منذ البداية تصرّف الفلسطينيون على الأغلب إزاء الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، قبل عام في سبتمبر 2005، على أساس أن هذا الانسحاب هو بمثابة هزيمة لإسرائيل، والأنكى أنهم تصرّفوا في سياساتهم، أو في إدارتهم لأحوالهم ولصراعهم مع إسرائيل، وكأنّهم باتوا في منطقة محرّرة، وفي دولة ذات سيادة، من دون احتساب للعواقب الكبيرة والخطيرة الناجمة عن ذلك، ومن دون تبصّر لما يعتور هذه النظرة للأوضاع! ويمكن التدليل على ما تقدم، أولاً، في تبني عمليات القصف الصاروخي على المناطق الإسرائيلية المتاخمة لقطاع غزة؛ وثانيا، في محاولة تجيير نتائج الانتخابات التشريعية جانفي 2006 لإحداث خرق في السياسة الفلسطينية المعتمدة منذ الانخراط في اتفاق أوسلو (1993)؛ وثالثا، في عملية أسر جندي إسرائيلي من منطقة زرعيت المتاخمة للقطاع في جوان 2006. ويمكن تفسير جنوح الفلسطينيين نحو مثل هذه السياسة بالمنافسات والمزايدات والمبالغات المعشعشة بينهم، وتوقهم لتحقيق نصر ما، على إسرائيل، ولو بمعزل عن التباساته واشكالياته وتداعياته، وأيضا انقسامهم إلى قطبين فتح وحماس لكن مشكلة الفلسطينيين أنهم حينما تبنّوا ادّعاءات أو شعارات من قبيل المباهاة ورفع المعنويات، لم يتوقّفوا عندها بل باتوا يتصرفون على أساس أنها حقيقة واقعة، الأمر الذي أعاد إنتاج تجربة السلطة، في مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو 1993 2000، لجهة تجاهل القوى الفاعلة في الساحة الفلسطينية للواقع المحيط بها، والتهرب من الأسئلة المطروحة عليها، والعيش في واقع سياسي افتراضي ورغبوي مثلا، وبدلا من أن يجتهد الفلسطينيون، ويتكاتفوا، لتصليب مرتكزات الكيان الفلسطيني في القطاع، باعتباره منجزا وطنيا، وتعبيرا عن الحضور السياسي لشعب فلسطين، بدا القطاع مسرحا لفوضى السلاح والعبث السياسي والمزايدات الشعاراتية. وبدلا من النهوض بالقطاع الزراعي، لتحقيق بعض من الاكتفاء الذاتي في القوت اليومي، على الأقل، تحولت مساحات القطاع إلى مناطق للاستعراضات والتدريبات العسكرية. وبدلا من التعويض على الشباب عن سنوات الانقطاع عن الدراسة، في المدارس والجامعات، باتت الجماعات العسكرية المنفلتة من عقالها تستقطب الشباب، خصوصا في ظل التجاذب والاحتقان بين حركتي فتح وحماس. وفي الواقع فإن عديد الفصائل الفلسطينية المتواجدة في القطاع بدت، بعد انسحاب إسرائيل، وكأنها تعد العدة لجعل القطاع بمثابة «هانوي» فلسطين، أو بمثابة فيتنام الشمالية، كما بدت أكثر ميلا لمحاكاة، أو لاستنساخ، التجربة اللبنانية، في واقع دولي وإقليمي لا يسمح لا بهذه التجربة ولا تلك، عدا عن استحالة مقارنة الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بأية تجربة أخرى، بحكم تعقيداتها ومداخلاتها الخاصة. وفوق كل ما تقدم، وبدفع من التصورات المضللة والإرادوية، عن تحرير القطاع والسيادة فيه وهزيمة إسرائيل، اشتعلت حرب الصواريخ، أكثر من السابق، سواء بدعوى الرد على استدراجات أو اعتداءات إسرائيل المعهودة، والمتوقعة، أو في سياق الضغط على إسرائيل، باعتبار الصواريخ شكلا من أشكال المقاومة. وبديهي أن حرب الصواريخ هذه، بكل ما فيها من مبالغة وهشاشة في آن خلقت إيحاءات مضللة في العالم أيضا، فمعنى هذه الحرب وجود كيان فلسطيني مستقل، ومعنى القدرة على تصنيع الصواريخ وجود منطقة محررة، ومعنى إطلاقها أنه ثمة تكافؤ بين طرفين متقاتلين، في انتهاج هذه الحرب وفي تحمّل كلفتها! وهي جميعها اعتبارات تشوش على القضية التحررية للشعب الفلسطيني في العالم. وهنا يندرج، أيضا، موضوع أخذ جندي إسرائيلي إلى الأسر في القطاع غزة 25 جوان الماضي، وهو الأمر الذي جعل مواطني القطاع مليون ونصف في نطاق الأسر الإسرائيلي، عدا عن أن إسرائيل جردت حملة عسكرية أمعنت قتلا وتدميرا في القطاع، نجم عنها استشهاد أكثر من مئتين من الفلسطينيين، وجرح المئات، كما نجم عنها تشديد الحصار على القطاع، وتدمير بناه التحتية. ومن دون التقليل من فعل الانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة، اللتان رفعتا ثمن الاحتلال، وعزّزتا النقاش بين الإسرائيليين، بشأن جدوى الاحتلال والاستيطان