراك في المنفعة وتربية استقلال الفكر الذي أضاعه رأس المال الكبير وتنمية شجاعة النفس التي أضاعها الاحتياج لمقاومة الأزمات وما يأتي من رأس المال» .(5) وبهذا التصور فإن الاقتصاد التعاوني الاجتماعي قد لا يحجب الصراع الطبقي مثلما ذهب إليه بعض الماركسيين.
إن الاعتماد على القدرات الذاتية أمر حياتي إذ يذكر الطاهر الحداد تحت عنوان لاثقة بالغير : «إن الأمة التي لا تكون فيها قوة مستمدة من ذاتها تسير بها نحو الغايات التي تحددها تبقى خاسرة آمالها في الحياة ... وسواء كان ذلك الغير دولة أو حزب أو جمعية ما من الأجانب ، فإن الحياة والحرية والقوة والسيادة لا توجد إلا في أعماق النفس الشاعرة والفكر الذي يشع بالنور... ومن يثق بذلك من أفرادها إنما يقدم أمته ويقدم نفسه هبة للغير ....»(6) وهو الأمر الذي حدا بالمؤسسين إلى العزوف على الانضمام إلى الأممية حتى الشيوعية إلا بعد تأسيس وتنمية القوة الذاتية وإلا «حاول الجانب القوي تحويل عقد التعاون إلى ابتلاع... سواء أكانت دولا أو أحزابا إصلاحية كانت أو ثورية....» (7)
فالحياد عن هذا المنهج بدأ « بإعلان أحمد بن صالح في ندوة صحفية عقدت في بناية الاتحاد يوم 1 ديسمبر 1955 فجاء فيه أنه يجب الاقتناع بضرورة الالتجاء إلى الإعانات المالية الأجنبية خلافا لما كان يراه الشهيد حشاد أن تونس تكمن فيها مصادر القوة والثراء. وقد أكد الحزب الدستوري الجديد في مؤتمره المنعقد في نوفمبر 1955 على أن تونس تتمتع بخيرات طبيعية هامة» .(8) وهو المنعرج الذي جعل الشعب ضحية علق المديونية سيما إذا وقع قرنها بالشروط المجحفة متزامنة مع طاعون الفساد ، ولعل الداء لم يدخر ما يسمى بالمجتمع المدني الذي سقطت بعض مكوناته في فخ التمويل الأجنبي . ومما يشد الانتباه هو أن ذات الجهة هي التي تمول الطرفين!
ج- التسيير الذاتي :
كثيرا ما يقترن التسيير الذاتي بحق الملكية الجماعية. وقصد النجاعة واستمرار المؤسسة ينبغي التأكيد على جدلية المسؤولية والمسائلة. فماهي شروط كل منهما ؟
إن الإدارة تستوجب كفاءة علمية و تجربة مهنية، إذ ما انفك المؤسسون يؤكدون ضمن برنامجهم على نشر تعليم وطني يستجيب لمتطلبات الحداثة . وبالإضافة إلى المسك بناصية العلم والمعرفة والأخذ بتجربة الشعوب الأخرى وخاصة في الميدان الاقتصادي فإن مشروع الجمعية كان يهدف إلى تربية روح المسؤولية لدى النشأ من خلال إدارة المؤسسات وتعزيز روح المسؤولية وهو نبذ الأنانية ونزعه التملك والاستبداد . إلا أنه ولئن كانت الإدارة الحديثة للمؤسسات ضرورية لكن ليست كافية . فإذا كانت المراقبة ضرورية تفعيلا للمسألة فإنها تستوجب شروطا لتكون ناجعة ومن أهمها أن تكون منوطة بجهاز مستقل عن جهاز الإدارة أو التنفيذ الذي ينتخب مباشرة صلب المؤتمر. وفي هذا الصدد يمكن الاستئناس بالفصل 13 من القانون الأساسي لنقابة عموم العملة التونسية في غياب القانون الأساسي لجمعية التعاون الاقتصادي التونسي وهو الفصل الذي ينص على ذلك. كما أن مدار المراقبة ينبغي أن يكون شاملا فتتعلق بالأمور المالية و تدرك متابعة مدى تنفيذ قرارات المؤتمر.
