تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«والدي حاول أن يجعل مني مؤذنا ورجل دين!»
حديث مع الاديب الراحل الدكتور سهيل إدريس ينشر لاول مرة (2 2):
نشر في الصباح يوم 13 - 03 - 2008


قوميتي تحول دون أن اكون طائفيا
ننشر اليوم الجزء الثاني والأخير من هذا الحديث المطوّل مع الأديب والرّوائي الرّاحل سُهيل إدريس الذي طبع مرحلة هامّة من تاريخ الحركة الأدبية العربية المعاصرة بإبداعاته الأدبية وبجهوده في مجال النشر والتعريف بالأقلام الجديدة والشابة في مختلف أصناف الكتابة.
علما بأنّ هذا الحديث يعود تاريخه إلى سنة 1993 وقد أجراه الشاعر الشاذلي زوكار مع الرّاحل غداة زيارته إلى بلادنا.
* د. سهيل إدريس، بالنسبة لجائزة نوبل، أسندت للقصاص المصري المعروف نجيب محفوظ، وهذا شرف للأدب العربي لا شك، فلو سئلت من ترشح بعد ذلك لجائزة نوبل من العرب، فمن يكون هذا المرشح مثلا؟!

- لا أريد أن أعطي لظاهرة جائزة نوبل أهمية أكثر مما تتحمّلها هذه الجائزة، فنحن نعرف أنّ وراءها جهودا كثيرة قد لا تكون مرتبطة بالفن وحده ومن أجل الفن وحده، فهناك تأثيرات كثيرة صهيونية وغير صهيونية هي التي أخرت حتى الآن منح هذه الجائزة لكاتب عربي، أقول من حرصي أن لا نبالغ في أهميتها بسبب هذه الظروف والشروط. أذكر أنّي رشحت الروائي السوري المعروف حنامينا وقد سبقت الدكتور طه حسين الذي رشح فيما بعد نفس هذا الكاتب.
ولا شكّ أنّ هناك كتابا وشعراء آخرين يستحقون هذه الجائزة وقد برز في السنوات الأخيرة شاعر كبير رشح لها أكثر من مرة وزوحم عليها وهو الشاعر (أدنيس) فهو أيضا من الذين يستحقّونها... هو ومحمود المسعدي ومحمود درويش وآخرون من الذين لا يقلّون إبداعا في إنتاجهم عن أي كاتب أجنبي آخر.
* على ذكر الشعر، نلاحظ بأن ألوانا جديدة من الشعر الحديث، ظهرت في الساحة الثقافية سواء في الشكل أو المضمون، وأحيانا يدخلنا هذا النوع في عالم ضبابي من المتاهات.
ولقد حضرنا معا أمسية شعرية استمعنا فيها للشاعر المغربي محمد بنيس وأنا شخصيا لم أفهم شيئا مما كان يقوله من الشعر. فما هو رأيك في هذه القضية التي تتخذ أشكالا متعددة كبعض الألوان للتعبير الحديث على أساس أنها من باب الحداثة؟
- صحيح ما ذكرت من أنه كان من الصعب أن يفهم ما قاله الشاعر محمد بنيس في تلك الأمسية الشعرية. وهذا في رأيي يعود إلى شيء أساسي.
محمد بنيس شاعر دون ريب. وما قرأه هو من شعر التفعيلة، أي ليس مما يسمى اليوم (قصيدة النثر) ونحن من الذين يؤيدون ويباركون شعر التفعيلة وقد أفسحنا لها المجال منذ الاعداد الأولى من مجلة «الأداب» وأنا أعتقد أنها هي التطور الطبيعي للشعر العربي بعد العهد الأندلسي.
ولكن مشكلة هذا الشعر الجديد أنه ليس كالشعر العمودي للاستماع وإنما هو للقراءة. الشعر العمودي تسمعه ويأخذك بعموديته وبوزنه وإيقاعه وقوافيه فتتحمس له وتدركه بأسهل مما تدرك الشعر العربي الحديث شعر التفعيلة.
