صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لبنة جديدة ومحطة لاستشراف المستقبلفي ما يلي النص الكامل لتقرير الأمين العام الى المؤتمر
الامين العام في تقريره الى المؤتمر
نشر في الشعب يوم 16 - 12 - 2006

على بركة الله نفتتح أشغال المؤتمر الواحد والعشرين للاتحاد العام التونسي للشغل، ويسعدني ونحن نتهيأ لإضافة لبنة جديدة إلى صرح هذا الاتحاد العظيم، أن أعرب لكم عن بالغ اعتزازي بالوقوف أمام نواب عمال تونس بالفكر والساعد لنرسم معا صفحة جديدة في سجل هذه المنظمة التاريخية العريقة التي تحتفل هذه السنة بمرور ستين عاما على انبعاثها وهي لا تزال شابة تتجدّد باستمرار من حقبة إلى أخرى ومن مؤتمر إلى آخر.
والأكيد أنّ المؤتمر العام للاتحاد ليس فقط مناسبة للتقييم وانتخاب مكتب تنفيذي جديد، بل هو أيضا محطة لاستشراف آفاق المستقبل وبلورة الخطط النقابية للمرحلة القادمة، فإذا كان من غير المقبول الحكم على القيادة النقابية المتخلية دون تقييم أدائها خلال الفترة النيابية المنقضية، فإنّه كذلك من غير المقبول انتخاب قيادة جديدة وتكليفها بتسيير شؤون المنظمة خلال السنوات الخمس القادمة دون توضيح الرؤية المستقبلية والاتفاق على برنامج مرحلي متكامل.
ولعلّ حرصي على أن يكون مؤتمرنا هذا موجها نحو المستقبل هو الذي حملني على صياغة هذا التقرير العام الذي حاولت فيه وانطلاقا من وثيقة التقرير الأدبي ومشاريع اللوائح المعروضة عليكم، رصد خارطة التحديات المحفّة بالعمل النقابي وتوضيح رؤيتنا للرهانات المنتظرة وضبط أولوياتنا القادمة بما ينير لنا سبل النضال في السنوات المقبلة ويعزز ثقة الشغالين في هذه المنظمة ويدعم مكانتها في المجتمع وإشعاعها في الساحة النقابية الدولية وينمي فخرنا وجدارتنا بمواصلة تحمّل هذه الأمانة الغالية التي وضعها بين أيدينا جيل التأسيس والأجيال المتعاقبة.
مكاسبنا.. منطلقنا لبناء المستقبل
إنّنا اليوم نقف أمامكم أنتم نواب الشغالين بكامل البلاد لنختتم ونقيّم فترة نيابية عادية ونرسم معا ملامح الفترة المقبلة، انطلاقا من التمشي الذي اعتمدناه في تطبيق قرارات وتوجهات مؤتمر جربة.
وفي الحقيقة لقد بدأ هذا المسار منذ سبتمبر 2000 إثر انطلاق عملية التصحيح النقابي التي جسّدت إرادة النقابيين في مصالحة الاتحاد مع المبادئ التي إنبنى عليها، ولقد توّجت هذه الفترة التمهيدية بعقد المؤتمر الاستثنائي بجربة في فيفري 2002 الذي كرّس عودة المنظمة الشغيلة بقوّة على الساحة الوطنية من خلال تأكيده على تعزيز استقلالية الاتحاد وتنمية العلاقات مع المجتمع المدني والالتزام بالقضايا العربية العادلة.
عادية ونرسم معا ملامح الفترة المقبلة، انطلاقا من التمشي الذي اعتمدناه في تطبيق في عيون التونسيين، تلك الصورة التي رسمتها في الذاكرة النقابية والوطنية تضحيات للرهانات المنتظرة وضبط أولوياتنا القادمة بما ينير لنا سبل النضال في السنوات المقبلة والحبيب عاشور.
اللوائح المعروضة عليكم، رصد خارطة التحديات المحفّة بالعمل النقابي وتوضيح رؤيتنا للمرحلة التي نعيشها وطنيا ودوليا وكيفية تفاعلنا مع الواقع الجديد، فنحن لم نطلق وعودا غير قابلة للتحقيق ولم ننجرّ وراء تيار التصعيد الديماغوجي، بل كان هدفنا ترشيد العمل النقابي والمحافظة على اتحادنا في مستوى مسؤولياته الوطنية بوصفه ركيزة أساسية تحمي توازن المجتمع ودعامة هامة للتطور الديمقراطي ولاستقرار تونس ومناعتها. ولم يكن من اليسير لاتحاد عتيد ساهم في تحرير البلاد وبناء الدولة العصرية وخاض نضالات مجيدة في سبيل الحرية والعدالة أن يوفّق بين المحافظة على الصورة الناصعة التي رسمتها تضحيات العقود الماضية وما تستوجبه العولمة والتقلّبات التي تهدّد اقتصاد البلاد بالاتحاد من مجموع الأجراء العاملين بهذا القطاع 15%.
لقد عملنا سويا بكل جدّ ومسؤولية طيلة هذه السنوات الخمس، وكانت لها خلالها مواعيد هامّة من أبرزها دورات التفاوض والاحتفال بستينية تأسيس اتحادنا ، كما نجحنا في تحصين القدرة الشرائية للأجراء عبر زيادات سنوية منتظمة وشدّدنا من خلال نضالات عديدة على دور القطاع العام في ضمان التوازن الاقتصادي واستنفرنا الكثير من الخبرات إلى العاملين في مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية.
إنّ حصيلة المكاسب التي تحققت خلال السنوات السابقة والتي أوردناها مفصّلة في التقرير الأدبي هي منطلقنا لبناء المستقبل وهي الأرضية لمزيد تطوير أداء المنظمة.
وعلينا اليوم أن ندرك أننا نتحرك وسط تيار جارف يهدد بنسف معظم مكاسب العمال، فنحن لم نخطئ عندما اخترنا عبارة الصمود ضمن شعار هذا المؤتمر لأننا نعلم أن أكبر تحدي يهدد مستقبلنا هو تحدي البقاء والتطور، تحدّي الاستمرارية والتجدد، تحدّي فرض الذات في مواجهة سعي العولمة المحموم لإضعاف النقابات وتهميش كل أشكال الصمود الاجتماعي والنضال النقابي.
ولسائل أن يسأل لماذا كلّ هذا التخوف؟ لماذا نخشى العولمة وقد قهرت منظمتنا كل الصعاب وتخطت أشد المحن؟ وما الداعي لتهويل المخاطر المحدقة بنا ومنظمتنا شامخة منذ ستين سنة ومترسّخة في واقع عمالنا وشعبنا برغم تعاقب الحقبات التاريخية؟.
إنني في الحقيقة لا أهاب ما تخفيه لنا التحولات الجارية من مصاعب لأننا معشر النقابيين تربيّنا في هذه المنظمة السخيّة على قيم الصمود والثبات والتضحية، لكن ما أخشاه هو ذلك الغرور الذي عادة ما يعتري المنظمات العريقة ويبث في شرايينها وفي نفوس أبنائها مشاعر الاكتفاء الذاتي والتباهي بالمنجزات ويحول دون تجديد فكرها واستنباط الحلول الملائمة لقضايا الساعة بما يفضي بها إلى حالة من الانزواء والانقطاع عن حضرات الضيوف الأعزاء،
لقد كسبنا مشروعية البقاء وتوفقنا على مرّ العقود السابقة في تغذية روح هذا الصرح النقابي العتيد لأننا امتلكنا في كل مرحلة مفاتيح التجديد من خلال فهمنا الجيّد للمستجدات واستيعابنا لمتطلباتها عبر مزيج من النضال والواقعية بعيدا عن الشعارات الفضفاضة وغيرها من أشكال التحجر التي عصفت بالكثير من المنظمات التاريخية في ومتعلّق بقيم الحداثة والديمقراطية.
وعلينا اليوم أن نطرح الأسئلة الحارقة التي قد تزعج طمأنينة النقابيين وتثير في نفوسهم الحيرة، لكنّها تفتح أعينهم أمام حجم التحديات وتنمي وعيهم بجسامة المخاطر المحفة بهم كما تذكّي قدرتهم على استباق المتغيرات والتأثير فيها وتحرر إرادتهم من كلّ وركنا ثابتا في العلاقات الشغلية وواقعا مترسخا غير قابل للانتكاس.
المشاركة.. المظهر الرئيسي للديمقراطية الإجتماعية
إذا كانت تحديات العولمة تكمن أساسا في المعضلة الاجتماعية، فإنني على يقين أن جسامة تلك التحديات تكمن أوّلا وبالذات في تلك المخاطر التي تحفّ اليوم بالعمل النقابي وتضع مشروعيته وجدواه محلّ تساؤل.
لذلك سوف أنطلق من الأسئلة التالية باعتبارها تختزل في نظري مجمل التحديات عمال المنشآت الكبيرة والمتوسطة الذين تسهل عملية تنظيمهم.