وقصد تحقيق نجاعة المراقبة أراد لها المؤسسون أن تكون مشفوعة بعقاب شديد لكل من يحاول التلاعب بالمؤسسة، ذلك أن الطاهر صفر أحد الخطباء في الخلدونية ذكر أن القانون الأساسي للجمعية «هو السلاح الحاد الماضي الذي تقد به رقاب المنتهكين لحرمة المشروع أو القاصدين إذابته». (9) وتذكرنا هذه الصرامة إزاء كل من يعمد إلى تخريب المؤسسة بعقاب الإعدام الذي يسلطه قانون حامورابي على كل من يقتل ثورا لأنه يمثل وسيلة إنتاج للمجموعة أو عقوبة الإعدام في الصين ضد الاستيلاء على أموال عمومية.
لكن وفي غياب نص القانون الأساسي للجمعية نتسائل عما إذا كانت المسائلة تشمل المراقبة الوقائية بالإضافة إلى المراقبة اللاحقة لأن فيها وقاية للمؤسسة من كل انهيار وتجعل اللجوء إلى العقاب استثناءا كي تلعب المؤسسة الدور المرشحة له فتنقل الثروة إلى رأس مال، وبالتالي تكون محصنه ضد إفلاس. بحيث «أن المشاريع كافة إذا اقتصرت على جهد المأمورين فيها دون أن تعتمد على جهود الجمهور الذي يشترك فيها ويعمل لفائدتها عن بصيرة وكفاءة لا يكون مصيرها إلا التقهقر والانحطاط إلى أن تصل إلى الموت النهائي، وهذا ما وقع في شركاتنا التجارية ...» (10)
ويمكن أن نخلص إلى القول بأن التسيير الذاتي في كل الميادين يعتمد أساسا على جدلية الإدارة والمراقبة والمسؤولية والمسائلة وهي المنهجية التي تضمن تحقيق النقلة النوعية. وعند نضج الظروف يكشف لاحقا فرحات حشاد عن برنامج الحركة النقابية إذ يقول في الصدد «إذا بحثت على أحقية تمكين الشعب من تسيير دواليب حياته والإشراف بنفسه على شؤونه فأسأل عن مؤتمر الاتحاد العام الذي كان عبارة عن البرلمان الذي يعمل على نهج أسمى المبادئ الديمقراطية ...»(11) فاغتيال التسيير الذاتي انتصار للبيروقراطية التي أودت بحياة الاتحاد السوفياتي.
/2 أبعاد مشروع التعاونيات : الاقتصاد التعاوني الاجتماعي مرشح لمقاومة العولمة.
انطلاقا من الاستشراف منظورا والاستباق ممارسة يمكن استجلاء العبر التالية من الحركة التأسيسية.
أ- إستراتيجية القطيعة
قصد استنباط العبرة لدى المؤسسين يمكن القول بأن إستراتيجية الحركة التأسيسية كانت تهدف إلى المقاومة في شكل القطيعة والبناء وذلك بالمقاطعة الاقتصادية للاحتلال من خلال بناء تعاونيات لمجابهة الرأس المال الاحتكاري. وكان رواد التأسيس قد تجاوزوا العبرة إلى الاعتبار بعهد الأمان الذي كان مسموما إذ ينص على «أن الوافدين على إيالتنا من سائر أتباع الدول لهم أن يشتروا سائر ما يملك من الدور والأجنة والأرضين مثل سائر أهل البلاد» .(12) فيدرك التفويت خيرات الوطن الكامنة في باطن الأرض. كما اعتبر التوجه بما عمد إليه «المصلح» خير الدين باشا من تفويت في هنشير النفيضة سنة 1880 للأجانب ففتح بذلك بوابة الاحتلال الذي اغتصب الوطن سنة 1881
وقد تنبأ الطاهر الحداد لما ذكر: «أن يكون نظام هذا العالم ماليا (أي الرأس مالية وإن يكون ذلك فسيكون تاريخه طويل الذيل « .(13) فأفرزت الرأس مالية العولمة التي تفرضها الدوائر المالية العالمية بتحريك خفي من الشركات العابرة للقارات، وهي العولمة التي تهدف إلى نسف منهجي للقاعدة الاقتصادية والاجتماعية في الوطن العربي بشتى الطرق وأخطرها التفويت في المؤسسات التي تمثل الغصب الاقتصادي للأجانب دون الوقوف على أسباب الانهيار .