هذا من ناحية الشكل، وحتى من ناحية الاستماع والإقبال عليه باعتباره جديدا أيضا في الفكر فلا بد أن يقرأ أكثر من مرة ليفهم.
* هل لأنه مغرق في الرمزية؟
- الرمز صفة لا تنحصر فقط في شعر التفعيلة ويمكن أن تقال أيضا على كل أنواع الشعر، على أنّني أؤيّد تماما القول بأن كثيرا من الذين يدّعون أنهم شعراء أصبحوا يستسهلون الشعر، ويكتبون أي كلام ويقولون إنه شعر، وأكثر ما يتجنون به على الشعر هو أنهم يفتكون فيه الموسيقى، ويفتكون فيه الإيقاع، فلا أفهم أبدا أن ينتزع من مقومات الشعر العربي هذا المقوم الأساسي، مقوم الموسيقى تحت أي حجة، وربّما يحدثك بعض هؤلاء عن أن لقصيدة النثر موسيقاها الخاصة، أي ما يدعونه الموسيقى الداخلية... أو الإيقاع الداخلي، وأعتقد أن هذه فكاهة أكثر مما هي حقيقة أو حجة، على أنّنا لا ننفي أنه قد يكون في بعض هذا الانتاج الحديث مما يطلق عليه قصيدة نثر شيء من القيمة الجمالية، ولكن اعتراضنا هو على تسميته (شعر) ونحن نفضل أن يبقى تحت التسمية العامة (نصوص فنية جميلة) لأن النص يمكن أن يكون جميلا جدا دون أن يكون (شعرا). وربما تكون فيه شاعرية ولكن ليس من الضروري أن يكون شعرا، لأن هناك فرقا بين الشعرية والشعر، فاليوم توجد روايات كثيرة حديثة تتميز بالشعرية، فهل يمكن أن نقول أن هذه الرواية شعر، ينبغي أن تبقي هذه الحدود أو الشروط قائمة لكي لا يصبح هناك خلط في المفاهيم وفي التعريفات.
نحن في مجلة «الآداب» ننشر بعض هذه النصوص ونرحب بها ولكننا نرفض أن نسميها (شعرا) لأنّ الشعر شعر، والنثر نثر، ولا يمكن للشعر أن يكون نثرا ولا للنثر أن يكون شعرا.
* إذن - يا دكتور سهيل إدريس - ما هو تعريفك للشعر؟
- أنا لا أجد أي مانع في أن أتبنّى التعريف القديم للشعر مع شيء من الفويرقات إذا صح التعبير، يتميز به شعرنا الحديث.
الشعر هو الانتاج الموزون أي الذي فيه وزن يعطينا ويوفر لنا هذا الإيقاع وهذه الموسيقى ولكنني لست من الذين يتشبّثون (بالمقفى)... أي (الشعر الموزون المقفى) لأن القوافي الان تتنوع وربما يكون في قصيدة واحدة عدة قوافي، وهذا من تطوير الشعر الذي لا يضر لا في كينونته ولا في تطوره، لأنّ القافية في الحقيقة ليست دائما عنصرا إيجابيا في القصيدة العمودية. كأن تنشد قصيدة من أربعين بيتا تكون قافيتها موحدة... ان هذا في الحقيقة يولد الملل والضجر، وربما يكون فيه نوع من «الطبوليّة» إذا صحّ التعبير، أي «الطبولية» الجوفاء التي تأخذنا برتابتها وتحمل مع هذه الرتابة عناصر الضجر والاملال.
* لقد شاركتم في معارض كثيرة للكتاب في العالم العربي وأسهمتم إسهاما مشرفا وبارزا في هذا المجال، في مجال التعريف بالكتاب بكل أنواعه سواء كان شعرا أو قصة أو رواية أو بحثا وغير ذلك.
