لقد اقترن تطوّر الانسان بتطور التكنولوجيا حتى أمسى هذا القرن قرن الاتصالات والثورة المعلوماتية. ان هذا الأخير جعل الانسان يبحر في شتى المجالات دون اللجوء إلى التنقل أو تحمّل مشقات السفر. لا تستغرب البتة، فهذا عصر العولمة الذي صار فيه الانسان جزءا من العالم وليس القطر الذي ينتمي إليه. حسن أن نأخذ من الاخر وأن نعطي في المقابل والأحسن أن نستفيد من هذا التطور ليستفيد الانسان وكذلك الوطن ولٍمَ لا يصبح العالم قرية تجارية يتيح الفرصة لكل باحث عن الربح أن ينمي رأس ماله ويريح باله من بضاعة فسدت أو تجارة كسدت. آنّ ما يجري اليوم جعل الانسان من مشارق الأرض إلى مغاربها يتطلع الى الربح السريع بقطع النظر عن الطرف الآخر. انّ العولمة بالأساس جاءت كرد فعل لانكماش العديد من الشعوب على ثقافتها وعاداتها فصارت متنفسا للكثير من الشعوب التي كانت تتعطّش لشرب أو تذوق ما عند الآخر، لكن المتطلع لما يجري بين علاقة الانسان بالآخر يرى أنّها صارت ضربا من الاستغلال ان لم نقل استهبالا حتى صارت التكنولوجيا وسيلة سهلة للكسب والنهب. أتذكر تلك العقود الخالية، وأنت تسمع رنات الهاتف ببيتك أو بيت جيرانك؟ فهذا الجهاز العجيب كان لا يستعمل الاّ لإجابة حبيب أو النجدة بطبيب فكان شامخا عاليا لا تطاله أيادي الصغار أو فضول الكبار. لقد كان هذا الجهاز مستقلا عن كل برنامج اعلامي أو إشهاري تجاري، لقد ترفع وعن الأخذ منك تعفف. لقد صار ذاك الجهاز مهجورا وحلّ محله المحمول أو المتنقل أو المتحرك فكلها أسماء متعدّدة لمسمى واحد وهو «الاتصال ولاشيء غير الاتصال» وإن لم يكن لديك رصيد فأطلب من الغير أن يتصّل بك وإن كان سخيا فليرسل لك رصيدا تتصل به وإن لم تجد هذا أو ذاك فاذهب أنت ومحمولك إلى الجحيم، المهم أن يبقى محمولك يتجوّل محمولا دوليا دون انقطاع حتى صرت أرى العديد واضعا فوق أذنه قطعة حديد والحال أنّه غير متصل بل هو عن الخدمة منفصل ولكن صار المحمول عند الانسان جزءا من الديكور. لنسير التاريخ، ونر أنّ كل ما اخترع من الآلات أو أدوات كان ذا نفع للانسان وكذا الحيوان، فالسيارة قهرت المسافات وكسرت كل الحواجز، حتى الأسلحة التي تسببت في الحروب جعلت الانسان في مأمن وامان عند امتلاكها، أمّا اليوم فالصورة تكاد تكون مخالفة تماما عند الحديث عن «المحمول» الذي هاجم العقول وغزى كل سائل ومسؤول حتى خشيت أن يحمله الميّت في القبور علّه يبعث برسالة لأهله أو يشارك في مسابقة مع الأسف صاحبها تحت التراب مدفون. لقد صار هذا «المحمول» أو قل «المعلول» يئن أنين العليل الذي يئس من الدواء كثيرا كان أم قليلا. لقد تحمل كذب الناس حتى صار يصرخ صراخ الحريم، كيف لا وأنت بالبيت وإذا سألك أحدهم تقول «ها أنا في المكتب»، أمّا اذا كنت ممتطيا سيارة أجرة فتجيب قائلا «إنّ سائقي في طريقه إليك» وإذا كنت جالسا في المقهى، فإني أراك تاركا ما لذ وطاب من شرب لتخرج وتجيب سائلك أنّك مشغول وللوصول إليه غير مقدور. لقد ضاقت السبل بالمحمول وكأني به طالبا المدد ليجدّد العهد، لقد تعب من كثرة الضغط على ازراره حتى فقد جميع أدواره: على صوته وضعف ضغطه وتخرب وجهه حتى صار يتجنب الكفر أو العار. أخذت «محمولي» الى مستشفى الأمراض العصبية علّه يهدأ باله ويستقر حاله، لكن عند دخولنا المستشفى اعترضنا الحارس ماسكا محموله يلعب به تارة ويضعه على ءأذنه تارة أخرى، تقدمنا قليلا فإذا بالمرضى الذين فقدوا الادراك وأتقنوا الامساك ماسكين ذاك العجيب به يضحكون فهذا يكلّم طبيبه والآخر يتوعّد غريمه والكل في بحر المحمول مسرور وعلى رناته وموسيقاه يرقصون. قررت اسعاف محمولي والخروج به قبل أن يلفظ أنفاسه أو ينتحر، حاولت مرارا أن أحدثه فإذا به خارج نطاق الخدمة بل قل هزل وضعف وإرساله عن النشاط توقف. كنّا في طريقنا إلى البيت وكان هاجسي أن أرى قطا يغازل فأرا بمحمول، وصلنا إلى البيت وخلت أنّه الخلاص فتحت التلفاز وظننت أنّ المحمول قد فاز، أبحرنا حول القنوات ويالها من هفوات لقد صار التلفاز لا يتحوّل وببرامجه لك أن تتبرك الاّ إذا أرسلت رسالة تغير بها حالك «أرسل» «ابعث» صرخ محمولي قبل أن ينتحر «أما علمت ان الرسالة المرسولة خدعة معقولة، وأن الجيب المخدوع مآله القهر والجوع» . ناصر بن مصباح أستاذ انقليزية