أي دور للنقابات في ظل تنامي موجة العولمة وأي تأثير للفعل النقابي في ضوء تقلّص فرص التشغيل وبروز الأشكال الهشّة للعمل وما يرافقها من تفاقم مظاهر الإقصاء مواطن الشغل
وأيّة مكانة للحقوق الاجتماعية في ظلّ النظام الاقتصادي الجديد بما يحمله من إهمال لمقتضيات العدالة والتكافل مقابل تدعيم القدرة التنافسية للمؤسسة وتحرير السوق؟
إذا كان الفكر الليبرالي التقليدي قد سعى منذ القرن التاسع عشر إلى نفي مشروعية الفعل النقابي، فإن نضال النقابات وتنامي الدور التعديلي للدولة بعد الحرب العالمية الثانية قد سهّل تجاوز تلك النظرة الضيقة للعلاقات المهنية والإقرار بالحق النقابي باعتباره حقا أساسيا للعمال لتعديل شروط العمل وأداة ضرورية لتحقيق المواطنة الاجتماعية.
غير أن المعطيات تغيرت اليوم بحكم ما تفرضه العولمة من تقلص لدور الدولة في المجال الاجتماعي مما يضع النقابات أمام صعوبات حقيقية في المحافظة على إشعاعها السابق، خاصة مع بروز نظرة جديدة للعلاقات المهنية تعطي الأولوية لتدعيم القدرة التنافسية للمؤسسة، ولعل السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه في هذا الصدد هو إلى أي حد يمكن للنقابات أن تواكب هذا الواقع الجديد دون أن تفقد وظيفتها الطبيعية في الدفاع عن حقوق الأجراء ومصالحهم المادية والمعنوية؟
وبرغم ما قد تثيره الأسئلة السابقة من نزعة تشاؤمية فإنه لا بدّ من التأكيد بأنّ العولمة إنّنا لا نتطلع إلى دراسات أكاديمية وإنما نريد توفير مادة علمية تعكس اهتمامات الإيديولوجية الجامدة والتركيز على الدراسات العلمية وتكثيف التعاون مع القوى الوطنية لذلك لا بد من إيلاء مهام التثقيف والتوعية والتكوين كلّ الأهمية والابتعاد عن الرؤى تدافع بشدّة عن مصالح منظوريها غير أنه ينبغي الاعتراف بأنها تمتلك إمكانيات محدودة الجذرية التي طرأت على عالم الشغل وعلى علاقات العمل.

المواجهة الفكرية والإعلامية
إن النقابات تواجه اليوم حملة فكرية منظمة تحت عنوان «الجدوى» و «حرية السوق» تحاول التأكيد بأن المنافسة هي السبيل لتحقيق الرفاه، وهي تتهم النقابات بأنها مسؤولة عن انعدام فرص العمل الجديدة برفضها للمرونة وتمسكها بالضمانات الاجتماعية.
وإزاء هذه الهجمة العنيفة التي تتعرض لها مكاسب العمال يتوجب على النقابات أن تدافع بشدّة عن مصالح منظوريها غير أنه ينبغي الاعتراف بأنها تمتلك إمكانيات محدودة مقارنة بما يتمتع به رأس المال من مصادر قوّة. لذلك فإن النقابات مطالبة بأن تتحرّك بأكثر حزم لتفنيد تلك الآراء المعادية للعمل النقابي وفضح مراميها الحقيقية، وللتوصل لذلك لا بد من إيلاء مهام التثقيف والتوعية والتكوين كلّ الأهمية والابتعاد عن الرؤى الإيديولوجية الجامدة والتركيز على الدراسات العلمية وتكثيف التعاون مع القوى الوطنية والجمعيات التي تشاطرنا نفس الاهتمام.
إنّنا لا نتطلع إلى دراسات أكاديمية وإنما نريد توفير مادة علمية تعكس اهتمامات المنظمة ومشاغلها طبقا لأهدافها المرحلية وعلينا تعبئة كافة الطاقات من اجل توفير الإمكانيات الضرورية لبعث معهد حشاد للدراسات والثقافة العمالية وتركيز شبكة قارة من الخبراء والمكوّنين بما يوفر للعمل الدراسي والتكويني بمنظمتنا كل الشروط العلمية والهيكلية الملائمة ويوفر لجيل الشباب النقابي فضاء علميا للتسلح بالمعرفة ويدعم مصداقية منظمتنا كشريك كفء في عملية الحوار والتنمية.
كما يتوجب علينا تدعيم الدور الإعلامي الذي تضطلع به جريدة الاتحاد في التعريف بالنضالات العمالية ونشر مبادئ الفكر الاجتماعي النيّر والعمل على تنويع أدوات الاتصال والإعلام النقابي وتحديث موقع واب للاتحاد على شبكة الأنترنيت والنضال من أجل تكريس حق الاتحاد في التمتع بحيّز إعلامي في مؤسسة الإذاعة والتلفزة الوطنية.
إنّ النضال على الساحة الفكرية والإعلامية مهمّ جدا اليوم لدحض مزاعم الليبراليين الجدد وعلينا أن نكسب مزيد التأييد لأفكارنا وذلك بالسعي إلى تشكيل قوى ضاغطة مع سائر القوى المنتجة التي يهددها انفتاح الأسواق مثلما يهدّد العمال لحماية الإنتاج الوطني وإرساء ضوابط للحرية التجارية وإنجاز دراسات مشتركة حول القطاعات الاقتصادية المتأثرة بنتائج التحرير التجاري وانعكاس مجمل هذه التأثيرات على الاقتصاد الوطني.
الاستقلالية... معركة مستمرة
إن النقابات تواجه اليوم تحديا تاريخيا يتمثل في مدى قدرتها على تعزيز موقعها في عالم الشغل في مناخ يتسم بحرية السوق، وهو امتحان عسير ليس لها فيه سوى خيار وحيد هو أن تجتازه بنجاح، فهي أولا مطالبة بان تقوم بمراجعة شاملة لأوضاعها الداخلية، ولكنّها مطالبة أيضا بتحديد موقف واضح من قضية أثرت دوما على استقلالية قرارها، وهي أين يجب أن تقف من الدولة ومن الشركاء الاجتماعيين ومن المجتمع المدني عموما؟
وقبل الإجابة على هذا السؤال الحيوي أقول أننا لسنا من دعاة السلبية في هذا المجال فنحن لا نريد لهذه الصلات أن تنقطع، ولا نريد للنشاط المدني للنقابات أن يتوقف، بل نحرص أن تظل النقابات قوى فاعلة في هذا النشاط، وأن تظل الصلة قائمة بينها وبين مختلف القوى الحية بالبلاد.
ولكن ما نريده هو أن تحتفظ المنظمة العمالية بهويتها ودورها الحر مستقلة تماما عن الحكومة والأحزاب والجمعيات، دون أن يعني ذلك انتهاء النشاط السياسي للمنظمة النقابية.
ويتعيّن على الدولة أن تعي تماما أن تنمية شراكة اجتماعية حقيقية يتوقف إلى حدّ كبير على استقلالية الحركة النقابية التي تعتبر عاملا أساسيا في تشجيع التقدم الاجتماعي، فحين تنهض النقابة بقوتها الذاتية وحين تتخذ قرارها باستقلالية تامة، حينذاك تكون قادرة على أن تكون طرفا فاعلا في علاقات اجتماعية مثمرة.
ولكي تستطيع النقابة أن تلعب هذا الدور بطريقة مفيدة فلا غنى على أن تكون مشاركتها في مناخ من الحرية، وطبيعي أن يرتبط تحقيق مثل هذا المناخ بسيادة الديمقراطية، ولهذا فإننا لا يمكن أن نتحدث عن حقوق نقابية وحوار اجتماعي فاعل بمعزل عن الهامش المتوفّر من الديمقراطية.
إن إيماننا بأن الديمقراطية هي دعامة للتنمية يجعلنا نلتقي مع سائر القوى التي تشاطرنا نفس المبادئ، لذلك وقفنا إلى جانبها في مجمل القضايا التي تتوافق وهذه المبادئ، كما فتح الاتحاد ذراعيه لنشطاء الجمعيات المدنية ومناضلي الأحزاب السياسية دون تمييز أو إقصاء والاتحاد يفخر بوجود هؤلاء المناضلين والمناضلات من أبنائه وبناته في صفوفه ويقدّر إضافاتهم والتزامهم بالمبادئ النقابية في كنف التعايش الديمقراطي.
