تصنّف العلوم الطبيّة «الشيزوفرينيا» أو انفصام الشخصية أو ازدواجية الشخصية، في خانة الأمراض النفسية والعقلية الموصوفة المستعصيّة وشديدة التشعّب، والتي تؤرّق المريض والأطباء على حدّ السّواء... فالمصابون بهذا المرض شفاهم الله يُولّدُ داخلهم العناصر الذهنية والعقلية والنفسية والعصبيّة لشخصيّة ثانية تظلّ تتعايش داخل وجدانهم وفي لا وعيهم مع شخصيتهم الأصلية الأولى قبل المرض: ففي حالات معيّنة، يكون ذلك التعايش، سلميا وصامتا ودون مضاعفات أو مخاطر... وفي حالات محدّدة مختلفة أخرى، يتّخذ ذلك التعايش الهشّ بين الشخصيّتين طابعًا تصادميا وتناحريا وعنيفا،، يتولّد عنه صراع نفسي وعقلي وعصبي مع الذات أوّلا، ومع المحيط الضيق والعريض ثانيا... ولقد بلغت خطورة هذا المرض في أحد أطوار تفاقمه الحدّ الذي يمكن أن يؤدّي إلى الانحراف، وإلى الانتحار الذاتي، أو إلى اقتراف جرائم متنوعة، بل حتّى إلى القتل الفردي أو الجماعي... وضمن ذلك المنظور تدقيقا، ووفق تلك المنطلقات فإنّ المنظومة التشريعية المدوّنة قد رفعت عن ذلك المرض وعن المصابين به، المسؤولية الجزائية المألوفة،، وأعفته من تبعاتها... 1 الشيزوفرينيا الثقافية أخطر من الشيزوفرينيا الذاتية: يقول أستاذنا المرموق في علم الاجتماع بالجامعة التونسية الدكتور الطاهر اللبيب ما معناه أنّ الثقافة تبقى الحصن الأخير للشعوب والأمم والأقليات... فإذا كان انفصام الشخصية الذاتيّة يولّد الويلات والمعاناة وتشرذم الذات للأفراد فحسب،، فإنّ الشيزوفرينيا الثقافية تصيب مجموعات بشرية عريضة متعدّدة، أو جيلا بعينه، أو أجيالا كاملة، وقد تصيب شعبا بكامله! فالشيزوفرينيا الذاتية تصيب بالأذى الشديد خلايا النفس والعقل، ويسعى الطبّ جاهدا إلى محاولة معالجتها وتطويق آثارها في الإبّان،، بينما تصيب الشيزوفرينيا الثقافية بالأذى الأشد، الذات البشرية والشخصية الجماعية والتراث المعرفي والعلمي المُضيء، والمخزون الأدبي والفنّي المُنير، والتاريخ المشترك، والجذور الفكرية والثقافية الجماعية، ومرتكزات الثقافة وكنوزها!! فالعقل العربي الأصيل ومن ضمنه العقل التونسي كجزء عضوي منه يواجه بحزم خلال العشرية الأخيرة بالخصوص مخلّفات اندلاع حرب العولمة المُعلنة (وبمعنى ما الحرب العالمية الثالثة!!) لا فقط على أراضي الدول والشعوب والأمم، وجغرافيتها وثرواتها البشرية والطبيعية،، بل بدرجة أولى، الحرب المُعلنة وغير المُعلنة على ثقافاتها وهويّاتها وشخصيّتها، وحتّى على بقايا دياناتها وجذورها العقائدية!! 2 السياسة هي مواصلة الحرب بأساليب ناعمة: لا يخفى على كلّ ذي بصيرة أنّ الكثير من تلامذتنا وطلبتنا ومراهقينا وكهولنا وفتياتنا ونسائنا، بل حتى أطفالنا في الرّوضة وشبابنا الذي مزّقت البطالة أوصاله... يئنون في صمت من أوجاع الازدواجية الثقافية المُربكة والحيرة الفكرية الخانقة التي تكبّل عقول الكثيرين منهم،،، وتحصُرهم في بوتقة آفاق ضيّقة... فالبرامج والمضامين الدراسية المُعتمدة تلقّنهم يوميا أبجديات المعرفة وأصول العلوم، ومبادئ الكرامة والعدالة والحريات وحقوق الانسان والمرأة والطفل،، وأيضا قواعد الهوية الثقافية العربيّة وثوابت الشخصية والشرف والسيادة، وقِيَمَ الوفاء والصدق والأمانة والمحبّة والسّلام العادل... غير أنّهم، بمجرّد مغادرة مربّعات قاعات الدروس، يجدون أنفسهم أمام مشهد عام جارف نقيض تماما لكلّ ما سمعوه وتلقّنُوه من معلّميهم وأساتذتهم: بداية من منعرجات الطريق العام وقاعات الثقافة ودور الشباب ونوادي الطفولة،، مرورًا بالمقاهي والملاهي والفضاءات الخاصة جدّا، وصولا إلى مواقع «الدفء العائلي» والألغام المتفجّرة التي يزرعها في النفوس وفي العقول، العديد من أبواق الدعاية المشبوهة الصفراء المأجورة، وصوراريخ الكروز وقنابل النابالم (المحجّرة دوليا كما يردّد وزراء الخارجية!!) التي تطلقها بتعمّد واصرار مدروس، بطاريات ثابتة وأخرى متنقّلة من داخل أغلب العُلب التلفزيّة الحمراء والكباريات الفضائية المظلمة! ... فإذا كان أصدقاؤنا أطباء النّفس منهمكون في تطويق آثار الشيزوفرينيا الذاتية، فلقد آن الادوان بأن تنهمك صفوة النخبة الفكرية والثقافية والاعلامية من موقع «أطباء الاجتماع» على محاصرة مخلفات الشيزوفرينيا الثقافية الجارفة قبل فوات الاوان، وتطويق مضاعفاتها من جذورها.