ما هو وضع الشعر الآن من الرواية، فهل تعتقد بأن الشعر مازال رائجا كما كان في الزمان القديم باعتباره (ديوان العرب) أم أن الشعر قد تزحزح عن موقعه في الساحة لتصبح (الرواية هي ديوان العرب) كما يقول البعض؟
- يجب أن نعترف بأن الشعر على صعيد الإقبال هو الآن إلى انحسار، يعني أن الشعراء الذين يبقون في نطاق التجاوب مع الجمهور العربي أصبحوا قليلين، وبما كانت دور النشر تعاني معاناة شديدة من نشر الشعر ولذلك لا أجد أكثر من دار أو دارين تهتم بنشر الشعر وعلى نطاق ضيق أيضا.
نحن مثلا نصدر كل عام في دار «الآداب» ثلاثة دواوين أو أربعة من الشعر، للشعراء المحدثين الشباب لا يزيد إصدار الواحد منها عن ألفي نسخة، تبقى مع ذلك خمس سنوات أو سبع سنوات قبل أن تنفذ كليا. وهذا يدل على أزمة القراءة الشعرية على أقل تقدير، ولا يستثنى من ذلك تقريبا الا شاعر أو شاعران أو ثلاثة من الذين لم يخف الإقبال عليهم بل لعله يزداد وعلى رأس هؤلاء: الشاعر العربي المعروف نزار قباني، ويليه أدونيس ومحمود درويش على أن الفارق بين قباني والآخرين فارق كبير من حيث النشر والتوزيع.
فماذا تدل هذه الظاهرة؟ الذي نعرفه أيضا ان الشعر في العالم كله يعاني من هذه الأزمة، ربما كان نتيجة هذه القضية أو سببها ما يعلن ويقال اليوم من أن (الرواية) حلت محل (الشعر) وإذا كنا في السابق نقول (الشعر ديوان العرب) فإن بعض النّقاد اليوم وبعض الروائيين ومنهم حنامينا نفسه، يقولون (الرواية ديوان العرب) على أساس أنّ الرواية تستطيع أن تستوعب من الشاعرية ما يغني عن قول الشعر حتى أن بعض كبار الشعراء في العالم تحولوا من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية كما كان تحول (سارتر) مثلا من كتابة الفلسفة الى كتابة (الرواية) لأنه استطاع أن يضمن روايته كل فلسفته.
فهل هذه الأزمة تعني أن الشعر قد مات؟ لا أعتقد ذلك.. لن يموت الشعر.. ما دام في الحياة حب وعواطف إنسانية وإشراق شمس جميل وإضاءة قمر... وجميع هذه الأشياء التي كنا نسميها «رومانسية» وهي تعود الآن لأن الواقعية تتخبط في دماء كثيرة لم ينقذها من ذلك الا العودة الى الينابيع.. والشعر هو من «الينابيع».
* د.سهيل هل تستطيب ترديد أغنية ما؟ وهل هذه الأغنية تربط بقصة حب؟ وهل ضمت إحدى قصصك أو رواياتك قصة حب ما؟
- بالنسبة للغناء... أنا أتمتع في أوقاتي الخاصة في الحمّام وخارج الحمام ببعض أغاني محمد عبد الوهاب القديمة وأم كلثوم، ورياض السنباطي وطبعا فيروز.
وربما كان لي صوت ظن والدي أنه جدير بأن يوظفه في إقامة الأذان لأنني أنتمي إلى عائلة دينية - وظن والدي يكفي أن يكون صوتي مقبولا حتى يدرجني في المشيخة أو في الزي الديني، وهو ما تحدثت عنه في روايتي «الخندق العميق» ولكني أعترف هنا ولا بأس ما دمنا دخلنا في بعض المناطق الحميمية من الحياة إنني وظفت أيضا هذا الصوت في استمالة فتاة أحببتها، وكان لديها نوع من التحفّظ تجاهي، فحين غنيت لها رفعت يديها واستسلمت لهذا الحب الذي كنت أظن أنني أبادلها.