ويرافق هذا بث الفوضى في القيم والثوابت على صعيد البنية الفوقية فتتقهقر الطبقة العمالية إلى مجرد لمم عمالي فشتات. ويعتري المجتمع أزمة شاملة وخانقة تحوله إلى مجتمع مركب (société composite) وتجعل منه لقمة سائغة للطامعين .
كما اعتبر الذين من قبلنا ينبغي لنا أن نعتبر من تاريخنا وذلك بالإمساك عن التفويت في مؤسسات الوطن للأجانب قصد الحفاظ على خيراته وقدراته لأن في هذا التمشي نيل من السيادة الوطنية التي هي كل لا يتجزأ.
وقصد تفعيل مثل هذه المقاطعة ونجاعتها يجدر اللجوء إلى التنسيق على صعيد الوطن الكبير لمقاومة آفة التفويت للأجانب بالإضافة إلى نشر ثقافة مقاطعة بعض البضائع الأجنبية وتفعيل التشريع المتعلق بمقاومة غسل الأموال التي ترد تحت عنوان استثمار مشبوه وما يجره من ويلات للاقتصاد والمجتمع. ولعل هذا الذي كان يعنيه فرحات حشاد عندما ربط الاستثمار بالاستعمار إذ ما انفك يردد بأن: «انتصاركم على المستثمرين أعداء الإنسانية هو انتصار على نفوذ الشركات الرأس مالية الكبرى التي طغت وتجبرت تحت تصرف الاستثمار الممقوت» .(14)
وبقدر ما نقاوم هذا التمشي فلا ينبغي أن نسقط في الشوفينية، إذ أننا في حاجة إلى الأخذ بتجربة الشعوب الأخرى وعلومها والبحث عن أسباب رقيها وهي الحداثة الحقيقية.
ب- تعزيز الحركة العمالية
يمكن استجلاء هذه العبرة من توجه المؤسسين وتركيزهم على الشرائح الاجتماعية المستضعفة وفي مقدمتها العمال انطلاقا من مشروع إرساء البنية الاقتصادية والاجتماعية وبلورة وعيهم بالقوة الذاتية قصد تحقيق الدور التاريخي المنوط بعهدتهم فالتوجه إلى الطبقة العمالية يكمن في أنها المرشحة إلى أن تكون في مقدمة حركة مقاومة العولمة انطلاقا من الدفاع عن مصالحها التي هي بالأساس وطنية تتجسد في الحفاظ على المؤسسات الاقتصادية وحمايتها من كل تلف بفعل فساد أو تفويت للأجانب والتي تمثل مورد رزقهم الوحيد تقيهم من غائلة بطالة جماعية مدمرة.
وقصد تأويل التجربة وخاصة مشروع التعاونيات لفك الأزمة الراهنة وعند تعذر مواجهة العولمة المفتوحة بواسطة تأميم الاقتصاد وعند ضرورة اللجوء إلى الخوصصة، ينبغي تشريك العمال في رأس مال المؤسسة موضوع إعادة هيكلة. بحيث أن المحايثة القانونية متوفرة، ذلك أن قانون 1989 (15) يمنح الأجراء والأجراء القدامى حق الأولوية في شراء الأسهم واقتناء أسهم بسعر منخفض ويدرك الامتياز توزيع أسهم مجانية، وذلك عند التفويت في أسهم تملكها الدولة في منشآت ذات مساهمات عمومية.
