رحل منذ ثلاثة أسابيع تقريبا المفكر والأديب والناشر العربي الكبير الدكتور سهيل ادريس صاحب دار «الآداب» للنشر وباعث احدى أرقى وأهم الدوريات الادبية والفكرية والسياسية مجلة «الآداب» تلك التي أدّت وصاحبها دورا عظيما في الساحة الثقافية العربية وحملت هموم الانسان ومعاناة المثقف العربيين على امتداد ما يقارب الستة عقود وناصرت وقتها الثورة الجزائرية وحملت حلم الانسان العربي للانعتاق والتحرر وناصرت القضية الفلسطينية منذ السنوات الاولى للنكبة. وشجع سهيل ادريس الاقلام العربية الشابة ونشر لعديد المبدعين العرب من كل اقطار العالم العربي، فهو من الاوائل الذي عرفنا بالشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، ونشر له العديد من القصائد مثل «أنشودة المطر» و «قافلة الضياع» وغيرهما... وأول من عرفنا بالروائي عبد الرحمان منيف مبكرا، وبالعديد من الاديبات العربيات تحدى بهن جمود المجتمع العربي وراهن عليهن ونجح في رهانه. رحل المفكر العربي ولبنانه ولبناننا يعيش احدى محن تاريخه المعاصر. صادف ان التقيت الاديب والمفكر الكبير في احدى دورات مهرجان قابس الدولي الذي أشعّ وطنيا وعربيا ودوليا وكم هو من المؤسف انه فقد الكثير من بريقه (في زمن العولمة والمادة). التقيته سنة 1983، وبعد المحاضرات والنقاشات جمعتنا في بهو النزل، نحن مجموعة من الاساتذة بالدكتور سهيل ادريس جلسة حميمية وتحدثنا طويلا في مواضيع شتى وعن مجلة الآداب ودورها الطلائعي وحدثنا هو بكل لطف وتواضع عن جهاده من اجل ان تحافظ الآداب على دوريتها وعن الصعوبات التي اصبحت تلقاها هي وغيرها من الدوريات الجادة بسبب عزوف الشباب العربي عن المطالعة وربما لهموم اخرى وتمسك باصراره في تفاؤل كبير على مواصلة رسالته رغم التحديات. وفي تلك الجلسة قدمت له بانفراد مجموعة من مجلة الآداب من اعدادها الاولى لسنواتها الاولى فلاحت علامات الانشراح على وجهه وفهمت منه كأنه يريد ان يسألني كيف وصلتني فقلت له انها من الكتب والمجلات والدوريات المتعددة والمنتوعة كال «أديب» و «الآداب» و «الرسالة» وغيرها تركها مغترب باريس الذي جمع حقائبه ذات جويلية 1959، ليهاجر الى باريس. انه شقيقي المثقف محمد الصالح الحمروني، فقد قال لي وقد لاح السرور على وجهه إني أعرفه جيدا وكثيرا ما لقيته بباريس لنتحدث في همومنا المشتركة واسرّ لي انه قد يكون لا يملك شخصيا بعض هذه الاعداد وبمداعبته اللطيفة قال لي انك محظوظ فرجوته ان يأخذ منها ما يريد وبإلحاح منه رفض ذلك وقال لي: «لا أريد ان أحرمك من هذه الثروة التي قلّ اليوم من يهمه امرها واخذ احد الاعداد وخط عليه تحية لطيفة بخط يده وهو العدد السابع للسنة الرابعة عدد شهر تموز 1956. ها قد رحل الدكتور سهيل ادريس ورحل مغترب باريس قبل عشر سنوات بالضبط يوم 4 مارس 1998، رحلا وهما يحملان الهموم نفسها التي عاناها المثقف العربي ومازال والتي ضاعفتها العولمة بتحدياتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومن غريب المصادفات ان كان العدد الذي اختاره عددا تصدرته قصة بقلمه عنوانها «القلق». رحل المبدع الكبير سهيل ادريس والقلق يكاد يكون هو نفسه في هذا الزمن العربي الرديء الذي تواصلت فيه التحديات الاستعمارية والعدو الذي زرعه الاستعمار جنوب لبنان مازال قائما يتوسع ويعربد كما يحلو له والمواطن العربي مازال يحلم بحقه في المواطنة الحقة ويتنفس هواء نقيّا في زمن اصبح يعيش فيه الموظف المعاناة والحاجة، زمن تراجعت فيه القيم وتعطلت فيه الحداثة بنسق سريع ومرعب... ورغم مرور اكثر من نصف قرن على صدور هذه القصة مازالت كأنها كتبها صاحبها أمس. عزاؤنا في رحيل مبدعنا ومفكرنا الكبير «الآداب» مجلة ودار نشر واحدى اشهر رواياتنا في الادب العربي المعاصر رواية «الحي اللاتيني» التي قلت فيها ذات مرة في رثاء شقيقي مغترب باريس: «اذكر انك أول من عرفني بمجلتي الاديب والآداب اللبنانيتين وبرواية «الحي اللاتيني» وكأنك كنت متيقنا من ان هذا الحي سيحتضن غربتك انت الآخر» (انظر حقائق عدد 642 مارس 1998) غزاؤنا ثانية في فقيدنا الكبير الدكتور سهيل ادريس ما تركه لنا قلبه الكبير وقلمه الغزير وفكره النير ونضاله الطويل. وأملنا في ان تواصل «الآداب» على يد ابن الراحل على النهج نفسه الذي رسمه لها فقيد الثقافة العربية. الاستاذ المتقاعد من المهنة والنقابي دوما: يوسف الحمروني