وأظن أنّ هذه الأغنية كانت «الجندول» لمحمد عبد الوهاب وبعد أن غنيتها لاحظت تغيرا في مواقفها، وما دمنا أيضا في موضوع هذا الحب، سبق لي أن رويت قصة حدثت لي وهي متعلقة برواية «الحي اللاتيني» فهذه الرواية حين صدرت كما تعرف أثارت ضجّة في الوسط الأدبي ومناقشات مطولة وبثّت في نفسي نوعا من الغرور كنت أعتقد أنّني قذفت إلى الخلود بسبب هذه الرواية.
وذات يوم كنت في إحدى الجلسات الأدبية فتعرفت على فتاة قالت: إنّها قرأت «الحي اللاتيني»، فسألتها بنوع من الكبرياء، فسألتها بنوع من لامبالاة: وهل أعجبتك الرواية؟ قلبت شفتيها قائلة: لا... لم تعجبني؟
استغربت طبعا هذا الموقف.. واستخففت بهذه الفتاة التي تريد أو لا تعترف بالشهادات التي كتبها النقاد والكتاب وأرادت أن تعارض الرّأي العام الأدبي إذا صحّ التعبير. فقُلت لها: أخشى إنك لم تقرئي الرواية قراءة متمعنة، ومعمّقة، فأنصحك أن تعيدي قراءتها.
قالت: أنت أستاذ وسآخذ بنصيحتك.
وبعد فترة التقيت بها ثانية، فقالت لي: قرأت الكتاب مرة ثانية، قلت لها: أرجو أن تكوني قد غيرت رأيك. قالت: نعم... غيّرته... ولكن إلى أسوإ. لأنّني هذه المرة درست الرّواية دراسة ناقدة، فوجدت إنّك تشوه فيها الفتاة الشرقية وتمتدح الفتاة الغربية، وأخذت تتكلم ويرتفع صوتها فتجمّع حولنا بعض الحاضرين يتساءلون من هذه الفتاة، (الوقحة) إذا صح التعبير، التي تتصدّى للدكتور سهيل إدريس صاحب (الحي اللاتيني) وبقيت تتكلم بهذا الحماس من الانتقاد، ممّا جعلني أتساءل: كيف السبيل إلى إسكات هذه الفتاة أمام كلّ هؤلاء الناس؟ فأجبت نفسي: إنّ أفضل طريقة لإسكات هذه الفتاة هي أن أتزوجها.
وهذا هو الذي حصل، وتزوجت «عائدة مطرجي» ولكنها لم تسكت بل أنا الذي سكت فيما بعد.
* في الكتاب الذي ألفه الكاتب الناقد (جورج أزوط) وعنوانه (سهيل إدريس - في قصصه ومواقفه) وهو عبارة عن دراسة نقدية تناولت قصصك ورواياتك ومواقفك الأدبية، يتّهمك هذا الناقد بالطائفية في قصصك خاصة (رحماك يا دمشق) المستوحاة من أحداث انفصال سوريا عن مصر ضد الوحدة وكذلك في الحي اللاتيني، لأنك قد صورت الفئة المسيحية بعيدة عن العمل القومي الثوري، (كنصري وجوج وانطوان) بينما صورت الآخرين (كربيع وعدنان وأحمد) يبحثون في قضايا التحرر والثورة العربية؟
فما هو ردك على هذه التهمة. ولو أنني لا أعتقد ذلك؟ لكن هذا موجود كنص في الكتاب نفسه؟
- نص في الكتاب الذي نشرته أنا شخصيا، وأردت أن أبقيه على ما هو عليه، ولكنني ناقشت المؤلف - رحمه الله - في هذا وأنكرت أن تكون التسميات التي أطلقتها على بعض هؤلاء الأبطال، ذات مغزى سياسي أو طائفي، لأني أعرف أن كثيرين من الذين تحدثت عنهم في رواياتي، وعلي سبيل المثال (فؤاد) في رواية (الحي اللاتيني) كان صديقا كبيرا لي، كان مسيحيا ولكنه كان من معتنقي الفكر القومي الى أبعد الحدود وكان له تأثير حتى على بطل الرواية آنذاك، فأعتقد أن في هذه التهمة شيئا من التجني، وأنا لم أعرف في سلوكي العام ولا سيما على الصعيد القومي، بأنني طائفي بل أن قوميتي تحول دون أن أكون طائفيا.
