غيب الموت منذ أسابيع قليلة صديقنا المحامي الاستاذ الهادي بن محرز وهو في عزّ العطاء. ولئن غادرنا الاستاذ الهادي جسدا، فإن روحه ترفرف حولنا، في كل مكان، وخاصة في الامكنة التي تعوّد الرجل النضال انطلاقا منها من اجل الناس، من اجل المحرومين، من اجل الحق ومن اجل الحرية. أمكنة الاستاذ الهادي بن محرز كثيرة ولا يكفي المجال لتعدادها ولكن دعونا نقول أنها الجامعة واتحاد الطلبة بما كان يعنيه من نضال من اجل اعادة الأمور الى نصابها عبر الهياكل المؤقتة وغيرها من الأطر التي ادت في وقت غير بعيد الى اعادة ما لقيصر لقيصر وهياكل المحاماة وقاعات المحاكم، اضافة الى أطر أخرى لمع فيها الاستاذ الهادي لا فقط بهدوئه المعهود ولكن برصانته ورجاحة عقله وقدرته الفائقة على النفاذ الى حيث مكامن الداء والى حيث الحلول اللازمة. حزنت شخصيا على فراقه، ولو أنني لم أعرفه عن قرب إلا لماما وزاد حزني أنني لم أعلم بوفاته الا مؤخرا وفاتني بالطبع أن أقوم بواجب العزاء في الوقت المناسب لأصدقائه وزملائه وأصدقائنا المشتركين وللعائلة بطبيعة الحال وخاصة لزوجته، صديقتنا الفاضلة الاستاذة نجاة اليعقوبي وصديقة جريدة الشعب حيث كتبت فيها العديد من المرات وأجابت عن أسئلتها ودافعت عنها كذا مرة. وعزائي ان صديقنا المشترك، الذي خسرته الصحافة وكسبته المحاماة الاستاذ محمد صالح التومي أمدّني بنص كان ألقاه بمناسبة احياء أربعينية الراحل والاستاذ الهادي بن محرز وتكريما لروح هذا الأخير ووفاء له، ننشر فيما يلي كلمة الاستاذ محمد صالح التومي، مع تجديد تعازي كافة الاسرة العاملة في الجريدة الى عائلة الفقيد وخاصة الى العزيزة نجاة اليعقوبي. الهادي بن محرز كما عرفته محمد صالح التومي عرفت الفقيد أول ما عرفته موظفا منتدبا لتمثيل المكلف العام بنزاعات الدولة في أروقة المحاكم وجلساتها، وقد سبقته شهرته كمناضل بالاتحاد العام لطلبة تونس في فترة الحظر والمنع التي كانت مسلطة على هذه المنظمة الطلابية. كانت معرفتي هذه بالفقيد في أواسط الثمانينيات من القرن الذي مضى على ما أذكر الآن، وقد بقي في ذاكرتي كموظف منضبط في أدائه لمهمته تلك، وكشخص ودود في علاقاته بالآخرين يتعامل مع المحامين بالخصوص وهو الذي سينتمي الى سلكهم فيما بعد بكامل اللياقة والاحترام. وقد توطدت علاقة الاخوة والعمل بيننا بحكم تربصه لدى الزميل الفاضل الاستاذ علي عبد الكبير، لأن مكتب الاستاذ عبد الكبير كان يوجد بالطابق الاول من البناية الكائنة ب 38 شارع باب بنات حيث كان يوجد مكتبي بالطابق الثاني من تلك البناية. وقد انضم الفقيد مباشرة ومنذ اللحظات الاولى لالتحاقه بالمحاماة الى الطاقات التقدمية والديمقراطية المنتمية للقطاع لينسق معها ويجعل جهده جزءا من جهده، قانبرى بكل ما أوتي من طاقة للنيابة في قضايا الحريات العامة والفردية مدافعا عن المضطهدين السياسيين، رافعا صوته ضد اي خلل إجرائي أو أي خرق للقانون أو أي ضغط مادي أو معنوي يسلط على أي متهم ويمنع من محاكمته محاكمة عادلة. وأذكر هنا أنه كان برفقة الجميع في تلك القضايا أينما توجهت السيارات الى مختلف أنحاء البلاد كما هو دأبها الى اليوم في تلك الفترة التي كثرت فيها المحاكمات وطالت أشخاصا كثيرين من النشطين في الميدان السياسي والنقابي والجمعياتي. والحق أقول هنا انه