غير أنه يجب التأكيد أنّ الاتحاد لا يمكنه أن يؤدي دوره في دفع مسار التحول الديمقراطي إلا من خلال الاضطلاع بوظيفته الأساسية كنقابة تؤطر الأجراء بالفكر والساعد وتناضل من اجل تحسين مستوى عيشهم وظروف عملهم، لذلك نؤكد ان التزامنا بالديمقراطية وتفاعلنا مع القوى الوطنية ومكونات المجتمع المدني لا يعني أن نحلّ محلها لأن اختلاط الأدوار يعود بالضرر على الجميع ويكون الخاسر الأكبر هما العمال والديمقراطية على حد السواء. وعلى هذا الأساس رفضنا ولا نزال إقحام الاتحاد في الصراعات السياسية بين الأحزاب لأن ذلك سيمزق بالتأكيد وحدة الاتحاد وتضامن النقابيين. وتجسيدا لمواقف الاتحاد الثابتة تجاه المسألة الديمقراطية، دعونا إلى تطوير الإعلام الوطني الذي ظل غير قادر على مواكبة التحولات التي يعيشها مجتمعنا والثورة الاتصالية العارمة التي يشهدها العالم، كما طالبنا بحل سياسي لأزمة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ودعونا إلى حوار وطني صريح لحماية هذا المكسب الوطني من الانحلال وتغليب منطق الوفاق والحوار على المعالجة القضائية والممارسات الفئوية، إلى جانب رفضنا لطريقة انتخاب النقابيين في مجلس المستشارين باعتبارها تتناقض مع استقلالية الاتحاد، ولأنها مواقف جريئة ومسؤولة فقد وجدت كل التقدير من جميع القوى الحية بالبلاد لأنها كانت نابعة من الحس الوطني للاتحاد وهدفها الارتقاء بالحياة الديمقراطية وحمايتها من كل أشكال الانغلاق والتهور وكذلك تحصين الوطن ضد الأطماع الخارجية وغيرها من التوظيفات السياسوية التي تتعامل مع الواقع بنظرة عدمية تتجاهل مكاسب البلاد وتسيء لسمعتها.
إن الديمقراطية جزء لا يتجزأ من سعي شعبنا نحو التقدم والرقي، وهي في كل الحالات حوار تونسي تونسي بحت، لذلك رفضنا ولا نزال كل التصرّفات التي تنال من حرمة الوطن وستظل هذه المنظمة ثابتة في التزامها الوطني رافضة لكل أشكال التطرّف والجذب إلى الوراء، وملتزمة بقيم الحداثة والحرية والاعتدال التي أرساها المصلحون التونسيون ورموز الكفاح الوطني والاجتماعي.
إن الاستقلالية هي جوهر العمل النقابي وهي معركة دائمة ومستمرة وليست أمرا محسوما كما يخال البعض وقد شاهدنا كيف تعجز النقابات الخاضعة للسلطة أو التابعة لحزب ما ليس فقط على تحقيق طموحات العمال بل وتعجز كذلك على حماية وحدتها ووجودها، وبالمقابل بقي اتحادنا شامخا، مناضلا وموحدا رغم الأزمات ومحاولات الإخضاع والتقسيم التي تعرض لها وبخاصة سنوات 65 و 78 و 85، ولقد خرج الاتحاد من كل هذه الأزمات أكثر وحدة بفضل وفاء مناضليه للمبدأ الأساسي الذي انبنت عليه الحركة النقابية التونسية منذ تجربة محمد علي الحامي الرائدة، وهو مبدأ الاستقلالية.

الديمقراطية الداخلية... درعنا ضدّ التعدّدية النقابية
إذا كنت تحدّث منذ حين عن استقلالية القرار النقابي في علاقة بالدولة والمجتمع المدني، فإنه لا مفر من التعرض إلى إشكالية التعددية النقابية خاصة وأن الديمقراطية عادة ما تقترن في الأذهان بالتعددية السياسية وكذلك النقابية.
إنّنا في الاتحاد العام التونسي للشغل لدينا موقف واضح من هذه المسألة، ولا نعتقد بوجود علاقة وجوبية بين الديمقراطية والتعددية النقابية، وفي كثير من البلدان فإن هذه التعددية إنما هي انعكاس لمتطلبات العمل الحزبي وليس النقابي، وقد بعثت العديد من المنظمات النقابية لتكون قاعدة انتخابية لبعض الأحزاب، وهو ما يتنافى مع جوهر الفعل النقابي.
وكثيرا ما سألنا أصدقاؤنا في الحركة النقابية العالمية عن موقفنا من هذه المسألة والبعض منهم لا يفهم كيف نبدي حزما فائقا في الدفاع عن الديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية السياسية وفي ذات الوقت نرفض أو بمعنى أدقّ لا نجاري تيار التعددية النقابية.
إن التشريع التونسي لا يمنع تعدد النقابات وبرغم ذلك فقد استأثر الاتحاد العام التونسي للشغل ولا يزال بالفكرة النقابية ولم يكتسب مشروعية تمثيل العمال بقرار حزبي أو سياسي أو قانوني، وسأكون واضحا وصريحا إلى أبعد الحدود في تناول هذه المسألة.
فبالرغم من إيماننا الشديد بان للتعددية آثارا سلبية على الحركة النقابية متى تحولت إلى وسيلة لتمزيق وحدة الشغالين وتشتيت صفوفهم وإضعاف فاعليتهم، فإننا لا ننكر أن للوحدانية النقابية آثارا سيئة على العمل النقابي عندما تتحول إلى مرادف لسيادة المركزية المشطّة والرأي الواحد وإسكات الصوت المخالف واحتكار المسؤولية.
ولعل وعينا بمثل هذه المنزلقات هو الذي جعلنا نحرص على تعزيز وحدة منظمتنا مع توليد حيوية ديمقراطية في صلبها، أي أننا راهنا على التعددية داخل الاتحاد ولم نجعل التعددية غاية في حد ذاتها، وإنما وسيلة لتنشيط أداء المنظمة وتفعيل دورها في الدفاع عن مصالح العمال، فليس الاختلاف ما يلغي وحدة الصف النقابي وليس الوحدة نفيا للاختلاف بين النقابيين.
ولم يكن من السهل كسب رهان الديمقراطية الداخلية، فلا يخفى عليكم أن الكثير من المنظمات النقابية العريقة في العالم عاشت في داخلها أزمات ديمقراطية حادّة فانعزلت عن قواعدها ولم يبق لها سوى التفاخر بالماضي الزاهر.
غير أن الاتحاد العام التونسي للشغل تفطّن لهذا الفخّ واستطاع أن يرسي في صلبه حالة من التنوع الفكري والسياسي تضاهي بل تفوق أنماط التعددية النقابية، إنّ منظمتنا تقوم على عنصرين أساسيين: الوحدة والتعدّد، وقد اخترنا لها أن تكون منظمة الوحدة في ظل التعدّد لأننّا نؤمن بأنّ الوحدة النقابية لا معنى لها إذا غابت الممارسة الديمقراطية السليمة التي تتيح لجميع الأفكار التفاعل مع بعضها البعض وتضمن للأقليات حقّها في إبداء الرأي والدّفاع عنه، وتسمح لعموم الشغالين والمناضلين بحريّة الانخراط والتعبير والانتخاب والترشّح.
إننا لم نتردد في المراهنة على الخيار الديمقراطي لأننا نؤمن بأنه صمام الأمان ضد الفئوية والتشرذم وكل أشكال الانفلات، ولم ينتابنا الشك يوما في جدوى هذا الخيار برغم تخوفات بعض النقابيين والملاحظين من أن تقود الديمقراطية إلى حالة من عدم الانسجام والتسيب لأننا نؤمن بأن الديمقراطية النقابية هي مسألة أساسية لحيوية المنظمة واستمرارها وهي الإسمنت المسلح الضامن لتماسكها، وأن تغييبها هو بمثابة الزلزال الذي يدك أسس البنايات الشامخة والصروح الشاهقة، فالديمقراطية ليست مجرد أسلوب لإدارة شؤون منظمة بمثل هذا الحجم الثقيل بل هي الحياة التي تتدفق في جسم هذه المنظمة، ومن الطبيعي أن يصاب هذا الجسم بالذبول في ظل تغييب الرأي المخالف وسدّ المنافذ أمام طموحات الشباب.
وأقولها بصراحة، لا يوجد أي قانون أو شخص أو مجموعة أو حتى منظمة برمتها تقدر على منع تيار تعدد النقابات، بل الديمقراطية الداخلية وحدها هي الحصن المتين الحامي لوحدة الصف النقابي وهي الدّرع الوحيد ضدّ التعدديّة وتقسيم صفوف العمال وهي الضامن لبقاء هذه المنظمة موحّدة وقويّة وشابة على الدوام، ولا بد أن تكون مسؤوليتنا واضحة في هذا المجال، فإذا ما أردنا أن تظل منظمتنا موحدة وممثلة لكافة الشغالين وذات مصداقية عالية، ينبغي علينا أن نرفض كل أشكال الانغلاق واحتكار المسؤولية وتهميش القواعد النقابية وأن نفتح أبواب الانخراط والمشاركة في صنع القرار النقابي أمام كل الشغالين والمناضلين وأن نتعامل مع تعدديّة الرأي والفكر بوصفها عنصر تفاعل إيجابي وليس عنصر تنافر حتّى لا نترك أي ذريعة لأي كان للحديث عن إقصاء أو تقليص للعضوية أو تضييق لمجالات التعبير بما يفشل كلّ محاولات تقسيم الشغالين ويفقد دعاة التعدديّة النقابية أيّة مشروعية.