والسيطرة على شعب أخر في الأراضي المحتلة، فإن مصالح إسرائيل هي التي حسمت هذا النقاش، لصالح الانفصال الأحادي، أو الانسحاب من طرف واحد، وهو في كل الأحوال انسحابا محدودا ومشروطا. وإذا كان الانسحاب من غزة يمكن أن يحتسب بمثابة هزيمة لإسرائيل، بمعنى ما، فإن التدقيق في استثماراته السياسية الاستراتيجية، من قبل إسرائيل، يمكن أن يكبح جماح أي شعور بالنصر عند الفلسطينيين، ذلك أن إسرائيل، في الحقيقة، انسحبت من 1 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية 360 كم فقط، ومن 6 بالمئة من مساحة الأراضي المحتلة عام 1967، ولكنها في ذلك تخلصت من عبء السيطرة على 1.5 مليون فلسطيني، في منطقة تعتبر من أكثر مناطق العالم اكتظاظا بالسكان، وتفتقر للموارد الطبيعية. الأهم من هذا كله أن إسرائيل تخلصت في انسحابها هذا من عبء قطاع غزة، الديمغرافي والسياسي والأمني والاقتصادي والأخلاقي، ورمت للعالم مبادرة مراوغة تحسّن فيها مكانتها وصورتها، وتساهم من خلالها في حماية طابعها كدولة يهودية. المعنى أن انسحبت إسرائيل، من قطاع غزة، بسبب مصالحها أساسا، وأيضا بسبب صمود الشعب الفلسطيني، وممانعته الاحتلال والاستيطان، بوسائله العادية الشعبية، وليس بالضبط تحت ضغط عملية تحريرية مسلحة. فالمقاومة أشمل وأوسع وأعمق من مجموع عمليات عسكرية، وهي نتاج فعل كتل شعبية واسعة، أكثر بكثير من كونها نتاج مجموعة من المحترفين العسكريين. ويمكن التدليل على ذلك من تفحّص الإحصاءات، حيث سقط في قطاع غزة، منذ احتلاله في جوان (1967) 230 إسرائيليا، بين مستوطنين وجنود، بينهم 124 إسرائيليا لقوا مصرعهم في السنوات الخمس من المواجهات الانتفاضة الثانية)، ضمنهم سبعة فقط قتلوا بنتيجة إطلاق الفلسطينيين لأكثر من 500 صاروخ محلي الصنع على المدن الإسرائيلية المتاخمة للقطاع، وكل ذلك من أصل 1040 إسرائيليا لقوا مصرعهم خلال هذه الفترة. (هآرتس أوت 2005 ويستنتج من ذلك أن الخسائر البشرية ليست لوحدها التي حفزت إسرائيل على الانسحاب من القطاع، كما قدمنا، إذ أن مقتل 230 إسرائيليا في القطاع، خلال ما يقارب أربعة عقود من الزمن لا يشكل ثمنا أو دافعا معقولا لوحده للانسحاب. ثم إذا كان الأمر يحتسب بالخسائر البشرية، لكان الأولى بالنسبة لإسرائيل الانسحاب من الضفة، التي خسرت فيها حوالي 900 من الإسرائيليين خلال فترة الانتفاضة، مقابل 124 فقط في قطاع غزة. أما محاولة الفلسطينيين إحداث خرق في السياسة الفلسطينية المعتمدة منذ اتفاق أوسلو، بدفع من فوز حماس في الانتخابات التشريعية، فهي لم تنجح البتة، مثلما لم تنجح تجربة المزاوجة بين الانتفاضة والمفاوضة 20002005، ذلك أن إسرائيل، مدعومة بالواقع الدولي والإقليمي، استطاعت أن تفرض نوعا من العزل والحصار على الحكومة التي شكلتها حركة حماس، ما أضعف الكيان الفلسطيني الناشئ، وبيّن ضعف امكانات الاستقلال السياسي في الظروف والمعطيات الراهنة، بدون إيجاد تفاهمات سياسية معينة مع الطرف الإسرائيلي. وهنا يبدو أنه ثمة ناحية أخرى غابت، في ظل المبالغات الفلسطينية، وهي أنه ثمة من الأصل نوع من مخاتلة في موضوع الانسحاب من غزة، ذلك أن إسرائيل مازالت تسيطر على مختلف أنشطة الحياة في ذلك القطاع، من الماء إلى الكهرباء إلى الطحين إلى المحروقات، وهي أحاطت بالقطاع من كل حدب وصوب، من البر والبحر والجو، وفرضت طوقا من الحصار عليها، من دون أن تترك للفلسطينيين حق الاعتراض أو حق تقرير مصيرهم في القطاع، فهي التي حددت المعابر والمداخل والمخارج، وكمية التموين ونوعيته، وقنوات التمويل وأغراضه، ونمط العلاقات مع العالم الخارجي، واحتفظت بحقها في «تأديب» القطاع، بما في ذلك حق اقتحامه أو اجتياحه متى شاءت، ومتى وجدت الفرصة سانحة لذلك! هكذا ثمة أهمية للفلسطينيين لمراجعة سياساتهم وأشكال عملهم وعلاقاتهم الداخلية، لحماية الإنجاز المتحقق في انسحاب إسرائيل من غزة، وتطويره والبناء عليه، وإلا تحول هذا الإنجاز إلى عبء، أو كارثة وطنية، وهو ما تعمل إسرائيل عليه، للتملص من عملية التسوية نهائيا، ولتأكيد وجهة نظرها بأنه ليس ثمة شريك فلسطيني للتسوية، وان الفلسطينيين غير مؤهلين لإدارة أوضاعهم بعد!