تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من النظريّة إلى التطبيق
الشرق الأوسط الجديد:
نشر في الشعب يوم 11 - 11 - 2006

هو تعبير جيوسياسي لا يخلو من مفارقة. فعندما نتحدّث عن شرق أوسط نرمز إلى مجال جغرافي. أمّا صفة الجديد فهي صفة زمانيّة ترمز للمستقبل الذي يعدّ له ابتداء من اللّحظة الحالية. فالمجال يبدو فضفاضا إذ هو يمتدّ من الصحراء الغربيّة إلى الباكستان ويضمّ قوميّات وأعراقا وأديانا وثقافات وطوائف مختلفة.
هو مجال يمتدّ، يتمطّط وفي كلّ حركة يمتصّ ويبتلع الأطراف والحواشي ويحشرها ويذيبها في الكلّ الواحد المتجانس. هو شرق أوسط جديد توحّده التجارة وينشر فيه العم سام بركته فيعمّ الخير. هو شرق أوسط كبير وجديد ديمقراطي وليبرالي متخلّص من الفساد والاستبداد.
أمّا الزمان فهو يختزل في صفة فريدة هي التجديد. المفارقة قد تبدو جليّة حيث نعلم أنّ دعاة الشرق الأوسط الجديد هم من دعوا إلى نبذ المفاهيم والأحكام وادّعوا أنّ عصر الأفكار والفلسفة والمشاريع الكبرى قد ولّى ليحلّ محلّه عصر إدارة الشؤون الاقتصاديّة كما أنّهم أعلنوا منذ عقود نهاية التاريخ.

الشرق الأوسط الكبير أو الجديد هو كيان «مفبرك». يتصوّر أصحاب المشروع أنّه يمكن خلق علاقات بين الناس والشعوب والأمم وبين الإنسان ومحيطه كما نصنع سيارة أو محرّكا. يلاحظ Jean Pierre Dupuy أنّ العقليّة المهيمنة قد حوّلت الإنسان والشعوب إلى مواد خام وقطع غيار يمكن تحويلها حسب الطلب وبمجرّد الإشارة إلى أدوات أو كيانات مصطنعة. فالشرق الأوسط الجديد مثله مثل المشاريع الأخرى يمثّل مرحلة وركيزة من ركائز مشروع أشمل أطلق عليه المفكّر Serge Latouche بمشروع «غربنة العالم». تستند هذه المشاريع لآلة تقنية ضخمة Megamachine وبالخصوص منها الآلة التقنيّة الحربيّة.
نبذة تاريخيّة :
مشروع الشرق الأوسط الجديد كامن ضمنيّا في كلّ المشاريع الاستعماريّة التي حاولت تقسيم التركة العثمانيّة بما يتناسب مع مصالحها. أوّل من طرح هذا المشروع بصفة جليّة وفي صيغته المعاصرة «شمعون بيريز» زعيم حزب العمل وذلك سنة 1993 وقد سبقه له وإن بصفة غير جليّة شارون وذلك سنة 1981. خطّطت الإدارة الأمريكيّة لهذا المشروع منذ 1996 وذلك في وثيقة بعنوان «استراتيجيّة جديدة لتأمين المملكة « (إسرائيل) أعدّتها مجموعة قادها ريشارل بيرل. تنصّ هذه الوثيقة على إلغاء كلّ الاتّفاقيّات الموقّعة والقضاء على المقاومة الفلسطينيّة وتلجيمها والإطاحة بالدولة العراقيّة واستعمال إسرائيل كأداة محوريّة في هذا البرنامج.
