اعتادت الفصائل الفلسطينية إطلاق الشعارات والمصطلحات والمقولات العامة، دون تفحص التباساتها واشكالياتها ومتطلباتها. هكذا مثلا يجري الحديث عن التسوية في وضع باتت فيه هذه العملية أمام أفق مسدود، كما يجري الحديث عن المقاومة، من دون تحديد طبيعة هذه المقاومة وأشكالها وتبيّن متطلباتها وتفحّص جدواها. ولعلّ الوضع ذاته ينطبق أيضا على مصطلح «الوحدة الوطنية»، الذي بات بمثابة الشغل الشاغل للفلسطينيين، خصوصا منذ ما بعد الانتخابات التي جلبت حركة «حماس» إلى السلطة (2006) مع التداعيات الناجمة عن ذلك من اختلاف واقتتال وانقسام، وصولا إلى حوارات الفصائل في القاهرة مرورا باتفاقات صنعاء ومكة. طبعا ثمّة تعميمات والتباسات متضمنة في هذا المصطلح، فثمة فرق بين الوحدة الوطنية / أي المجتمعية، ووحدة فصائل العمل الوطني، واذا كانت الأولى ضرورية فإنّ الثانية تبدو طبيعية خصوصا في قضية معقدة كالقضية الفلسطينية تحتمل تلاوين ووجهات نظر متعددة بمعنى أنّ المشكلة هنا ليست في الاختلاف وإنّما في طريقة ادارة هذا الخلاف وطريقة البتّ فيه. ودون التقليل من أهمية وخطورة الخلافات السياسية فإنّ طرح الأمر باعتباره قضية «وحدة وطنية» (من قبل الفصائل)، على تبايناتها يفترض مسبقا أنّ الشعب مختلف على نفسه سياسيا أو طبقيا أو طائفيا أو ثقافيا أو في أكثر من عنصر. وهكذا افتراض يقدم حلاّ جاهزا للإنقسام لدى الشعب عبر اقامة وحدة بين الفصائل وبشكل خاص راهنا بين حركتي فتح وحماس! وتحاول الفصائل في هذا الطرح إيجاد نوع من التماهي القسري بينها وبين الشعب وتكريس وصايتها عليه في واقع يفتقر لأشكال المشاركة الشعبية والتوسطات السياسية وفي حالة باتت فيها نسبة الانتساب للفصائل محدودة، فضلا عن أنّ ثمّة فصيلين (فتح وحماس) يقرّران وحدهما شكل النظام السياسي وتوجهاته. والواقع فإنّ غالبية الشعب الفلسطيني، على رغم حيويته السياسية، وتعاطيه اليومي مع الشأن السياسي وغالبية فعالياته ونخبه السياسية والثقافية والاقتصادية وخصوصا خارج الأرض المحتلة باتت بعيدة عن الأشكال السياسية السائدة بسبب الإحباط من التجربة السابقة وضعف صدقية الفصائل وانعدام الحراك الداخلي فيها، وانسداد الآفاق أمام ولادة حركة سياسية جديدة ما يعني أنه ليس ثمة تماه أو تطابق بين حدود الفصائل وحدود التمثيل الشعبي. ربّما أنّ الفصائل المعنية لا تدري أنها في هكذا خطاب تؤكد مسؤوليتها عن تفكك الوضع الفلسطيني وتفصح عن سعيها لتعويم دورها المتآكل، لأسباب ذاتية أو موضوعية بعقلية السبعينيات أي بعقلية «الكوتا» أو عقلية ما يسمى ب «الشرعية الثورية»! المشكلة أنّ الفصائل السائدة تكرس هيمنتها على الأغلب بوسائط غير ديمقراطية أي بوسائط النفوذ المالي الزبائني، وبوسائل القوة والسلطة (بحكم طابعها الميليشياوي)، وبحكم النفوذ السياسي الذي تتمتّع به من علاقاتها مع السلطات الاقليمية أكثر بكثير من سعيها لذلك بواسطة عملها الشعبي أو بتقديم رؤى سياسة مناسبة أو تحقيقها لإنجازات ملموسة. ومعلوم أنّ المجتمع الفلسطيني على خلاف فصائله المتنازعة والمتنافسة، هو على درجة عالية من التوحد في جوانب الحياة النفسية والثقافية والقانونية والسياسية وبمعنى الهوية والانتماء في أماكن تواجده كافة وهذه العناصر كلّها تعزّز من إحساسه بالمصير المشترك، وهذا سرّ التفافه حول منظمة التحرير طوال العقود الماضية، واعتباره لها بمثابة كيان سياسي ومعنوي له رغم خضوعه لظروف وأنظمة متباينة. على ذلك فإنّ الحديث عن الوحدة الوطنية يخبّئ في مضامينه صراعا على التمثيل، أو بمعنى آخر صراعا على السلطة، في الساحة الفلسطينية، بسبب افتقاد هذه الساحة لحياة سياسية حزبية حقيقية، بحكم سيادة أشكال العمل الفصائلية العسكرية، التي تعتمد الأجهزة بدل التنظيم والتي تنتهج وسائل عمل فوقية بدل أشكال العمل السياسي والجماهيري وأيضا بسبب سياسات التفريغ وسيادة العلاقات الأبوية على حساب العلاقات الديمقراطية الممأسسة، هذا فضلا عن ارتباط ذلك بالمداخلات والتوظيفات الخارجية. لهذه الأسباب تختلط الوحدة الوطنية في الخطاب الفلسطيني مع وحدة الفصائل التي تختزل الشعب بذاتها، وتغيّب الحدود بين كونها سلطة وبين كونها حركات أو أحزاب سياسية تنشأ وتنمو وتتطور وتأفل أو تجدّد ذاتها ما يفترض التفريق بين وحدة الشعب ووحدة الفصائل، فغياب الأخيرة لا تعني بالضرورة غياب الأولى وإن كان وجود الثانية يعزّز الأولى. على ذلك، وإذا كانت الوحدة المجتمعية مكوّنا أساسيا من مكونات العملية الوطنية، فإنّ هذا الأمر لا يتطلّب بالضرورة إقامة نوع من النظام السياسي الشمولي في الساحة الفلسطينية تتوافق فيه الفصائل (السلطات) على كلّ شيء أو لاشيء. فالتعددية والتنوع والديمقراطية، هي المكون الثاني الأساسي لهذه العملية، لأنّها تعبير طبيعي عن تباين الظروف المعيشية للشعب الفلسطيني وتعقّد قضيته وحيوية حركته الوطنية.