المشاركة... المظهر الرئيسي للديمقراطية

إن المشاركة هي مقوم ضروري للمواطنة بما يعنيه ذلك من حرية التفكير والتعبير وإنشاء الجمعيات والأحزاب، إضافة إلى حق التعليم والصحة والعمل وتكافؤ الفرص، فضلا عن تنظيم العلاقات داخل المجتمع تنظيما عقلانيا من خلال توفير إطار مؤسساتي يوجّه الصراع والاختلاف لفائدة تقدم المجتمع ككل.
وهناك قناعة اليوم بان المشاركة الشعبية في إدارة شؤون المجتمع هي من أهم معايير التنمية البشرية حيث أن إرساء قاعدة متينة للنمو الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق في مناخ من الانغلاق أو بطريقة فوقية بل هي مسؤولية مشتركة بين كافة مكونات المجتمع المدني.
وبالنظر إلى التركيبة المتنوعة في المجتمع المدني فإن النقابات مدعوة لربط حوار مستمر مع جل أطراف هذه التركيبة، نقابات العمال مدعوة للتحاور مع السلطة، كما أنها مدعوة للتحاور مع نقابات الأعراف، وهي تحاور أيضا الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية وبخاصة تلك التي لها اهتمام بمجالات التنمية وحقوق الإنسان.
إن حقوق الإنسان هي في جوهرها احترام كرامة الإنسان، ولقد أصبح الترابط بين التنمية وحقوق الإنسان محور اهتمام العالم اليوم، بل هناك إجماع متزايد على العلاقة الجدلية القائمة بينهما حيث أنّ التنمية المستديمة لن تستمر في غياب الحريات العامة والفردية، كما أن الديمقراطية وحقوق الإنسان تتدعّم بالتوازي مع جهود التنمية في توفير العمل اللائق ورفع مستوى المعيشة.
وفي هذا المجال وعلاوة على توطيد العلاقات مع منظمات حقوق الإنسان فإنّ من أوكد مهامنا التحاور مع الجمعيات النسائية المناضلة من أجل تحرير المرأة من كل العراقيل التي تكبلها وتخليص المجتمع من العقليات البالية وغيرها من المفاهيم المشوهة لديننا الحنيف ولتراثنا الحضاري والتي تتعامل مع المرأة بنظرة دونية تضيّق من دائرة نشاطها في المجتمع، وعلينا في هذا السياق المبادرة بإعطاء المثل في المساواة التامة بين الجنسين من خلال تشجيع المرأة العاملة على تحمل المسؤولية النقابية بما في ذلك المسؤوليات القيادية، لأن اتحادنا كان دوما رائدا في مجال تحرير المرأة وقد تبنى منذ نشأته الرؤية الإصلاحية للمفكر التحرّري نصير العمال والمرأة على حد السواء المناضل النقابي الطاهر الحداد.
إنّنا مقبلون على فترة حاسمة تطلّب تعزيز مشاركة كلّ الطاقات الحيّة في رسم معالمها، وهو ما يقتضي تفعيل دور المجتمع المدني والأحزاب السياسية وبناء الثقة التامة بين كافّة التونسيين، وتعزيز دور الدولة باعتبارها دولة الجميع والمجسّدة للمصلحة العامّة، وخلق تآلف ديمقراطي حول ثوابت تونس ومكتسباتها بما يحمي مجتمعنا من مخاطر التطرّف والعنف ويرسّخ بلادنا في محيطها الإقليمي والدولي كبلد متوازن ومتفتّح ومستقرّ ومتعلّق بقيم الحداثة والديمقراطية.
وإنّني على يقين أنّ الدعوة التي توجّه بها رئيس الجمهورية إلى كافّة الأحزاب والمنظمات والجمعيات بالعودة إلى مبادئ الميثاق الوطني وتعميق التفكير في حاضر ومستقبل تونس هي خير مجسّد لرغبة شعبنا في تنقية المناخ العامّ من كلّ الشوائب وتنشيط الحياة السياسية والإعلامية تمهيدا لبناء تعاقد اجتماعي وتوافق ديمقراطي وإجماع وطني بشأن كبريات القضايا والتوجهات المستقبليّة للبلاد.
تعزيز الانتساب النقابي
لقد قطعنا خطوات هامة على درب عقلنة التصرف المالي والتسيير الإداري، غير أنّه لا بدّ من مواصلة تعميق هذا المدّ الإصلاحي عبر وضع برامج شاملة لتعصير الإدارة على الصعيدين المركزي والجهوي ومواصلة استكمال بناء دور الاتحادات الجهوية والمحلية وتعبئة كل الطاقات والموارد المالية لبناء دار الشغالين التي وضعنا حجرها الأساسي في ستينية الاتحاد والتي نأمل أن تتظافر كل الجهود لإنجازها خلال الفترة النيابية القادمة، إلى جانب النهوض بمؤسسات الاتحاد وتعصيرها.
لقد تغيّرت الخارطة العمالية اليوم ولم يعد مسموحا للنقابات أن تكرر نفس الخطاب وأساليب العمل التقليدية بل يتعين عليها تحديث طرق عملها والتوجه نحو الشباب العامل والمرأة العاملة وسائر أصناف الشغالين والاهتمام بحاجياتهم ومطالبهم الخصوصية وضمهم إلى الحركة النقابية لإعطائها انطلاقة جديدة تساعدها على تفعيل دورها في حركة التحول الاجتماعي.
وهنا يجب الاعتراف بأننا قصّرنا في الاهتمام بعمال المنشآت الصغيرة ومؤسسات القطاع الخاص بوجه عام، ولهذا ظل أغلبهم بعيدا عن التنظم النقابي، واكتفينا بتنظيم عمال المنشآت الكبيرة والمتوسطة الذين تسهل عملية تنظيمهم.
ويكفي الاطلاع على تركيبة العضوية النقابية باتحادنا لكي نفهم هذا الخلل الفادح في تنظيمنا النقابي، فالوظيفة العمومية والقطاع العام يتميزان بتأطير نقابي مكثف حيث يمثل أعوان الوظيفة العمومية ومؤسسات القطاع العام أكثر من نصف منخرطي الاتحاد، في حين ظلّت الكثافة النقابية ضعيفة في القطاع الخاص حيث لا تتجاوز نسبة المنخرطين بالاتحاد من مجموع الأجراء العاملين بهذا القطاع 15%.
ويجب التأكيد بان التحول الاقتصادي الذي نعيشه اليوم سيجعل إهمال تنظيم أغلبية العمال نقابيا والاكتفاء بالقطاعات التقليدية المعروفة، مؤشرا على انحسار نفوذ التنظيم النقابي الذي سيتحول في نهاية المطاف إلى أداة لتكريس تفاوت المستويات الاجتماعية في صلب الطبقة الشغيلة نفسها من خلال تهميش قضايا العمال الأكثر هشاشة، لذلك يتوجب علينا وحتى لا ينحصر العمل النقابي مستقبلا في الوظيفة العمومية والقطاع العام تطوير أساليب عملنا وإعادة بناء هيكلتنا التنظيمية وأجهزتنا الداخلية بحيث نستطيع الوصول إلى العاملين في مختلف القطاعات والأنشطة الاقتصادية.
من أجل هيكلة عصرية للاتحاد
لعلّ إن من أهم القرارات التي اتخذناها على المستوى الداخلي في مؤتمر جربة هو الدعوة إلى إعادة هيكلة الاتحاد العام التونسي للشغل، وهذا المطلب إنما يعكس وعي النقابيين بأهمية تطوير هيكلة الاتحاد التنظيمية بما يعزز الديمقراطية والعمل الجماعي في صلبه ويحول دون المركزية المشطّة ومختلف أشكال التشتت التنظيمي ويفتح الأبواب أمام الأصناف والقطاعات المهنية الجديدة.
ولقد بادرنا خلال الفترة النيابية المنقضية بصياغة مشروع لإعادة الهيكلة وشرعنا في وضعه حيّز التنفيذ عند تجديد الهياكل النقابية لكننا وقفنا على الكثير من النقائص والثغرات عند تطبيقه ولعلّ أهم درس استوحيناه من هذه التجربة هو أن إعادة هيكلة الاتحاد لا تنحصر في تجميع بعض الهياكل المتشابهة ولا تعني التخفيض من عدد القطاعات الممثلة في الهيئات المسيرة للاتحاد، بل الهيكلة الحقيقية هي ذلك الوعاء الذي يحتضن مجمل التفاعلات بين مختلف مكونات العائلة النقابية ويعكس المشهد العمالي برمّته ويتلاءم مع سياسة الاتحاد وأهدافه ويستجيب لانتظارات الشغالين في كافة القطاعات الاقتصادية.