يعتبر ريشارل بيرل المعروف بعدائه المقيت للحضارة العربيّة الإسلاميّة أنّ هذه الأخيرة متحجّرة ومتخلّفة ولا تنفعها إلاّ القوّة والتدمير وقد عبّر عن هذه الأفكار في اجتماع المجلس الاستشاري لسياسة الدّفاع الأمريكيّة في جويلية 2002. البداية كانت بوضع شراكة خاصّة ومميّزة مع بلدان الشرق الأوسط ودعم معاهدة التعاون الأورو-متوسطي بصفتها مرحلة تساعد على دمج جزء من الشرق الأوسط الجديد لتحقيق المشروع الأوسع. انطلقت المنتديات واللّقاءات والمؤتمرات في مختلف البلدان العربيّة وفي تركيا واستغلّ المحافظون الجدد هذه الأطر لتبليغ آرائهم والتأثير في السياسات الداخليّة لمختلف البلدان والإفصاح عن أهدافهم وأدواتهم بل ولتقديم دروس حول الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان.
المحتوى والأدوات
هو مشروع مستورد ومسقط على الدّول والشعوب. فهو يشمل مجالات حضاريّة متباينة. كلّنا يعلم حقّ العلم أنّ العديد من بلدان الشرق الأوسط الكبير المراد صياغته هي خليط من القوميّات والأعراق والأديان وقد تأسّس بعضها على قاعدة العنف والاضطهاد القومي والعرقي. فرسم حدود الدّول بعد انسحاب القوى الاستعماريّة خضع لعديد العوامل كما أنّ الاستعمار قد عمد إلى ضبط هذه الحدود وهو عالم بمدى ثقل التركة على الدّول الناشئة. تراهن الإمبراطورية على تمزيق هذه الكيانات والبلدان وتقسيمها إلى مناطق نفوذ محلّية وعلى أساس عرقي وطائفي في نفس الوقت الذي تضمّها فيه إلى نواة هذا المشروع أي إسرائيل بوصفها الحليف الرّئيسي للإمبراطورية وأداتها في تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير.
ففي الشرق الأوسط الجديد الموعود لن يكون العراق عراقا ولا لبنان لبنانا ولا السعودية سعودية ولا السودان سودانا. سيقع تفجير الكيانات الحاضرة ثمّ ربطها بعضها بعضا من خلال تعميم السوق والتجارة. إلغاء الروابط التاريخيّة والثقافيّة يقابله فرض منطق استهلاكي وتعميمه.
مشروع الشرق الأوسط الكبير لا يهدّد الشعوب فقط بل الدّول أيضا بما فيها تلك المتحالفة مع الإمبراطورية. يقع ربط هذا الكيان المصطنع بمعاهدات تجاريّة وعسكريّة وأمنيّة فتُعرّض خيراته إلى النهب والخصخصة والقرصنة ويفقد كلّ قدرة على البروز ككيان مستقلّ.
أوّل ما يدعو له المشروع هو ضمان الأمن بالمنطقة وتجنّب الحروب والمصادمات والاعتراف المتبادل بين الدّول وفتح الحدود أمام تدفّق السلع التجاريّة والتعاون من أجل مقاومة الإرهاب وصولا إلى إرسال الجيوش لمناطق من هذا الشرق الأوسط الجديد للقضاء على كلّ أشكال المقاومة. من المعلوم أنّ منطقة الشرق الأوسط الجديد غنيّة بالنفط والموارد الزراعيّة والمواد الأوّلية لذلك وجب ضمان حدّ أقصى من الاستقرار والأمن حتّى تتمكّن القوى العظمى من نهب هذه الخيرات فتتحوّل بذلك القوى المحلّية إلى مجرّد حارس لمصالحها.