كانت له ميول خاصة للدفاع عن الحق النقابي حتى إنه خصص محاضرة ختم التمرين التي قدمها لموضوع الاضراب غير القانوني في مجلة الشغل التونسية. وقد كان مكتبه الذي افتتحه بعد ختم التمرين بباب سويقة ثم بنهج غانا قبل عودته الى باب بنات، من ضمن المكاتب المفتوحة لتنسيق مواقف الزملاء في تلك القضايا او في غير ذلك من المسائل المتعلقة بالحياة المهنية والنقابية للمحامين. وأراني مجبرا هنا وبعدما وقع ذكره على الاشارة الى ان الاستاذ الهادي بن محرز كان ينتمي الى اليسار التونسي عموما ولكنه كن يتعاطف في بدايته تلك مع فصيل صغير منشق عن تنظيم العامل التونسي كان يسمّى شق المعارضة أو شق 77، وقد اضمحل ذلك التنظيم الآن كما اضمحل الانشقاق المتولد عنه، ولكنه بقي منهما موقف للأستاذ الهادي بن محرز لابد من ذكره وذلك لرسم معالم شخصيته أمامكم بكامل الأمانة ويتمثل في وقوفه بصلابة وبتماسك ضد موقف شق المعارضة الذي كان يتعاطف معه، وذلك حين رأى عدد من هؤلاء حل أنفسهم والانضمام الى دواليب السلطة بعد 1987 تجسيما لما اقتنعوا به، وهنا فقد اختار الفقيد ان يبقى في صف الممانعة والمعارضة الذي اختارهما عموم اليسار التونسي. وهكذا فقد بقي كما عرف لدى الجميع المدافع عن حرية التعبير والرأي ضد أي تجاوز والممضي على العرائض والمساهم في بلورة التوجهات المستقلة ودعمها وتجسيمها على أرض الواقع وخاصة بقطاع المحاماة. ولعلني أريد أن أصل بعد هذا الى التذكير بأن الفقيد كان من العاملين في الحقل الجمعياتي، وكان من الذين فهموا مبكرا ان النظام الاستعماري في طوره العولمي يتصرف بصفة أخطبوطية: فهو يضع الحكومات التي ترضى بذلك في موضع التبعية ويستولي من خلالها على خيرات الشعوب، لكنه يمد ايضا يده الى بعض الاشخاص المحسوبين على المستقلين والعاملين في حقل المجتمع المدني وذلك لإغرائهم بواسطة المال المشبوه واستقطابهم تنفيذا لسياساته متعددة الأوجه والاشكال. وقد كان الفقيد هنا باحثا لا يكل عن نقاوة الموقف الوطني ولا يتوانى عن المساهمة في الاشارة الى اي موقف قد يشتم منه التطبيع مع العدو الصهيوني او ممالأة المصالح الاستعمارية سواء كان ذلك الموقف رسميا او صادرا عن بعض العاملين في حقل المجتمع المدني. هذا هو الفقيد وفي عجالة كما عرفته: مدافعا عن الحقوق السياسية والنقابية، مصرا على حرية ضميره، وحساسا للمسألة الوطنية. ولقد كان في مواقفه هذه كلها رصينا، هادئ الطباع كما هو اسمه، لا يذهب به الحماس بعيدا الا عند دفاعه عن المبادئ والقيم السامية. ولعله من دواعي شرفي وأنا أختم هذا الكلام أن أقول أن كراءه لآخر مكتب عمل فيه بشارع باب بنات قد جعله جارا قريبا بالنسبة الى شخصي فتنامي تعاطفنا انسانيا وفكريا ما يجعلني وعن جدارة تامة في هذه اللحظات الأليمة أشارك الجميع لوعة فراقه من خلال هذه الكلمة الموجزة التي شرفتني الاستاذة نجاة اليعقوبي بمطالبتي بإلقائها. ولكننا نعرف مهما كانت لوعتنا ان الموت حق مثلما نعرف ان الوفاء حق كذلك. فلعلنا بإقامة هذه الأربعينية التي أشكر مجلس هيئتنا على تنظيمها نكون قد أدينا جزءا من واجب الوفاء نحو فقيدنا. ألا طابت ذكراك يا أيها الصديق الذي رحل؛ وكل العزاء لنا جميعا في ان مواقفك ستعيش بعدك الى جانب كل الذين يواصلون رحلة الحياة وأتعاب المسيرة وآمالها.