إنّ الهيكلة التنظيمية الراهنة لا تعكس حجم التطور النقابي الذي عرفه الاتحاد في السنوات الأخيرة فهذه الهيكلة وبرغم دورها في توحيد الشغالين ومختلف القطاعات على مدى العقود السابقة لم تعد تستجيب لمتطلبات المرحلة بل تجاوزها الزمن بعد التحولات الجذرية التي طرأت على عالم الشغل وعلى علاقات العمل.
لقد تغير العالم وتغيرت معه طبيعة الاقتصاد وتركيبة المجتمع لكن هيكلة الاتحاد ظلت تقريبا على حالها منذ السبعينات. وأصبحنا وكأننا نحافظ على تراث نخشى أن يضيع في خضم المتغيرات المتسارعة ونسينا أن سنة الحياة تقتضي مواكبة مقتضيات العصر وهذا هو المقصود بالتحديث الذي لا يستثني أي مجال من مجالات العمل النقابي.
وإذا أوصيكم بتكثيف الندوات واللقاءات مع كافّة مناضلي ومناضلات الاتحاد ومنخرطيه لشرح الهيكلة الجديدة وفلسفتها التحديثية، فإنّي على يقين أنّ مشروع إعادة الهيكلة المطروح عليكم يبشّر، بما يتضمّنه من تصوّرات وصيغ تنظيمية متطوّرة، بميلاد وعاء جديد لمنظمتنا يؤهّلها لكسب رهان الحداثة والبروز كمنظمة نقابية عصرية.
الحق النقابي.. أوّلا
إن المرحلة الانتقالية الصعبة التي يمر بها اقتصادنا تحتم على جميع الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين إرساء شراكة اجتماعية على قاعدة الحوار والاحترام المتبادل، وبقدر حرصنا على المحافظة على المؤسسة ودعم استقرارها، فإننا نؤكد بأن التضامن بين مختلف الشركاء يقتضي احترام تشريعات العمل وفي مقدمتها الحق النقابي.
والأكيد أن قرار رئيس الدولة المعلن في خمسينية الاستقلال بالإذن بالمصادقة على الاتفاقية رقم 135 من شانه يدعم ممارسة الحق النقابي لاسيّما في القطاع الخاص ويحمي النقابيين من مختلف الانتهاكات.
وبقدر اعتزازنا بهذا المكسب، فإنه لا بدّ من مواصلة النضال لمزيد ترسيخ الحرية النقابية والتصدي لكل الخروقات وغيرها من الضغوطات المسلطة على العديد من النقابيين في عدد كبير من مؤسسات القطاع الخاص حتى يصبح الحق النقابي متجذرا في تقاليدنا الاجتماعية وركنا ثابتا في العلاقات الشغلية وواقعا مترسخا غير قابل للانتكاس.
كما يجب التذكير بأنّ نقصا كبيرا ما زال قائما في علاقة بممارسة الحق النقابي في مؤسسات الوظيفة العمومية وهو ما يحتّم علينا تفعيل التفاوض حول الجزء المتعلق بالحق النقابي في القانون العام للوظيفة العمومية والنضال من أجل ممارسة حق الاجتماع وحق الإعلام وغيرها من الأنشطة النقابية في المؤسسات العمومية وحث الحكومة على التصديق على الاتفاقية الدولية رقم 151 المنظمة للعمل النقابي في الوظيفة العمومية وهي مهمّة ينبغي أن تكون في صدارة أولوياتنا في المرحلة القادمة.
وكما هو معلوم فأنّ القضية الأولى التي استأثرت باهتمام الاتحاد في السنوات الأخيرة بعلاقة باحترام الحق النقابي لا سيّما في الوظيفة العمومية تتمثل في الأزمة التي عقبت تدخل القضاء في قضية التمثيل النقابي بالجامعة التونسية ورفض وزارة التعليم العالي الاعتراف بشرعية النقابة العامة للأساتذة الجامعيين.
لقد وقفنا بكل حزم إلى جانب نقابة الأساتذة الجامعيين وتمسكنا بشرعيتها وتمثيليتها وساندنا مختلف الإضرابات والنضالات التي خاضتها دفاعا عن استقلاليتها واحتجاجا على تدخل القضاء ووزارة الإشراف في الشأن النقابي الداخلي.
وبقدر ارتياحنا لفتح باب الحوار مع الجامعة العامة لأساتذة التعليم العالي والبحث العلمي المنبثقة عن المؤتمر التوحيدي لنقابات التعليم العالي، فإنّنا مطالبون بمواصلة الحزم للتصدّي لكلّ محاولات تقسيم صفوف الجامعيين.
عقلنة المفاوضات
تعتبر المفاوضات الاجتماعية أحد الأهداف الأساسية التي تناضل من أجلها الحركات النقابية في العالم، وقد ناضل الاتحاد العام التونسي للشغل على مدى العقود الماضية من أجل تكريس هذا الهدف وحمل الأطراف الإجتماعيين على التفاوض لتنظيم علاقات العمل، فكانت العقود المشتركة والقوانين الأساسية والنصوص التشريعية التي توّجت نضالا طويلا تعاقبت على ممارسته أجيال من النقابيين.
إن الفلسفة التي قادتنا في مختلف المفاوضات الاجتماعية تتلخص في جملة من المبادئ تتمحور حول التوزيع الأعدل للثروات وتأكيد مكانة الشغالين في الاقتصاد والمجتمع، ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أنه وبالرغم من التحولات التي شهدها عالم الشغل وما نجم عنها من اختلالات كبرى في موازين القوى بين العمل ورأس المال، فقد توفقنا في مختلف الجولات التفاوضية إلى إحراز نتائج مرضية.
لقد توصلنا إلى المحافظة على نسق تحسين الأجور، ولم تكن الأجور وحدها محور المفاوضات، فتشريعات العمل شكلت هي أيضا موضوعا رئيسيا للمفاوضات، سيما وأنها كانت عرضة لحملة إعلامية حيث تحول الرصيد التشريعي المهني وبخاصة مجلة الشغل إلى هدف رئيسي تصوّب نحوه سهام غلاة الليبرالية.
لقد خضنا خلال الفترة النيابية المنقضية جولتين تفاوضيتين دفاعا عن حق الشغالين في الانتفاع بنصيبهم من الثروة الوطنية كما قاومنا كل التبريرات التي حاولت النيل من مكتسبات العمال وتجميد مطالب النقابات. وقد بادرنا بتقييم نتائج هذه المفاوضات وعلينا تعميق هذا الرصيد من النقد الذاتي لمجابهة تحديّات الجولة القادمة من المفاوضات الاجتماعية من خلال تحديد الأهداف المرجوّة منها وتكثيف الدراسات العامّة والبحوث القطاعيّة والاهتمام بمجمل محدّدات الطّاقة الشرائية وبخاصة ارتفاع الأسعار والتضخّم بما يتيح لنا مواصلة مسيرتنا الموفقة في هذا المجال الحساس الذي يتعلق بتحسين مداخيل الأجراء وتطوير تشريعات العمل وهي رهانات اجتماعية كبرى تحتم علينا تشريك أوسع النقابيين في برامج التكوين النقابي وتنمية وعيهم بتشريعات العمل ومناهج التفاوض ومؤازرة جهودهم بالخبرات والكفاءات حتى نواجه استحقاقات المفاوضات القادمة باقتدار ونلبي الانتظارات الجديدة للشغالين.
إن تجربة التفاوض والحوار ببلادنا بلغت درجة من النضج وهي تختزن اليوم رصيدا مهما من التقاليد وقد حان الوقت للارتقاء بهذا الرصيد إلى مستويات أفضل وتعصير هذه التجربة وتقنينها وتحديث مضامينها وآلياتها.
وإنّي أنتهز فرصة هذا المؤتمر لأتوجه بنداء ملح إلى كافة الشركاء لتطهير العلاقات الجماعية من كل مظاهر الريبة وفقدان الثقة وغيرها من الأفكار المسبقة التي تسيء لسلامة العلاقات الاجتماعية. إن الاتحاد متجذر في وطنيته، وهو منظمة شفافة لا تخفي شيئا وليست لها مقاصد غير معلومة، والإعلام الوطني على دراية تامة بما يجري في اجتماعاتنا وما يحدث داخل الكواليس النقابية، إن كانت هناك كواليس. فالبيت النقابي جدرانه من زجاج ونحن نجتمع ونتحاور ونقرر وننتخب على مرأى ومسمع من الجميع. إننا لا نخفي شيئا لا على الدولة، ولا على الشركاء الاجتماعيين ولا على الأحزاب والجمعيات، وقد آليا على أنفسنا أن نصارح كل الأطراف.
