كنّا في الحلقتين السابقتين قد عمدنا بوعي وقصد الى تأطيرالمؤتمر المقبل بعيدا عن النزوع الانتخابي الذي ميّز ما ينشر من حوارات ونصوص. انّ الاستحقاق التاريخي الذي شدّدنا عليه بقدر ما يشكّل منعة للمنظمة فهو يفرض عليها مهام مركبة تتطلب وعيا بسّمات المرحلة وادراكا لما يجب ان تكون عليه المنظمة حتى لا تظلّ عبئا على ما فيها وحبيسة إرث يضغط عليها وتعجز هي عن تمثّله بما يعنيه التمثل من وفاء وتجاوز في آن. إنّ الوعي براهنية تدبّر خطاب نقابيّ جديد يلائم حاجيات المرحلةوالذي تمّ التشديد عليه منذ ما قبل مؤتمر 1993 يفقد كل جدواه إذا لم يترجم الى فعل نضاليّ ولم يطرح الآليات والمطالب بعيدا عن العموميات التي غالبا ما تعتمد للتّضليل والتنصّل من المحاسبة والمتابعة. لقد ظلّ الحديث عن خطاب نقابيّ بديل هدفا يطلب ولا يدرك وظلّ الترويج لتهاوي الايديولوجيات والمرجعيات الفكرية والقناعات مدخلا لافراغ العمل النقابيّ من كل بعد مطلبي احتجاجي ودعوة إلى تطليق القناعات واعتناق الخطاب السائد والحال ان الخطاب النقابي هو بالتعريف خطاب احتجاجي والمنظمات النقابية محكومة بضوابط هي جوهر وجودها إنّ هي حادت عنها فقدت مبرّر وجودها وتحوّلت إلى واجهة من واجهات الخطاب الرسميّ. تواجه الحركة النقابية تحدّيات نوعيّة قياسا الى تلك التي واجهتها في مراحل سابقة وليس المطلوب الاقرار بالصّعوبات كواقع فرض نفسه فذلك امر تكفّل به الخطاب الرسمي لتبرير سياسات رأس المال والدولة وليس المطلوب تهويل التحديات وتقديمها كقدر وتشريع كلّ قبول ومسايرة. إنّما المطلوب حقا هو تمثل هذه التحديات وإدراك فداحتها وفهم الآليات التي حكمتها كظاهرة تاريخية لا تقدّر وككل ظاهرة تاريخية فإنّها تزول بزوال أسبابها. فهم التحديات يحتاج تأطيرا نظريا ومقاربات وقراءات ولكنه يحتاج بالاساس احتضانا لمطالب الشغالين وبلورتها بشكل دقيق وخوض نضالات لتحقيقها وفق تصوّر يضمن المتابعة والتقييم والمراجعة وليس التراجع. على وعي التغيّرات والاقتناع بضرورة الفعل فيها لا مسايرتها يتوقّف مصير الحركة النقابية وكذلك مصير الاتحاد العام التونسي. إذا كانت أدبيّات الاتّحاد لا زالت وفيّة للموروث النقابي فإنّ الممارسة النقابية تكاد تكون في تباين معه. وإذا كان اتحاد الشغل لاسباب موضوعية اهمها ضغط الموروث لازال يحافظ على بريق شعاراته وخطابه فانه في المقابل لم ينجح في تحويل الخطاب الى فعل نقابي يلائم بين الاني والمستقبلي فظلت سياسات المنظمة ردود أفعال محكومة بظرفيات ردود افعال هي اقرب الى البحث عن براءة ذمّة منها الى مواقف مدروسة ومحسوبة لا تكتفي بتسجيل الاحتجاج والتذمر بل ترسم ما يتطلبه ذلك من تجنيد طاقات المنظمة والدفاع عمّا بني من مواقف بنضالات ميدانية. صاغ الاتحاد خطابا تشهد عليه ادبياته رافضا للخوصصة والمناولة باعتبارها متاجرة باليد العاملة وخارقة للتشريعات العمل وانتهى الى التأقلم والمسايرة عبر الدعوة الى رفض الخوصصة العشوائية والتسريح العشوائي وتشريك المنظمة في عملية تطهير المؤسسات. وطرح اتحاد الشغل عبر عديد الندوات وفي خطبه الرسميّ ملف التشغيل كهاجس وكرهان ورغم أن المساهمة في فرض ملفّ التشغيل كملف وطنيّ يتطلب تفاعل جميع الاطراف وتحميلها ما عليها من مسؤوليات رغم ان ذلك يكسب المنظمة مصداقية كم هي في حاجة إليها فإنّ الواقع يثبّت عكس ذلك حتى بات رفع المطلب بديلا على الدفاع عنه. يتناسخ الخطاب وتتناسخ الندوات التي ترسي خطابا ورؤى نقابية تخالف السائد وتنقد الموجود ولكن ما خلت ندوة أو فعاليّة من التنصيص على التباعد بين الخطاب والممارسة حتى اصبحت الفعاليات النقابية فرصة للتنصيص على أهمية ترجمة التوصيات السابقة. لا تمثل ادبيات الاتحاد اشكالا بل لعلّها تشكل ارضية نقابية ولكنّ الإشكال كلّ الاشكال يكمن في الانفصام بين جوهر الخطاب وجوهر الممارسة. في هذا الاطار يتنزّل مشروعية الحديث عن ضرورة افراز قيادة نقابية يعنيها احترام ذاتيتها واقتناعها بان مكانتها تتأتى من مدى التصاقها بالفضاء النقابي لا بالفضاء البرّاني على الحقل النقابي قيادة تدرك ان استقلالية المنظمة تتيح لها التحرك باكثر مصداقية واريحيية ولكن الامر لا يخضع لرغبة ارادية ولا لمحض صدفة أيضا. اتحاد الشغل هو اتحاد كل الشغالين تلك كانت ارادة الروّاد ورغبة وهدف النقابيين والشغالين ساهمت جملة من المعطيات في فرض وحدته وتجنّب كل امكانية توزع. هذه الرغبة يجب ان تترجم في وعي منطلقه حاجيات المرحلة ومواصفات التوازنات الواعية والمحسوبة وطبيعة الكفاءات والفعاليات التي تحوّل ما تمّ اعتباره من تواق محسوب الى منطلق العمل جماعي هدفه ردّ الاعتبار للعمل النقابي وللمنظمة. إذا كانت النزوعات الجهوية والعروشية والولاءات مسائل مرفوضة ومضرة وتتنافى وطبيعة الفعل النقابي ذاته فان وجودها على ارض الواقع على خلاف الرغبة والتطوّر فإن التعامل معها بعقلنتها ؟؟ اجدى من التغني بالتنقل منها خطابا وتكريسها واقعا عبر إعطاءالجهات والقطاعات والاطياف والكفاءات حقّها حتى يحق فعلا الحديث عن اتحاد الجميع قطعا مع دابر احقية جهة على جهات وقطب على أقطاب.