يندرج مشروع الشرق الأوسط الجديد ضمن استراتيجيّة أشمل عنوانها عولمة التجارة وهي تجارة قالوا عنها أنّها حرّة وهي في الواقع إجباريّة تتحكّم فيها قوانين المنظّمة العالميّة للتجارة. يطالب المشروع دول المنطقة بتأهيل اقتصادياتها وتوجيهها بما يستجيب مع حاجيات السوق الدوليّة. فعلى سبيل المثال تُطالب هذه البلدان بالتخلّي عن الزراعات المعاشيّة وبعض الزراعات المعدّة للاستهلاك الدّاخلي لصالح زراعات موجّهة للتصدير فيقع استئصال غابات والقضاء على مساحات شاسعة من الزراعات تلبية لحاجيات السوق بل يطالب المشروع أيضا بتحرير تجارة الأراضي الزراعيّة فيمكن لمؤسّسة دوليّة أو دولة أجنبيّة أن تملك أراضي زراعيّة وتتحكّم في الإنتاج بما يتماشى مع مصالحها الخاصّة ودون اعتبار للمصالح الوطنيّة والقضايا البيئيّة. تحرير الصناعة والتجارة يعني بصريح العبارة أن تصبح خيرات المنطقة حكرا على بعض الشركات العالميّة. حالة العراق شاهدة على ذلك حيث وقعت خصخصة الثروة النفطيّة ورهن البلاد لمدى عقود من الزمن.
يدعو هذا المشروع أيضا إلى إصلاحات في مناهج التعليم وإلغاء كلّ ما يمتّ إلى مصطلحات من نوع العروبة والمقاومة والوحدة والنهضة وإلى خصخصة التعليم وتدويله وإلغاء بعض البرامج أو التحديد منها كالفلسفة والتاريخ والجغرافيا وتوفير مادّة تعليميّة تحضّ على الخنوع والقبول بواقع الهيمنة تحت غطاء التسامح والتآخي.
يدعو هذا المشروع أيضا إلى تحرير وسائل الإعلام. في الحقيقة لا يعدو ذلك أن يكون مجرّد وسيلة للضغط على السلطة القائمة بما فيها المتحالفة مع الإمبراطورية كي تتخلّى عن جزء هام من مصالحها لصالح قوى الهيمنة والحدّ من دورها السياسي. ثمّ إنّ تحرير الإعلام المزعوم يتناقض مع واقع المضايقات التي يتعرّض لها رجال الإعلام بفعل ما يسمّى ب»الباتريوت أكت» (Patriot act) الذي يعتبر كلّ موقف معادي للهيمنة الأمريكيّة رديفا لمساندة الإرهاب. أخيرا يدعو مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى تحرير المرأة وإدماجها في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة كما يدعو إلى التخلّي عن القوانين المهينة بالمرأة. لكن إذا علمنا أنّ «النظام الديمقراطي» الأفغاني قد كرّس السلطة الأبويّة ولم يعمل على تحرير المرأة كما يدّعي فإنّنا نفهم أنّ ذلك لا يعدو أن يكون مجرّد دعاية، ثمّ إنّ ما يعنيه المشروع من تحرير المرأة هو ترويج مثال المرأة الأمريكيّة المستهلكة.
بخلاصة إنّه مشروع «نشر الديمقراطيّة» وتحرير التجارة وفتح الحدود وضمان إمداد الدول العظمى بموارد الطاقة والمواد الأوّليّة وعرض خيرات البلاد لمختلف مظاهر القرصنة بما في ذلك سرقة التاريخ والآثار والمعالم التاريخيّة وإحراق الوثائق والرّسوم ومحو الذاكرة. هو يعتمد العصا والجزر. فمن ناحية يستميل أصحابه قوى معارضة ويشجّعها ويعدها بمراكز هامّة في السلطة ويعقد المؤتمرات والندوات لكنّه يستعين بالعصا وصولا إلى الغزو والاحتلال.
فإذا علمنا أنّ «ولادة الشرق الأوسط الجديد» (أو الكبير) عسيرة على حدّ تعبير رايس فإنّ إمكانيّة اللّجوء إلى قيصريّة أمر ممكن وجائز خصوصا إذا علمنا أنّ هناك قانونا أمريكيّا في طب الولادة يقول : «قيصريّة أولى تستدعي قيصريّة ثانية» (وثالثة ورابعة). فبعد العراق لم يعد هناك من مانع للقيام بقيصريّة ثانية وما العدوان على لبنان سوى مظهرا لهذا التمشّي الذي انتهجته الإمبراطوريّة.
