في مثل هذا اليوم من سنة 1952 أقدمت قوات الاحتلال الفرنسي على اغتيال المناضل النقابي والوطني، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل الزعيم فرحات حشاد، مستهدفة بذلك الحركة النقابية التي اتخذت لها موقع الرّيادة في معركة التحرّر الوطني والانعتاق الاجتماعي. لقد كان استهداف حشاد في تلك المرحلة من تاريخ نضالات الشعب التونسي ضدّ الاستعمار الفرنسي وليد الوعي بخطورة النقابات في مواجهة المستعمر وفي مقاومة مصالحه إذ أن تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل كان على قاعدة التسليم بألاّ رقيّ ولا تطوّر ولا تحسّن في أوضاع العمال إلا بالقضاء على أصل الداء في تونس: الاستعمار وأذنابه. لقد أسّس حشاد منظمة الشغالين مستخلصا الدروس من تجربة الحامي ومن تنظيرات من سبقه من النقابيين ومن وعيهم الذي تشكّل منذ بداياته في العشرينات على قاعدة الانخراط في النضالين الوطني والاجتماعي، بعد أن اكتشف العمال التونسيون أنهم ليسوا إلا وسيلة ضغط حيث تكاد تقتصر تحسينات الأجور إثر الإضرابات على العمال الفرنسيين ومساومتهم بالتجنيس إن هم رغبوا في التمتّع بنفس المكاسب، ممّا خيّب ظنّهم في هذه النقابات وجعلهم أميل إلى الانسلاخ وأكثر تجاوبا مع فكرة تأسيس عمل نقابي مستقل ذي بعد وطني جماهيري. وهي الحركة التي نادى روادها بتحرير العمال من الاستغلال عبر إنشاء تعاونيات إنتاج واستهلاك تخلّصهم من جشع الاحتكارات الاستعمارية ونادوا بتحرير المرأة نصف المجتمع وصمدوا من أجل تمرير رؤاهم التقدمية أمام جبهة عاتية تشكّلت من الحكم الاستعماري والرجعية المحلية، إنهم من أسّس جامعة عموم العملة التونسية الأولى حيث التحم في ظلها العمل الوطني بالعمل الجماهيري ومشاركة الطبقة العاملة بصفة مبكّرة في النضال الوطني والتمرّس بالأشكال المتقدّمة للتنظّم والنضالين الوطني والاجتماعي. تلك هي إذا، التجربة التي استخلص منها حشاد ورفاقه الدروس عند تركيزهم لمنظمة نقابية تساهم بصفة فعالة في حركة التحرر الوطني "الاتحاد العام التونسي للشغل" فكانت المطالب الاجتماعية والوطنية تتقدّمان على نفس النسق، وتبلور هذا التوجّه بصفة جلية بعد المؤتمر الرابع (مارس 1951) في برنامج اقتصادي واجتماعي وسياسي متكامل للتخلّص من الهيمنة الاستعمارية وإقامة سلطة وطنية لتحقيق النمو الاقتصادي. ولقد كان أمينه العام في طليعة القوى الوطنية الداعية والمنفّذة للإضراب العام احتجاجا على مذكرة 15 ديسمبر 1951 الرافضة للاعتراف بحق الشعب التونسي في الاستقلال، مدعّما هذا التوجّه بالدعاية للقضية الوطنية في المحافل الدولية والانخراط في السيزل التي أظهرت اعتناء بقضية الشعوب المستعمرة، وباستغلال منبر النقابات الأمريكية للتعريف بالقضية التونسية، فضلا عن تيسيره لمهمة الزعيم بورقيبة بمناسبة تقديمه الوثائق اللازمة سنة 1952 إلى منظمة الأممالمتحدة لتدعيم حق الشعب التونسي في الاستقلال. إن حشاد هو من تزعّم المقاومة الوطنية إثر اعتقال قادة الحركة الوطنية يومئذ وهو الذي قاد بحكمه نضالات الشعب بكافة شرائحه الوطنية ضدّ الاستعمار وهو الذي دعا إلى ضرورة التحرّر الوطني والانعتاق الاجتماعي مما دفع السلط الاستعمارية إلى اغتياله يوم 5 ديسمبر 1952. هو الاغتيال الذي أراد المستعمر من ورائه إخماد نار ثورة الشعب ضدّه ولكنه كان الحدث الذي أجّج نار المقاومة وزاد حدّة المواجهة من أجل تحرير