* د.سهيل، قد يبدأ الإنسان في حياته شاعرا وخاصة إذا عاش قصة حب، فهل بدأت شاعرا قبل أن تكون قصاصا وروائيا؟ وهل حاولت الشعر؟
- نعم... حاولت الشعر فيما كنت أكتب القصة والنقد وربما كان هناك شيء طريف في هذا المجال وهو أنه كان لي صديق سوري اسمه عبد الغني العطري يصدر مجلة في دمشق أسبوعية كان اسمها «الصباح» على ما أذكر، وكنت أوافيه ببعض إنتاجي وكان يهتمّ بهذا الانتاج، وينشره في مكان ممتاز بالجريدة، إلى أن أخذني الغرور نفسه يوما ما، فحاولت كتابة قصيدة أرسلتها إليه، فكان احتفاله بها أكبر من احتفاله بسائر إنتاجي فنشرها في الصفحة الأولى مقدما لها بقوله وهذا وجه جديد يطلع به علينا سهيل إدريس الكاتب القصاص.
وأعتقد أنه في ذلك كان يحيك لي مؤامرة بدليل أنه في العدد التالي، وما بعده، نشر مقالات وتعليقات وردودا على قصيدتي هذه، وكلها تسفه هذه القصيدة وتنتقدها انتقادا مرّا مما جعلني بعد ذلك أتوب عن قول الشعر، وأنصرف إلى الانتاج الإبداعي الآخر الذي هو القصة والرواية.
أما مطلع القصيدة فأقول فيه:
حيران هائم يا دهر مالك تظلم
قلبي الحزين وتكلم
يا دهر إني أعلم
وبعد ذلك مررت بفترة من النقد الذاتي فسكتّ عن قول الشعر، وهذا ما قد يعز على كثير من الذين ينبغي عليهم أن يصمتوا عن قول الشعر أيضا.
* بالنسبة للنقد، هل تعتقد بأن النقد العربي بلغ المستوى المطلوب؟
- ربما كان من الواضح أن النقد العربي قد انحسر في العقدين الماضيين، بمعنى أنّنا كففنا عن أن نجد مثلما كنا نجد في نقادنا القدامى من الجهد وروح المعاناة (والاستصعاب) إذا صح التعبير، مقابل كلمة (الاستسهال) التي هي الميزة الأساسية في كثير مما ينشر اليوم من نقد.
نقد خفيف.. سهيل.. لا يعتمد الأسس العلمية والموضوعية بل يستهين بالكتاب المكتوب عنه وأذكر أن بعض الكتاب النقاد المعروفين سابقا قد كفوا اليوم عن أن يكتبوا كما كانوا يكتبون، وربما كان ذلك بفضل المجلات لأنّ بعض المجلات ترفض نشر دراسات معمقة ومطولة، وتدعي أن صفحاتها لا تتسع لذلك.
إذن هذا النقد هو الان في أزمة ولا بد من أن نستعيد له الوعي والعمق الذي كنا نحسه في كتابات النقاد الأوائل أمثال أنور المعداوي وعبد القادر القط وغالي شكري وصبري حافظ.
فلا بد من أن نسترجع مثل هذه الأصوات وأن يعي النقاد المحدثون دورهم في تطوير الإبداع الأدبي الحديث.