البعد الأيديولوجي لمشروع الشرق الأوسط الكبير :
من الغريب أنّ أصحاب المشروع قد تنبؤا بموت الأيديولوجيا وانتصار النيوليبراليّة. لكن هاهم يضعون الأسس الفكريّة لمشروعهم العظيم. ينطلق أصحاب هذا المشروع من رؤية تحقّر من قدرة شعوب المنطقة و تكرس عجزها عن تجاوز أوضاعها السياسيّة والاجتماعيّة المتردّية وضرورة تكفّل سلطة أبويّة بتحقيق هذا المشروع. لقد وافقهم في ذلك عديد المفكّرين العرب الذين اعتبروا احتلال العراق فرصة لا تعوّض للّحاق بالغرب (علي حرب) أو هؤلاء الذين اعتبروا أنّ نهضة العرب رهينة بحرب شعواء تشنّها الولايات المتّحدة ضدّ كلّ البلدان العربيّة (هشام جعيّط) . زعماء الكنيسة الأنجليكانيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وهم من دعموا المحافظين الجدد يعتبرون أنّ الحروب المدمّرة التي يعيشها عالمنا هي «إعلان لنهاية العالم تنبّأ بها الكتاب المقدّس... إنّها عودة أورشاليم ليحقّق السلام في العالم». إذن لا مجال للمحاسبة وتحميل المسؤوليّة للقتلة والمجرمين مادام كلّ ما يحدث هو قدر إلهي وتنفيذ لقرار ربّاني. فنحن أمام تبشيريّة من نوع جديد.
التبشريّة اتّخذت مظاهر عديدة فمن الدّعوة إلى صراع الحضارات والأديان إلى إعلان نهاية الفلسفة والتاريخ إلى التبشير بمجتمع الرخاء : مجتمع ما بعد الصناعة وما بعد التاريخ أو المجتمع التكنوتروني أو مجتمع الأنامل، أو مجتمع المعلومات... بخلاصة مجتمع كلّ شيء إلاّ الإنسان.
من وعود المستقبل إلى الحقائق :
عندما كتب «توفلر» كتابه المعروف بوعود المستقبل الذي ترجم إلى عديد اللّغات بما فيها اللّغة العربيّة وافتتن بها البعض أيّما افتتان كانت قوى العولمة قد شرعت في إعداد مخطّطاتها تطبيقا لهذه الوعود التي لم تكن سوى تعبيرا عن رغبة ملحّة لدى أصحاب القرار والمال. لكن هذا الكتاب لم يتصوّر مدى الخراب والدمار الذي قد يحلّ بالعالم من جرّاء المحاولات المتواصلة لفرض مشاريع الهيمنة. فهذا غزو العراق وهذه الجرائم التي تقترف في حقّ الشعبين الفلسطيني واللبناني تؤكّد لنا أنّ هذا المشروع لا يعدو أن يكون وبالا على كلّ شعوب المنطقة.
علامات المجتمع الجديد الذي يرسمه أصحاب المشروع هي الدّمار والقتل المادّي والمعنوي والمحق الثقافي واللّغوي والتهجير ومحو الذاكرة والقضاء على التراب والحجر والماء والهواء.
فأطفال الشرق الأوسط الجديد يتامى، مشرّدون، يفيقون على أصوات المدافع والقنابل الذكيّة ونساء الشرق الأوسط الجديد أرامل، ثكالى، أيالى ورجالهم محكومون بالخنوع والرّضوخ.
مزارع الشرق الأوسط الكبير خراب. فهذا العراق يعيش أكبر كارثة زراعيّة حيث تجتثّ مزارع البرتقال واللّيمون والنخيل وتصاب الواحات بأمراض ناتجة عن رشّها بمواد كيميائيّة شبيهة بتلك التي استعملت في حرب الفيتنام.