البلاد أرضا وشعبا وثروات. أيّها الشغالون، إن لاتحادكم، الذي قدّم مؤسسه شهيدا للوطن، شأنا في معركة تحرير البلاد وفي الدفاع عن الحرية والعدالة والمساواة حيث لم ينشأ منظمة حرفية مهنية ضيّقة الأفق بل اتحادا يؤمن بتلازم البعدين الوطني والاجتماعي، وهي المبادئ التي أهّلته للمساهمة بفاعلية في بناء الدولة الحديثة عبر ما بلوره روّاده من آراء وتصوّرات أهمها ما ورد في التقرير الاقتصادي والاجتماعي الذي صاغته المنظمة في الخمسينات. إنها القيم والمبادئ التي تمسّك بها النقابيون طيلة مسيرة الاتحاد: القرار المستقل، الدفاع عن الديمقراطية وعن العدالة الاجتماعية وعن الحريات العامة والفردية والوفاء للوطن وحده، وهو المسار الذي اقترن أحيانا بتصادمات عنيفة مع الحكومة سواء في 1978 أو في 1985، جوهرها تضارب بين طموحات الأجراء وعموم الشعب وبين خيارات نقيضة، تصادمات أدّت إلى ضرب الاتحاد وإلى سجن قياداته الشرعية، وإلى محاولة بعث منظمات أخرى منيت بالفشل الذريع لأن الاتحاد العام التونسي للشغل أصبح في وجدان الشعب، لأنه ممثل الجزء النيّر المضيء في تاريخه، وهو ما وعت به قيادة تحوّل السابع من نوفمبر التي أعادت له الاعتبار وعملت استجابة لصمود النقابيين وعموم الأجراء إلى توفير ظروف استحقاقات الشرعية النقابية. أيّها الشغالون، لقد خبر اتحادكم بحكم تراكم تجاربه التاريخية آليات التعامل مع محيطه فتمكّن منذ إرساء دورية التفاوض في كافة القطاعات من تحقيق زيادات مستمرة في الأجور منذ بداية التسعينات مما أسهم في تعديل القدرة الشرائية لكافة الفئات رغم الهزّات الاقتصادية العالمية التي اقترنت بخيارات العولمة التي أضرّت بالعمال وبالشعوب والأمم في أماكن كثيرة من العالم. لقد مثلت الدورة الحالية من المفاوضات التي ما زالت جارية في بعض القطاعات محطّة هامة شهدت إضافات نوعية على المراحل السابقة حيث تميّزت بالإعداد المحكم لها من قبل كافة الأقسام المعنية سواء تعلق الأمر بالدراسات أو التكوين أو التشريع، وبالإنجاز المتأني والمدروس بعيدا عن التسرّع والفوضى في القطاعات الخاص والعام والوظيفة العمومية، وبمفاوضات اعتمد فيها المفاوضون قدرتهم على المحاججة والجدل معتمدين معطيات مقنعة رغم صعوبة الظروف التي خيضت فيها عالميا ومحليا، واعتمدوا في تمسّكهم بتصورات الاتحاد على دعم الأجراء لهم بالتجمعات العمالية والهيئات الإدارية الجهوية القطاعية:إنه التنظيم المدروس، الذي أدّى إلى مراجعة هامة للاتفاقية الإطارية المشتركة في مجال الانتدابات وعقود العمل في اتجاه تثبيت العمل القار في مواطن الشغل القارة والتقليص من الانتدابات العشوائية ومن عمليات المتاجرة باليد العاملة، وفي مجال حماية المسؤول النقابي أثناء مدّته النيابية وكذلك أثناء ترشحه فضلا عن مراجعة فصول عديدة في الوظيفة العمومية وعن الحسم في بعض المسائل العالقة في القانون الأساسي لأعوان الوظيفة العمومية، وفي بعض محاور الخلاف في القوانين الأساسية لبعض المؤسسات العمومية، وهي التنقيحات الجوهرية التي زادتها قيمة ووضوحا الاتفاقيات المتعلقة بالزيادات في أجور موظفي وأعوان الدولة بنسبة 7،4% وبنسبة 5،1% زيادات خصوصية لبعض القطاعات على إثر تدخّل من السيد رئيس الدولة بعد أن جمدت في حدود 5،3% في مفاوضات اللجنة العليا، إضافة إلى الاتفاقيات المالية الهامة في عدد كبير من الاتفاقيات في القطاع الخاص وإلى الانطلاقة