* من حين لآخر تهوي بعض النجوم من سماء الفكر، فتختفي وجوه العمالقة.. هل تعلق أملا في الجيل الجديد بأن يحمل الرسالة وأن يعوض من يختفي عن الساحة.. من نقاد وغيرهم من العمالقة؟!
- الحقيقة أنّ هناك اليوم أساليب في إغراء الكتاب لكي يستسهلوا الكتابة، وهذا مرتبط بالسؤال السابق.
إن الكاتب العملاق هو الذي يبذل أكثر مما يستطيع من جهد ليتجاوز نفسه، ويتجاوز طاقاته، فيبرز إذ ذاك ككائن يعي مسؤولية كبيرة في الكتابة... هكذا كان عمالقة الأدب العربي الحديث أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد وميخائيل نعيمة وسواهم، ولم يكونوا يسألون على الإطلاق تعويضا ماديا على هذه الأعمال العظيمة التي كانوا يقومون بها. ولم يكونوا يتخذون الأدب وسيلة واحدة للرزق بل كانوا يستجيبون لدوافع نفسية، ان لم يستجيبوا لها فإنهم يعانون مشاكل داخلية كبيرة، كانوا ملزمين بالكتابة من غير إن يلزمهم أحد إلا ضميرهم ووعيهم.
نحن اليوم في عهد تشترى فيه الأقلام والضمائر والذمة ولذلك نجد هبوطا وانحدارا في المعايير وفي الانتاج، أخشى على الإقلام العربية كلها أن تغرق في هذا المنحدر، ولأقلها بصراحة في هذا المنحدر (البترودولاري) الذي ربما كانت له خطة في أن يسكت الأصوات أو يصرفها عن الأمور الجادة، وعن الأدب الرفيع ليتاح للسلطات وللحكام أن تفرض سياستها على الشارع وعلى الجماهير من غير أن تكون هناك أصوات معارضة لها.
أي هناك مؤامرة تحاك ضد الفكر العربي وليس بعيدا أن يكون مشاركا فيها جماعة النظام العالمي الجديد الذي يراد فرضه على ضمائرنا بسبب هزيمة تعرضنا لها وينبغي أن يتنبه لهذا بالدرجة الأولى، المثقفون الواعون والمسؤولون.
* كلام كثير يردّدونه عن الحداثة وعن المواكبة للعصر، فما هو رأيك فيما يرددون؟
- في الحقيقة نحن نفضل دائما أن ينتج المبدع شيئا حديثا لا أن يتحدث عن الحداثة، أعطونا انتاجا نحكم عليه فيما بعد، بدل أن نطالب ليلا نهارا بأن نكون حداثويين وما بعد الحداثوية وما إلى ذلك من الاصطلاحات المقتبسة من غير أجوائنا ومن غير أرضنا وإنما نحن نطالب بالعمل وليس بالكلام والتعريف.
* يتحدثون كثيرا هذه الأيام - يا دكتور سهيل - عن الهوية كما تعلم، وكأن الأمة العربية لم تكتشف بعد هويتها وكأنها مازالت تتحسس الطريق، ولعلها قضية مختلقة لمجرد التلهية وتشغيل عقولنا بقضايا، أعتقد أن التاريخ قد بت فيها من زمان وقال كلمته.
- أعتقد أنه من قوانين التاريخ هو أن يحاول الإنسان إذا ما تعرض لنكسات في حياته أو لتدمير بعض طاقاته، من هذه القوانين أن يعود إلى الصفر وأن يحاول أن يبحث عن السبب الذي من أجله وصل إلى ما وصل إليه.
وأنا أدرج هذا التيار الجديد في التكلم عن الهوية وما إليها في هذا النطاق، نحن نبحث الآن ولم نفق بعد من الضربات المتتالية التي تعرضنا لها في سنواتنا الأخيرة.