أدوات الشرق الأوسط الجديد هي الدبّابات والطائرات والقنابل الذكيّة والجرّافات والمواد المبيدة والإشعاعات النوويّة والأسلحة الجرثوميّة. في الوقت الذي كانت فيه وزيرة الخارجيّة الأمريكيّة تعلن في إسرائيل عن «المخاض العسير للشرق الأوسط الجديد» كانت الطائرات الإسرائيلية تهدم البيوت على رؤوس أصحابها. قالت سننتصر! على من؟ على الإنسان والحيوان والأشجار والهواء والتاريخ والجغرافيا. فطائرات الشرق الأوسط الجديد تطال الزرع والضرع والماء والهواء والتراب والحجر، لا يهمّ إن كنت من حزب الله أو من حزب البشر، المهمّ أن تستبطن الخوف وتعترف بمنطق القوّى وتتخلّى عن أوهام الحرّية والنهضة والوحدة، المهمّ أن تمحو من ذاكرتك عروبتك وتاريخك ولا تؤمن إلاّ ببركة الأخ الأكبر.
مستقبل مشروع الشرق الأوسط الجديد
لن نصدر أحكاما جزريّة وقاطعة. فنحن نعلم أنّ التاريخ لا يخضع للأحكام المسبقة والقوانين الجاهزة.
لقد أقرّت السيّدة كوندوليزا رايس بأنّنا نعيش «مخاضا عسيرا لمشروع الشرق الأوسط الجديد» إذن هي تقرّ بعسر الولادة. نضيف إلى ما قالته رايس أنّ هناك إمكانيّة لموت الجنين في بطن أمّه علما بأنّه غريب وقد وقح زرعه في رحم أمّه عنوة وبدون رضاها (Fécondation in vitro) وهو مجهول الأبوين.
فهذا المولود الموعود ليس نتاجا لعلاقة حب ومعاشرة بل إنّ محاولة غرسه في جسم المنطقة يذكّرنا بغرس الجينات في نواتات الخلايا للحصول على كائنات محوّرة جينيّا قد تتسبّب في كوارث بيئيّة و»مغامرات غير محسوبة العواقب».
قد تعجز أنامل «القابلة المحنّكة» على حدّ تعبير أحد المفكّرين الفرنسيّين عن ضمان ولادة سليمة وقد ينشأ المولود معاقا وقد تموت الأم أثناء الولادة.
كلّ شيء جائز، لكن هناك علامات تشير إلى صعوبات كبيرة تعيق تحقيق هذا المشروع التاريخي الضخم. فهذه قوى التحالف تتخبّط في العراق الجريح وهذه جيوش بعضها تنسحب وهذا الشعب الفلسطيني صامد غير عابئ بظروف الحصار والقتل الوحشي الذي يمارس ضدّه كلّ يوم وهذه بعض الرموز السياسيّة للتحالف تسقط وهذه قوى إقليميّة جديدة تبرز على السطح وتطالب بالاعتراف بها. أمّا المحافظون الجدد فهم يعانون من تدهور شعبيّتهم ويتعرّضون للنقد اللاّذع. من ناحية أخرى تعرف بعض مناطق العالم انتفاضة ضدّ الهيمنة الأمريكيّة (فينزولا) وآخرها قرار حكومة التشاد التخلّي عن شركات تنقيب النفط الأمريكيّة. أخيرا وليس آخرا مثّلت هزيمة الإمبراطوريّة في لبنان نقطة تحوّل هامّة في اتّجاه إجهاض مشروع الشرق الأوسط الجديد بل إنّ الدمار الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي والذي كان الهدف منه بعث التفرقة الدينيّة والطائفيّة والعرقيّة داخل الشعب الواحد قد باءت بالفشل وتدعّمت لحمة الشعب اللّبناني باختلاف طوائفه وأديانه وقدّم لشعوب الشرق الأوسط الجديد مثالا رائعا للصبر والمقاومة.
على كلّ قوى السلم والحرّية في العالم أن تعمل على إجهاض هذا المشروع وأن تبرز مخاطره على شعوب المنطقة وعلى الإنسانيّة جمعاء. فنحن إزاء مشروع رهيب لا يتوانى أصحابه عن استعمال كلّ وسائل القتل والدّمار لتحقيق مآربهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.