المتفائلة في المؤسسات العمومية. إنها المفاوضات التي خضناها بنجاح والتي اتخذت لها حيّزا زمنيا هاما ولكنّها اقترنت بإقبال الاتحاد على المساهمة بآرائه في قضية نعتبرها في جوهر اهتماماتنا النقابية باعتبارها من أهم التحديات المطروحة: إنها قضية التشغيل التي شاركنا فيها بما توفّر لدينا من آراء مصدرها بحوثنا النظرية والممارسة العملية سواء خلال انعقاد الندوة الوطنية أو في لجنة إعداد الاستشارة إذ لا تشغيل دون صنع الثروة ولا ثروة دون مجتمع تتوفّر فيه القدرة على الاستهلاك ولا استهلاك دون الإقدام الواعي على إنماء الطلب الداخلي عبر الزيادات في الأجور وتحسين القدرة الشرائية وخاصة في ظل الأزمة المالية الدولية التي تهدّد بانكماش النمو العالمي الذي سينعكس علينا سلبا إذا استمررنا في التعويل على الطلب الخارجي وحده. أيّها الشغالون، لقد نبّهنا دوما في منظمتنا إلى خطورة العولمة القائمة على اعتماد سياسة اقتصادية تهمّش دور الدولة وتعتمد المؤسسات المالية الدولية وتوصياتها وتستند إلى القطاع الخاص، ولعلّ ما شهده العالم أخيرا دليل واضح على ضرورة استمرار الدولة في أداء دورها التعديلي وخاصة في القطاعات الإستراتيجية، وأن الاستثمار في المناطق الداخلية يظل من مشمولات الدولة من أجل مجتمع متوازن ومن أجل تنمية عادلة لا إقصاء فيها ولا تهميش. إن ملفات هامة ومصيرية ستظلّ في عمق اهتمامات الاتحاد العام التونسي للشغل في مسيرة نضاله بدءا بالتشغيل في الصدارة وخاصة تشغيل فاقدي مواطن عملهم نتيجة تغيّرات اقتصادية لا مسؤولية لهم فيها، وتشغيل حاملي الشهادات الجامعية وما ينجرّ عن ذلك من مشاكل يستحسن التعمّق في معالجتها عبر الحوار بعيدا عن الحلول الزجرية التي لن تزيد الأوضاع إلا تعقيدا وتأزّما شأن ما شهدته منطقة الحوض المنجمي من ولاية قفصة، إن الحل يظلّ في دفع عجلة الاستثمار وفي التحفيز على بعث المؤسسات الصغرى والمتوسطة بشكل مدروس هادف ومنظم، بالإضافة إلى الإجراء الوقائي الذي أضحى مهمة ملحة اليوم والمتمثل في ضرورة بعث صندوق للبطالة آلية من آليات تمكين أولئك وهؤلاء من الاندماج الأدنى في دورة الاستهلاك. ملف آخر لا يقل أهمية عن التشغيل من حيث تأثيراته على التوازنات المالية وعلى العدالة الاجتماعية وهو ملف الجباية التي أصبحت من المصادر الأساسية لميزانية الدولة في ظل الحذف التدريجي للأداء القمرقي وما يتطلبه ذلك من تكريس لسياسة جبائية عادلة تحول دون التهرّب والتحيّل بالإضافة إلى آفاق الحماية الاجتماعية في باب التقاعد الذي يستدعي اليوم معالجة جذرية لتأثيراته على الصناديق وللآليات الكفيلة بإصلاحه بعيدا عن الحلول السهلة ذات التأثيرات السلبية والتي لا ترى الخلاص إلا في الترفيع في نسب المساهمة. إن معالجة أوضاع الصناديق الاجتماعية تستدعي تحسينا في مداخيلها وهو ما لن يحصل دون مراقبة دقيقة للعلاقات الشغلية التي يجب أن تبنى على أساس احترام قانون العمل وتكريس العمل القار والتصنيف المهني بعيدا عن الأشكال اللانمطية المتضاربة ومحتويات التشريعات الجاري بها العمل. أيّها الشغالون، إن اتحادكم الذي يعتزّ بما تحقق للأجراء وعموم الشغالين من مكتسبات اجتماعية ومن تعديل للقدرة الشرائية يطمح دائما إلى ترسيخ أسس المجتمع الديمقراطي العادل والحرّ القائم على تعميق ركائز دولة قانون المؤسسات عبر تفعيل دور مكوّنات المجتمع المدني التي منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، هذا المكسب التاريخي الذي آن الأوان للبحث له عن مخرج يعكس الوعي بأهميته في تصليب أرضية الحوار الدائم المسؤول والبنّاء والقائم على الاحترام المتبادل، في مجتمع تتمتّن عوامل استقراره بإطلاق سراح الموقوفين والمسجونين في أحداث الحوض المنجمي ويعتمد نظاما تربويا تكوينيا يستجيب لحاجيات الشغل ولتعليم ذي محتوى وطني تقدمي يستجيب لطموحات شعبنا وأبنائنا، تحترم فيه الحريات النقابية والتمثيل النقابي وتوظّف فيه كافة الطاقات للارتقاء بالعطاء الجماعي وبالإنتاج كما ونوعا. أيّها الشغالون، لقد آمن مؤسس اتحادنا بسعة انتماء منظمتنا وبوحدة المصير فدعا إلى التضامن مغاربيا وعربيا ودوليا حيث اعتبر " حظّ بلدان شمال إفريقيا مشتركا ووثيق الارتباط وقضيتها واحدة على وجه الإطلاق وعلى هذا يجب إحكام الربط الأخوي المتين الذي يربط بين الطبقة العمالية في الأقطار المغاربية" ووفاء لهذا المبدإ، فإن اتحادكم مدعوّ اليوم إلى تفعيل دور الاتحاد النقابي لعمال المغرب العربي بما يضمن التقدم في معالجة أوضاعنا المغاربية خدمة لمصالح شعبنا في المنطقة، والغاية ملء هذا الفراغ الذي تركته الحكومات مترجمة فشلها بالالتزام بالأجندا المغاربية التي سطّرتها معاهدة مراكش ولكن نضالنا يظل مبتورا ما لم يقترن بتوسيع دائرة المناصرين لقضايانا في فلسطين والعراق وجنوب لبنان والجولان والسودان والصومال. الوفاء ذاته لمبدأ التضامن الدولي هو الذي كان وراء اتحادكم لدعم الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب في تفعيل دوره وفي استغلال موقعه المتقدم في المنظمة النقابية الافريقية (CSI-ORAF) والاتحاد النقابي العالمي (CSI) للدفاع عن القضايا العربية العادلة. إن ما تشهده المنطقة العربية من محاولات هيمنة أمريكا وحلفائها على خيراتها ومن سياسات تجويع وحصار لشعبنا في فلسطين بشكل وحشي لم تشهد له الإنسانية مثيلا، وإن استمرار الاحتلال في المناطق العربية الأخرى يحتّم علينا اليوم مواصلة النضال من أجل فضح تلك الممارسات والكشف عن سياسية أمريكا والصهيونية المعادية للشعوب والأمم الطامحة إلى التحرر والانعتاق وإلى كسب المناصرين في المنظمات والمؤسسات الدولية المؤازرة لقضايا الحق والعدل والحرية ومن أجل إدانة الموقف الرسمي العربي والدولي إزاء ما يحدث في المنطقة. أيّها الشغالون، إن إحياءنا للذكرى مناسبة نجدّد فيها اعتزازنا بما تحقّق للأجراء وعموم الشغالين في المجالين التشريعي والمالي وهي مناسبة نؤكد فيها على أن اتحادكم سيظلّ وفيا للمبادئ التي ضحى من أجلها زعماء الحركة النقابية: الحامي وحشاد والتليلي وعاشور: عمل نقابي حرّ مستقل نعتمد فيه في صياغة مواقفنا وقراراتنا على الحسم الديمقراطي الضامن حق الاختلاف ووحدة الممارسة من أجل الدفاع عن مجتمع عادل تتعمق فيه الحريات العامة والفردية والحقوق الاجتماعية لكافة الأجراء على قاعدة عمل لائق للجميع ويضمن الحق في النشاط الحرّ بالنسبة إلى كافة مكونات المجتمع المدني ومن أجل وطن عربي يرفض الاستكانة والتبعيّة ويأبى المظالم ويناضل ضد كافة أشكال الهيمنة والاستغلال. عاش الاتحاد العام التونسي للشغل مستقلا ديمقراطيا ومناضلا. عاشت نضالات الشغالين سندا لنضالات شعبنا العربي من أجل التحرّر والإنعتاق. تونس، في 5 ديسمبر 2008 عن المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل الأمين العام