إن هذا القانون يعتبر تفعيلا لأحكام مجلة الشغل قبل تنقيح 1994. بحيث كان الفصل 161 قديم ينص على أن : « تباشر لجنة المؤسسة الاختصاصات الآتية في الميدان الاقتصادي : يقع استشارتها في المسائل التي تهم تنظيم المؤسسة وذلك لتمكينها من المشاركة التدريجية في إدارتها ونموها». وبالإضافة إلى لجنة المؤسسة فإن الفصل 157 قديم قد أسس «لجنة تدرس بطلب من النقابة العمالية التي يهمها الأمر أو من المؤجر، حالة المؤسسات». ويتضح بكل جلاء أن السياسة التشريعية القديمة كانت، في هذا الصدد، تهدف إلى تشريك العمال تدريجيا في أمر المؤسسة إلى أن يمسكوا بزمامها ، وهو الأمر الذي يكرس ترجمة للاقتصاد التعاوني الاجتماعي. إلا أن المشرع عمد إلى رسم سياسة مغايرة تهدف إلى إلغاء دور النقابة ولجنة المؤسسة من خلال تنقيح 1994 وكرس ذات التوجه من خلال قانون 1995 وتنقيحاته والمتعلق بالمؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية. بحيث وبالإضافة إلى تغييب دور النقابة لم يشرك العمال في اقتناء بعض الأسهم عند القيام بالتسوية، بل كرّس المشرع مرونة التشغيل من خلال الفصل السادس من تنقيح 1996 لمجلة الشغل، ورغم ذلك ماإنفك بنك النقد الدولي يوصي بمزيد المرونة .(16)
وبالإضافة فإن فقه القضاء لم يسع إلى إحداث توازن عسى أن يسعف أفواج العمال ضحية طرد، إذ يدرك أحيانا ذروة خلط يفضي إلى حرمانهم من أبسط المستحقات، وهو الخلط بين نظامين قانونيين مستقلين عن بعضهما: نظام الطرد التعسفي ونظام الطرد لأسباب اقتصادية. إذ عمدت الدوائر المجتمعة (17) إلى تناول البحث عن الخطأ من عدمه في حين أن لجنة مراقبة الطرد كانت قد صادقت على الصبغة الاقتصادية للطرد، الأمر الذي يجعل هؤلاء العمال ينتفعون بأحكام الفصل 38 فقرة 7 من تنقيح 2003 للقانون المتعلق بالمؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية والذي يكرّس قرينة الطرد لأسباب اقتصادية التي أرساها قانون 1995. ولا يمكن تناول الخطأ في ظلها دون السقوط في الخلط. بحيث ينص على أنه : «يعتبر إنهاء عقد الشغل المصادق عليه ضمن برنامج الإنقاذ واقعا لأسباب اقتصادية وفنية بقطع النظر عن كل نص قانوني مخالف ...».
لعل من الأسباب التي شجعت المشرع على رسم هذه السياسة المغايرة هي عدم تفعيل النصوص من قبل الحركة النقابية نحو تعزيز اقتصاد تعاوني اجتماعي إلتساقا بتمش مطلبي، وهو الاقتصاد الذي يكرس بهذه الصورة تطبيقا جديدا لمفهوم الدولة الوطنية حيث تتخلى عن مؤسسات اقتصادية لصالح العمال والرأس المال الوطني عند الصمود والتصدي فتتجسد مقولة محمد علي الحامي حول «تكوين رجالا دهاة في التنازع الاقتصادي» (18) ليقع توجيه الدهاء إلى مقاومة العولمة، ذلك أن دهاء من ذكاء وخبث من غباء . فالتخلي لفائدة العمال يجعل الدولة الوطنية مثل طائر الفنيق كلما ساهمت في إرساء اقتصاد تعاوني اجتماعي يحصن المؤسسة الاقتصادية من الهزات ويرسخ الاستقلال الاقتصادي، وبالتالي يضمن استقلال القرار السياسي.