نبحث عن ذاتنا مرة أخرى لنجوهرها ونخرج بها إلى حيّز تستطيع أن تكون فيه فاعلة من أجل التطور والتغير وتجاوز الواقع المؤلم، فلا ضير في أن نقوم بمثل هذا البحث بين فترة وأخرى لأنه يعرفنا بذاتنا أكثر، وربما كان في ذلك دفع لنا لتدارك ما فاتنا ولمحاولة الخروج من المآزق التي يأخذ بعضها برقاب بعض ويضعنا في حالة من الإحباط، نبحث فيها عن ثغرة من الأمل وعن التعرف إلى ذواتنا بشكل لائق.
* المفكر العربي يحاول أن يواكب حياة عصره ولا شك أنه يتحمل مسؤولية ما يحدث في مجتمعه، ما هي مدى مسؤولية المثقف العربي عما يجري في الساحة العربية من معاناة ومآس؟
- لا شك في أن للمثقف العربي مسؤولية ما فيما نعانيه اليوم، ولكننا لا نستطيع أن نتهمه بأنه هو وحده المسؤول. يكون وحده مسؤولا إذا كان متاحا له أن يتكلم بحرية، والمثقف العربي الان لا يتكلم بحرية، وقد يساعد أحيانا في أن تفرض عليه القيود المفروضة عليه الآن، بدل أن يعمل على تحرير نفسه منها فانه يخضع وينساق في كثير من الأحيان مع السلطة، وأنا أود هنا أن أتهم كثيرا من أصحاب الاقلام في أنهم يهادنون السلطة بغير ما دافع للمهادنة إيثارا للعافية أو تخليا عما قد يجدون فيه من جهد من أجل الانتاج والابداع الحقيقي.
يعني هنا جهات تريد أن تشتري الأقلام، ولكن هذه الإقلام مستعدة في كثير من الأحيان لبيع نفسها، هنا مسؤولية المثقف وتغييبه الوعي الذي يجب أن يتزود به من أجل أن يلتزم بعمله وبحقيقته، ونحن من الذين يعتقدون أن الأديب هو معارض أبدي للسلطة وينبغي أن يتحمل هذه المسؤولية وبدونها لن يكون هناك تقدم ولا تطور للمجتمع.
* مثلك الأعلى في الحياة؟
- ليس هناك مثل أعلى واحد، هناك مثل كثيرة، ولكنني ككاتب أرى أن المثل الأعلى للكاتب هو أن يجمع الإبداع إلى صدق الحياة والسلوك، لأنني أعتقد أن المبدع اذا كان خاليا من الأخلاق فإن إبداعه نفسه موضع شك.
* لو لم تكن قصاصا وأديبا.. فماذا تريد أن تكون؟
- ... قصاصا وأديبا.
* في نهاية هذا اللقاء نستغل هذه الفرصة - يا دكتور سهيل - لتقدم نصيحة أدبية إلى الأدباء الناشئين، فبماذا تنصح؟
- لا أحب كثيرا النصائح وإنّما أذكر أنني جاهدت طويلا لكي ينشر لي في الصحف والمجلات التي فتحت لي صفحاتها فيما بعد... ينبغي أن لا يشعروا بأي إحباط وأن لا يمتنعوا عن الاستمرار في الانتاج إذا صادفتهم بعض العقبات الأولى، الاستمرار والمثابرة هو طريق النجاح في الحياة.
* دكتور سهيل إدريس، هذه فرصة طيبة ولطيفة أتحتها لنا لنلتقي معا في هذه الرحاب الفسيحة التي ليس لها حدود، وشكرا على تلبيتك دعوتنا لنتحدث لنا ولأبناء تونس وأبناء العالم العربي من خلال هذا اللقاء.
- شكرا لكم على هذه الفرصة التي أتحتموها لي لأتحدث الى أحبائي الكثر في الجمهورية التونسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.