هذا هو فحوى نداءي للأطراف الاجتماعيين، إن ما نريده هو الثقة بين قوى الإنتاج والأطراف الفاعلين في المجتمع، وهي ثقة مبنية على التقدير المتبادل وعلى احترام استقلالية كل طرف وحريته في الدفاع عن مصالحهم المشروعة. إنها ليست ثقة عمياء، ولكنها ثقة إيجابية تقر بحق الآخر في الاختلاف، وبحقه الطبيعي في المطالبة بنصيبه من مجهود التنمية، وهي ثقة مبنية على التقاسم، تقاسم الثروات والأعباء، تقاسم الأدوار والمنافع في إطار معادلة مقبولة من الجميع تكون بمثابة العقد الاجتماعي الذي يؤسس لترابط المصالح ويؤمن شروط التماسك بين سائر القوى الاجتماعية ويلغي كل أسباب التوتر والتصادم.
إن هذا العقد الذي يتجسد كل يوم بالحوار والتفاوض هو مصدر الثروة والنماء والتقدم وأساس كل بناء وطني، وفي ظل العولمة التي تهدد استقرار اقتصاديات العالم وتستبيح كل الحدود والسيادات الوطنية وتعبث بمصائر الشعوب والمجتمعات، فإن العقد بين رأس المال والعمل، بين الأعراف والنقابات، بين الدولة والمجتمع المدني، هو القوّة الخفيّة الضامنة لتماسك المجتمع واستقراره.
إن ثقافة التعاقد الاجتماعي لا تقر بوجود غالب ومغلوب بل هي تنبني على التوافق بين مختلف الفاعلين وعلى تفعيل أدوارهم في كنف الاستقلالية، ويجب الإقرار بأننا قطعنا أشواطا هامة على درب تأسيس بنود هذا التوافق العام، وهذا النجاح ليس حالة استثنائية أو وليد الصدفة ، بل هو صورة حيّة لنضج المجتمع الذي استفاد من أزماته وإخفاقاته السابقة وانخرط كليّا في مسار الحوار الذي وضع أسسه الرئيس زين العابدين بن علي وارتقى به إلى مرتبة الخيار السياسي الثابت، غير أنّه من الضروري التنبّه إلى أنّ التحديات التي تحف بنا وعدم استيعاب البعض لمجمل معاني العقد الاجتماعي قد يفرز حالة من الهشاشة وعدم اليقين وهو ما يستوجب من جميع الأطراف الإسراع بتوضيح كل معالم هذا العقد حتى لا يتعثّر أو يتعرض إلى أي انتكاس.
وإسهاما منا في بناء منظومة متكاملة لمستقبل الحوار الاجتماعي ببلادنا فإننا نقولها عاليا أننا لا نعادي أحدا، نحن لسنا معارضة بالمفهوم السياسي الشائع، ولا نريد المشاركة في الحكومة أو الانضمام إلى تكتلات حزبية أو انتخابية، كما أننا لا نعارض القطاع الخاص ولا نتربص بالمؤسسات والمستثمرين الخواص ولا نرفض الخصخصة بشكل مطلق ولا نقف حجرة عثرة أمام ديناميكية التشغيل والاستثمار الوطني والأجنبي، لقد طوينا منذ سنوات طويلة ذلك الجدل العقيم حول النزاع بين العمال وأصحاب العمل كما تجاوزنا تلك المفاهيم البدائية حول طبيعة المؤسسة وملكية وسائل الإنتاج.
إننا نعي جيدا طبيعة المرحلة القادمة وما تستوجبه من مواقف متوازنة، وخلافا لما يظنّه البعض فإن طريق الواقعية والمشاركة في بناء التوافق الاجتماعي هو من أعسر الطرق، لقد اخترنا أن ننصهر في خضم المعركة التي يخوضها شعبنا من أجل التقدم، وآلينا على أنفسنا أن نكون جزءا من الواقع الوطني، فلا قبول يصل إلى حدّ الرضوخ والتبعية، ولا رفض يصل إلى حدّ التطرف والعدمية، بل فهم واع ودقيق لإفرازات المرحلة وطبيعة المشكلات والتعامل مع كل منها وفقا لما تقتضيه مصلحة العمال والبلاد.
ونحن بقدر ما نطمئن شركاءنا فإننا ندعوهم إلى التعامل معنا بكل صفاء، وعليهم أن يدركوا جيدا أن تمسك المنظمة الشغيلة بالدفاع عن حقوق العمال ومطالبهم المشروعة ليس تعنّتا، وإن إصرارها على التصدي للتجاوزات ليس عنادا، بل هو أمر طبيعي ومفيد لديمومة العقد الاجتماعي، فأي معنى للحوار والتضامن بين أطراف الإنتاج إذا ما تواصلت الاعتداءات على الحق النقابي وغيرها من الممارسات التي تضايق النقابيين وتستهتر بقوانين العمل وتسرح العمال وتغلق المؤسسات ولا تحترم أدنى شروط التوافق الاجتماعي؟
إنّه من المؤسف أن تستمر مثل هذه العقليات البالية وقد تقدم مجتمعنا أشواطا كبيرة على درب تنظيم العلاقات الجماعية وتطوير التشريعات وآليات الحوار. إنّنا نأمل أن تزول مثل هذه التصرّفات ونطمح إلى تأسيس حوار اجتماعي موسع ومنتظم بين كافة الشركاء الاجتماعيين، وعلى الجميع أن يستوعب نهائيا أن الاتحاد شريك اجتماعي فاعل ومسؤول وأن أي اعتداء على الحق النقابي هو جرم في حق المجتمع، فنحن لن نسمح بأي تهميش لدورنا ومكانتنا في عالم الشغل، وهذا ليس من باب العداء والتنافر وإنما من منطلق التكافل والتضامن، فنحن لا نريد منظمة تثير الخشية والحذر لدى الآخرين وإنما نريدها منظمة تحظى باحترام وتقدير الجميع.
إننا نتطلع إلى حوار شامل لا يقتصر على الدورات التفاوضية والمسائل المهنية وإنما يغطّي كافة جوانب عالم الشغل ومشكلات التنمية، حوار وطني وجهوي وقطاعي، حوار تكون المفاوضة الجماعية إحدى حلقاته، وهو ما يستوجب تفعيل المجالس العليا المختصة والهياكل الاستشارية والمجلس الاقتصادي والاجتماعي وتوسيع تركيبة المجالس الجهوية وإحياء اللجنة الوطنية للحوار الاجتماعي وكذلك إعادة النظر في طريقة انتخاب النقابيين بمجلس المستشارين لتمكين الاتحاد من ممارسة حقه الطبيعي في التواجد ضمن هذا المجلس الذي من غير المقبول أن يظل على حاله وهو الذي بعث ليكون فضاء لتكريس الديمقراطية الاجتماعية.
التشغيل والعمل
اللاّئق... أولويتنا

لقد ارتأينا ضمن هذا التقرير العام أن نتناول بالتحليل قضيتين نعتبرهما ذات أولوية عاجلة، ونعني بهما التشغيل والحماية الاجتماعية، ولا نقصد هنا التقليل من أهمية القضايا الأخرى مثل التعليم والصحة، وإنما نعتبر أن مجتمعنا اليوم يواجه معضلة أساسية تتمثل بالدرجة الأولى في توفير الشغل للشباب وحاملي الشهادات العليا والإحاطة بالمسرحين وتأمين الحماية للأجراء ولكافة العاملين في سائر الأنشطة الاقتصادية.
-إنّ السؤال الجوهري المطروح اليوم هو كيف يمكننا تطوير اقتصاد ديناميكي يحتل فيه إحداث فرص العمل صميم الاستراتيجية التنموية، لقد أصبح هذا الهدف أحد أهم حقوق الإنسان في العالم. غير أن هذا المطلب تواجهه عراقيل جمة، وعلينا كنقابات أن نكون واضحين في تحديد موقفنا من هذه المسألة الحيوية، حيث لا بد من الاعتراف بحقيقة جوهرية تتمثل في أنه ليس هناك حقوق في العمل إذا لم يكن هناك من عمل، وقد تبدو هذه الحقيقة بديهية لكنها مهمة جدا لتأمين مستقبل النقابات نفسها، فالسبيل إلى العمل والدفاع عن حقوق العمال يمرّان حتما عبر النمو والاستثمار.
كما يجب التذكير بأن المسار الحالي للتحول التكنولوجي يشجع المهارات بدل الاعتماد على اليد العاملة الكثيفة سيما بعد توقف القطاع الصناعي عن لعب دور القطاع الرئيسي من حيث التشغيل وانحلال العديد من المنشآت الكبرى التي تمتلكها الدولة، وهو ما يضع قضية تدريب اليد العاملة في صدارة الأولويات، فلا مجال اليوم لإيجاد عمل لائق والاحتفاظ به دون تكثيف فرص التكوين المهني والرسكلة والتأهيل وتعصير نظم التدريب ومناهج التعليم والبحث العلمي والارتقاء بسياسات الموارد البشرية حتى ندخل بحق عصر العلم والتكنولوجيا.