ج- نحو إرساء تنمية وطنية مستقلة
إن مشروع الرواد المؤسسين كان في ظاهره مشروع تعاونيات ونقابات، لكن في العمق هو إستراتيجية تتمثل في إقامة بنيان متكامل يمكن الشعب من المرور من البناء الاجتماعي إلى المقاومة السياسية. فكان خميرة الحركة الوطنية المتواصلة التي لعب فيها الاتحاد العام التونسي للشغل الدور الرئيسي على جميع الأصعدة. والدليل على عمق الإستراتيجية هو ما سجله «لوسيان سان لمحمد علي فضيلة سيذكرها التاريخ حين قال : « إن هذا الرجل يتميز عن الدستور ببرنامجه الصريح: تحرير تونس بالكفاح العنيف». أما مدير الأمن الفرنسي «فلم يسعه إلا تسجيل اعترافات محمد علي الذي وقع استنطاقه يوم 11 جانفي 1925 فأعلن أن عمله هو قبل كل شيء عمل وطني» (19).وقد جمعت الحركة «مشارب سياسية وإيديولوجية متباينة. فمنهم الشوعيون كأحمد بن ميلاد والمختار العياري والطيب دباب ومنهم الدستوريون كالطاهر صفر وأحمد توفيق المدني والطاهر الحداد وأحمد الدرعي ...»(20) . وهي دلالة تنظيمية على العمق الوطني التوحيدي.
وقد تكون الدروب أيسر قصد إقامة تنمية وطنية مستقلة إذا أدركنا كيف نستثمر مرحلة الجزر التي يمر بها الوطن العربي. بحيث «تنطوي كل أزمة وفق الحكمة الصينية على فرص لا تتيح فقط إمكان الخروج منها بل تدفع إلى الانطلاق واللحاق بمن سبقوا . لم تصدق هذه الحكمة قدر ما تصدق الآن نظرا للإمكانات الهائلة التي توفرها تكنولوجيا المعلومات خاصة في مجال الإنتاج العلمي» (21) الذي يجعلنا داخل حركة التاريخ.
فإذا رسم المؤسسون العبر فعلينا وزر الاعتبار المتمثل في إرساء تنمية وطنية مستقلة تمثل الحصن المنيع ضد الرأس المال الأجنبي الذي بلغ ذروته في شكل العولمة التي تتربص بالتفويت في المؤسسات لتنهب خيرات وتبتز قدرات الوطن العربي. فنكون مثل هر العقاد الذي لا يكف عن لعق مبردا متلذذا بالدم الذي يسيل من لسانه حتى الموت. ذلك أن التنمية الوطنية المستقلة تتحصن ضد انخرام توازن بيئي وأخطره مقابر النفايات النووية في بعض البلدان العربية التي تؤدي إلى القضاء على أسباب الحياة، بل على الحياة البشرية ذاتها.
أما على صعيد البنية الفوقية وقصد إرساء تنمية وطنية مستقلة لا بد من نشر ثقافة تهدف أساسا إلى تعميق الوعي في صفوف العمال بالمشاركة في رأس مال المؤسسة والتدرب على فنون تسييرها الصحيح، جماعيا وديمقراطيا. فحماية المؤسسة من حماية الاقتصاد الوطني وهو البعد الآخر للتنمية، ضمن مناخ عام ملائم للغرض. فهذا التمشي يتطلب جهدا جماعيا تتقدمه النقابات لانصهارها بالعمال التحاما بالمثقف العضوي كما وقع يوم 13 أوت 1924 بين محمد على ورفاقه وعمال الرصيف، سيما أن البنية الفوقية يتطلب نضجها ردحا من الزمن فتتظافر جهود الحقوقيين وعلم الاقتصاد والسوسيولوجيا... لتلعب دورا فعالا من ذلك الرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي يجدر بها إعادة ترتيب المنظومة الحقوقية ليصبح من أولوياتها التركيز على الجيل الثاني الذي يتعلق بالحقوق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة الجيل الثالث الذي من بين ما يتضمن حق التنمية المستقلة... كما يعمق ما يسمى بالمجتمع المدني دوره الوطني .
وهكذا فإن الاقتصاد التعاوني الاجتماعي قادر على أن يكون سماد تنمية وطنية مستقلة كما هو الحال في أمريكا الجنوبية، وهي التنمية التي تحقق الفيض الوطني، دحضا للشعار العالمي المتمثل في التنمية المستديمة التي غالبا ما تفضي إلى تنمية أسطورية والتي قد تجر إلى الإدماج في نطاق اقتصاد السوق العالمية هدف العولمة الأعلى لتصبح اقتصاديات البلدان وخاصة المتخلفة لعبة في قبضة الشركات متعددة الجنسيات.
تجاوزا للعبرة لإدراك الاعتبار يمكن تقديم المقترحات التالية:
1- السعي إلى تنقيح تشريعي بداية بمجلة الشغل نحو تشريك العمال في تسيير المؤسسة بالإضافة إلى تفعيل تشريكهم في ملكيتها.
2- السعي إلى الإمساك عن التفويت في المؤسسات الاقتصادية للأجانب.
3- العمل على نشر ثقافة تنمية وطنية مستقلة واستغلال فترة الجزر لتقييم وإعادة بلورة المفاهيم وترتيب الأولويات تصيحا للمسار .
4- تغيير إستراتيجية التفاوض لتدرك الحفاظ على المؤسسة من فساد أو تفويت... .
------------------------------------------------------------------------
المراجع :
1 الهادي التيمومي : انتفاضات الفلاحين في تاريخ تونس المعاصر. بيت الحكمة 1994 رسالة بعث بها القائد محمد قعيد بن سالم إلى وزير القلم محمد العزيز بوعتور بتاريخ 24 جانفي 1867 : « أكلت الناس جميع ما عندها من الحلال والحرام حتى الخيل والأحمرة. وما تجلها وصالة الناس تأكل أمواتها بحيث أن كل من يموت يجرد ويطيب ويؤكل مثل الشاة ...»
2 الطاهر الحداد : العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية مطبعة العرب سنة 1927 ص 35 .
3 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 32.
4 عبد السلام بن حميدة : الحركة النقابية الوطنية لشغيلة بتونس 1924- 1956 دار محمد علي الحامي صفاقس الطبعة الأولى 1984 ص 106 .
5 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 28.
6 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 122.
7 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 123.
8 عبد السلام بن حميدة : نفس المرجع : ص 106 و107.
9 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 38
10 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 36.
11 فرحات حشاد : أحبك يا شعب الجزء الأول دار صوت العمل 1990 ص 120.
12 أحمد بن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان الجزء الرابع ص 270 الدار التونسية للنشر الطبعة الثانية.
13 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 15.
14 فرحات حشاد: نفس المرجع ص 199 و194.
15 الفصل 29 من القانون عدد 9 المؤرخ في 1989/02/01 الذي نقح القانون عدد 47 المؤرخ في 1987/08/02.
16 تقرير البنك الدولي الصادر بتاريخ 20 جانفي 2006
17 القرار التعقيبي المدني عدد 24597 الصادر عن الدوائر المجتمعة بتاريخ 2004/01/15 المتعلق بقضية عمال الشركة الحديثة للمطاط والأحذية بصفاقس.
18 الطاهر الحداد : نفس المرجع ص 42
19 جعفر ماجد : مجلة الفكر 2 نوفمبر 1975 أضواء جديدة محمد علي بعد خمسين سنة من تغريبه.
20 أحمد خالد : نفس المرجع السابق.
21 نبيل علي ونادية حجازي : الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعرفة. عالم المعرفة 2005


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.