إن الرهان اليوم يتمثل في البحث عن السبل الكفيلة بإدماج طالبي الشغل والذين يقارب عددهم سنويا 90 ألف في الدورة الاقتصادية مع ملائمة مؤهلاتهم مع متطلبات التطور التكنولوجي ومقتضيات الجودة والمنافسة، وهو ما يؤكّد الحاجة إلى إصلاح برامج ومناهج التربية والتعليم للرفع من قدرتها على التأقلم مع مستلزمات الواقع الجديد، إذ لا يعقل أن تواصل الجامعة التونسية تخريج عشرات الآلاف من حاملي الإجازات والشهائد العليا في الحقوق واللغات والآداب والعلوم الإنسانية وغيرها من الاختصاصات ليعيشوا بعد ذلك كابوسا مرعبا اسمه البطالة أو ليجدوا أنفسهم مجبرين على القبول بمهن لا تتلائم مع مستواهم.
إنّ بلادنا تواجه اليوم معضلة حقيقية اسمها «بطالة الشباب» وتتفرع عنها مشكلة لا تقل حدة وهي مشكلة بطالة أصحاب الشهائد العليا، وهو ما يطرح العديد من نقاط الاستفهام حول مدى نجاح برامج وآليات وحوافز التشغيل التي، وبرغم أهميتها، لم تحقق أهدافها المنتظرة ممّا يستوجب خوض نقاش وطني معمّق حول أسباب تردّي واقع التشغيل برغم التضحيات التي أقدمت عليها الدولة والمجموعة الوطنية.
إنّ ما يلاحظ اليوم هو التراجع المخيف لمقومات العمل اللائق، فالبطالة والبطالة المقنعة، والعمل غير المنتج أو قليل الجدوى، وكذلك غياب الاستقرار في العمل، وتدهور المداخيل، وانتهاك الحقوق الأساسية للعمال، والتمييز بين الجنسين، وغياب التمثيل النقابي، وضعف الحماية ضد المرض والتسريح والعجز والشيخوخة، أصبحت تمثّل جميعها مظاهر مميّزة للعمل غير اللائق.
إنّ المرونة المرفقة بغياب الحماية لن تولّد سوى الإقصاء والاغتراب، ولن تثمر سوى الإحباط والوهن. بل أنّ هذا النوع المقيت من المرونة سوف يحوّل مسعانا نحو الاندماج في سياق العولمة إلى خطر حقيقي يهدّد كامل نسيجنا الاقتصادي والاجتماعي.
إنّ العمل اللائق في نظرنا لا بدّ أن يكون مرتبطا بالتشغيل المنتج النابع عن سياسة اقتصادية عادلة وهو ما يفترض حماية سوق الشغل من الدخلاء والطفيليين ومن أنماط العمل.
والعمل اللائق في نظرنا هو الذي يضمن الحماية ضد الطرد ويؤمن الاستقرار في العمل بما يتناسب ومستلزمات الاقتصاد النشيط، وهو ما يفترض حماية التشغيل من كلّ التجاوزات وتوفير كل مقومات الإنصاف في المعاملة.
والعمل اللائق في نظرنا هو الذي يضمن الحماية ضد حوادث الشغل والأمراض المهنية بفضل التشريعات الخاصة بالصحة والسلامة المهنية وتلك المتعلقة بتحديد أوقات العمل وبفضل الحد من الضغط النفسي الناجم عن الإرهاق وتردي ظروف العمل وهو ما يفترض توفير السلامة المهنية والتقيّد بالمعايير الدولية في هذا الشأن.
والعمل اللائق في نظرنا هو الذي يوفّر إمكانية الحصول على مستقبل مهني يناسب الجهد المبذول والكفاءة المكتسبة وهو ما يفترض تأمين الحماية المهنية عبر الإقرار بمكتسبات الخبرة وتثمينها ووضع الآليات المرجعية في مجال التصنيف المهني ومواصفات الجودة.
والعمل اللائق أخيرا وليس آخر، هو العمل الذي يؤمّن حرية التعبير الجماعي داخل سوق الشغل عن طريق تواجد نقابات عمال ممثلة ومستقلة ومسؤولة اجتماعيا في قراراتها، وهو ما يفترض حماية التمثيل النقابي والإقرار الفعلي بحرية ممارسته داخل المؤسسة وخارجها وفي منابر الحوار الجهوي والقطاعي والوطني.
هذا هو مفهومنا للعمل اللائق وهذا ما نأمله لمؤسساتنا حتى تتبوأ المكانة التي تستحقها والتي تليق بها، وهذا ما نراه ضروريا لكي تقتحم مؤسساتنا حلبة المنافسة العالمية بأكثر جدارة وندية.
وكما هو معلوم فإنّ التحول الليبرالي لم يفض إلى توسيع حجم البطالة فحسب وإنما ساهم في ظهور فئة جديدة من العاطلين عن العمل تسمّى بالمسرحين. وبرغم تأكيدات الحكومة بأن نسبة تسريح العمال لا تدعو إلى الفزع، فإن كل المؤشرات تفيد بان تسريح العمال أصبح شبحا يهدّد العديد من الشغالين في ظل الانفتاح المتزايد لاقتصادنا على السوق العالمية.
كما أن واقع البطالة بتونس يعتبر انعكاسا للتفاوت الجهوي على مستوى التنمية حيث لا تزال العديد من الجهات تفتقر إلى مقومات التنمية الشاملة بما يدفع سكان العديد من المناطق الداخلية إلى الهجرة نحو المدن الساحلية التي تستأثر بغالبية الاستثمار والمشاريع المحدثة، إلى جانب تواصل تدفق هجرة الشباب نحو أوروبا واستفحال ظاهرة الهجرة السرية دون اعتبار المشاكل الاجتماعية والانحرافات التي تهدد فئات عديدة من الشباب في ظل انسداد آفاق التشغيل.
وفي ضوء هذه المعطيات فإن مختلف القوى الوطنية ومكونات المجتمع المدني وفي مقدمتها أطراف الإنتاج مدعوة إلى البحث عن الحلول لإيقاف نزيف البطالة وتسريع وتيرة الاستثمار والتشغيل وتعزيز شبكة التغطية الاجتماعية لحماية الأجراء والمسرحين وكذلك الشباب العاطل من ويلات البطالة والانقطاع عن العمل وفقدان الأمل في حياة كريمة.
تحديّات أمام مستقبل الضمان الاجتماعي
تواجه أنظمة الضمان الاجتماعي في العالم اليوم طلبات وتحديات جديدة ناتجة عن عوامل مثل تغيّر أنماط العمل وتضخّم البطالة وشيخوخة السكان وهو ما يؤكد الحاجة إلى إصلاح هذه الأنظمة.
غير أنّه ينبغي التذكير بحقيقة جوهرية ثابتة وهو أنّ الضمان الاجتماعي ضرورة ملحة بالنسبة لرفاه العمال والمجتمع، فهو حق أساسي من حقوق الإنسان وأداة أساسية لحفظ التماسك الاجتماعي، ويمكنه، من خلال تكريس معاني التضامن الوطني وتقاسم الأعباء، المساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية. ومن الناحية الاقتصادية، فهو يعزّز الانتاجية بتقديم الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية للعمال، فهو إذن استثمار في الأشخاص وفي الموارد البشرية.
وبرغم الانتقادات التي ما انفك يوجهّها بعض الليبراليين لمجمل أنظمة الضمان الاجتماعي بدعوى أنها معرقلة للجدوى الاقتصادية فقد أثبتت تجارب البلدان المتقدمة، ولاسيّما تجارب بلدان أوروبا السكاندينافية أنه من الممكن التعايش بين اقتصاد منتج ومنافس من جهة ونظام تحويل اجتماعي متطور ولائق من جهة أخرى.
وإذا ما عدنا إلى تجربتنا التونسية والتي تنبني على مفهوم العدالة في التوزيع وتقاسم التضحيات بين مختلف الأصناف المهنية والفئات والأجيال فإن كل التوقعات والدراسات تفيد أن نظام الضمان الاجتماعي ببلادنا سيتعرض في السنوات القادمة إلى ضغوطات شديدة وهو ما يدعو جميع الأطراف المعنية إلى تعميق التفكير لإيجاد الحلول الملائمة قبل تفاقم العجز المالي للصناديق.
إن هذا الملف هو من أهم الملفات وأخطرها في المستقبل، ولا أدلّ على ذلك المفاوضات الماراطونية والمعقدة التي رافقت ولا تزال مفاوضات إصلاح التأمين على المرض منذ أكثر من ثماني سنوات، وكما تعلمون فقد توصلنا في جويلية 2004 إلى إبرام اتفاق مع الحكومة بشأن توحيد أشكال التغطية الصحية من حيث الاشتراكات والخدمات وهيكل التصرف، ونحن متمسكون بهذا الاتفاق وحريصون تطبيقه بحذافيره ودون تجزئة.
ولكننا نعلم جيدا أنه لا يمكن إدخال إصلاح حقيقي على نظام التأمين على المرض دون وضع استراتيجية لتأهيل القطاع الصحي العمومي ومراجعة الخارطة الصحية إلى جانب تنويع مصادر تمويل الضمان الاجتماعي بما يكفل خدمات صحية متطورة لفائدة المضمونين الاجتماعيين ويحقق التوازن المالي لهذا النظام التأميني.
كما أن النقاش الجاري اليوم يركّز على الحاجة إلى إصلاح أنظمة التقاعد لكي تكون قادرة على مواجهة تحدّي ارتفاع سنّ السكان، وفي بعض البلدان هناك توجّه لتشجيع الأشخاص على التقاعد في وقت متأخر والحد من الإنسحاب المبكر من العمل وبالتالي دفع الاشتراكات لمدة أطول لتوفير التمويل الذي يضمن الرعاية الصحية وجرايات المتقاعدين.
وفي هذا الإطار يتوجب علينا تعميق البحث في الأسباب الحقيقية التي تقود إلى تزايد العجز المالي للصناديق الاجتماعية ببلادنا ومنها بالخصوص التعامل مع هذه الصناديق كمؤسسات خيرية بإثقال كاهلها بخدمات إضافية هي في الواقع ليست من مشمولاتها علاوة على تقييد دور الشركاء الاجتماعيين وبخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل في تسيير هذه الصناديق إضافة إلى تباطؤ نسق الاستثمار والتشغيل وغلق العديد من المؤسسات وتنامي القطاع غير المنظم وهي عوامل تؤدي كلّها إلى تقلص موارد الضمان الاجتماعي.
إن مجمل هذه الأسباب تطرح تساؤلات كبرى حول مستقبل أنظمة التقاعد وتستوجب التفكير عن الحلول الجذرية التي تسمح بالحفاظ على ديمومة هذه الأنظمة ومنها التصدي لأنماط التشغيل الهشة التي تؤدي إلى انكماش الأجور وحثّ الأعراف على التصريح بالأجور الحقيقية والتصدي لظاهرة التقاعد المبكّر والإعفاءات من اشتراكات الضمان الاجتماعي وتسوية الديون المتخلدة بذمة الدولة والمؤسسات وجلب العاملين في الاقتصاد غير المنظم إلى سياق الضمان الاجتماعي ومقاومة النزعات الليبرالية المتوحشة التي تريد إحلال منطق الربح الاقتصادي محل قيم التضامن والتكافل بدعوى النجاعة والمردودية إلى جانب العدول عن الخلط بين الضمان الاجتماعي والتضامن الاجتماعي.
صندوق للتأمين على فقدان
مواطن الشغل
لقد أدّت خصخصة العديد من المؤسسات العمومية وغلق عدد هام من مؤسسات القطاع الخاص إلى تسريح أعداد غفيرة من العمال، وبالنظر لخطورة هذه الظاهرة وتأثيرها السلبي على الاستقرار الاجتماعي وتسبّبها في كثير من حالات الاحباط واليأس لدى العمال المغادرين لدورة الإنتاج فقد تقدّم الاتحاد العام التونسي للشغل بمطلبه الداعي إلى بعث صندوق وطني للتأمين على فقدان مواطن الشغل يساهم في تمويله كل من العمال والمؤسسات والدولة من أجل رسكلة العمال المسرحين وإعادة إدماجهم في دائرتي الإنتاج والإستهلاك وحمايتهم من كل مظاهر التهميش والإقصاء.
ومثلما ذكرت آنفا بخصوص القرار القاضي بالمصادقة على الاتفاقية عدد 135، فقد جاء قرار رئيس الدولة بالترفيع في المدة القصوى للمنحة المخولة للعمال المتضررين من الغلق الفجئي للمؤسسات من ستة أشهر إلى إثني عشر شهرا لينصف الاتحاد العام التونسي للشغل ويزيل الشكوك والتأويلات الخاطئة التي حاول البعض ترويجها لتشويه موقف الاتحاد وإظهاره بأنه يرغب في إسناد منح للعاطلين وتشجيعهم على التقاعس.
إن قرار الترفيع في منحة الحماية قد لا يلبي كل طموحاتنا ولكنه قرار إيجابي ينصهر في صميم الفلسفة الاجتماعية التي تدفعنا إلى المطالبة ببعث صندوق خاص بالمسرحين، فهو يمثّل خطوة هامة على درب تأمين الحماية الكاملة للعمال المتضررين من غلق المؤسسات، وسوف نواصل نضالنا لتكريس فكرة الصندوق ولو على مراحل إيمانا منّا بأن آليات الحماية الراهنة سوف تمهد الطريق في نهاية المطاف إلى إحداث مثل هذا الصندوق الذي يمثّل الوسيلة الأفضل لا فقط لإعادة دمج المسرحين في دورة الإنتاج وإنما كذلك لحماية العمال المهدّين بفقدان شغلهم بتمكينهم من فرص التكوين المستمرّ وإعادة التأهيل المهني.
وعلى صعيد آخر وانطلاقا من قناعتنا بان استقرار الشغل هو عماد استقرار المجتمع فإننا سنوجه كل طاقاتنا في المستقبل للتصدي للممارسات الهادفة إلى السمسرة بعرق العمال وبحقوقهم الأساسية، لقد خضنا العديد من النضالات للتصدي لشركات المناولة والمتاجرة باليد العاملة، وبالرغم من العديد من النجاحات التي حققناها في هذا المجال عبر ترسيم أعداد هامة من عمال المناولة والعمال الوقتيين والموسميين فإننا مطالبون بأن نتعامل مستقبلا مع هذه المسألة باعتبارها قضية وطنية عاجلة تهدد استقرار عالم الشغل ولحمة المجتمع، وعلينا تكثيف الدارسات والندوات التكوينية حول هذه المسألة ومزيد تأطير الهياكل النقابية في نضالها ضدّ كل مظاهر عدم الاستقرار في الشغل، وبخاصة ظاهرة المناولة التي تمثل أسوأ أشكال الاستغلال لليد العاملة.
إن تنظيم عالم الشغل هو اليوم من أولويات الحكومات والمجتمعات وهو المقياس الأول للنجاح الاقتصادي. وقد بات واضحا أنه لم يعد من الممكن إطلاق العنان لقوانين السوق وإهمال متطلّبات العدل الاجتماعي.
إن الليبرالية المجحفة تبدو اليوم في قفص الاتهام وتتعرّض إلى انتقادات من كلّ صوب ولم يعد هناك مفرّ بعد ربع قرن من العولمة المتوحشة إلا أن نستوعب التنمية الشاملة بمفهومها الجديد، تلك التنمية التي توفّر العمل اللائق للجميع وتحترم حقوق الإنسان احتراما كاملا وتعتبره غايتها القصوى.

تعزيز جبهة التضامن النقابي العالمي
إنّ تحقيق التوازن بين رأس المال والعمل والانتصار للديمقراطية والعدالة الاجتماعية رهين قيام نظام دولي يؤسس لتضامن عالمي حقيقي يعارض كل أشكال الهيمنة والاستعمار ويلغي مظاهر الظلم والفقر والإقصاء.
ولا شكّ أنّ عالمنا اليوم هو أكثر أنانية بعد أن تراجعت فيه قيم المبادرة الجماعية والتعاضد والتآزر ليفسح المجال فيه أمام النزعة الفردية وحب التسلط وتجاهل الآخر.
وتمتد هذه السلوكيات إلى العلاقات الدولية لتزداد التوترات والصراعات والحروب داخل المجتمعات وبين الدول.
وفي مواجهة هذه الأوضاع فإنه علينا التشبث وأكثر من أي وقت مضى بقيم العدل والتضامن.. تضامن اجتماعي بين جميع الفئات ضحايا اقتصاد السوق من اجل تقاسم أعدل لثمرات النمو حتى يضمن الجميع الحق في التعليم والصحة والسكن وفي العمل اللائق، تضامن بين شعوب العالم التي تعاني ويلات الفقر والتخلف والمديونية والتبعية من أجل عالم آخر تجسّم فيه مبادئ المساواة والعدالة والتعاون المثمر والمتوازن بين الدول، تضامن بين ضحايا العولمة والخيارات الليبرالية المجحفة سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو شرائح اجتماعية أو شعوبا.
لقد واجهت النقابات منذ نشأتها قوى الاضطهاد الاجتماعي واستطاعت أن تحقق عديد الانجازات والانتصارات وهي لم تستعمل من أجل ذلك السلاح والعنف بل حققت مكاسبها بفضل تضامنها ووحدتها. وحتى تستطيع الحركة النقابية تحقيق المزيد من النجاحات، فإنّها مطالبة ليس فقط بتعزيز تضامنها بل وأيضا بتوسيع مفاهيمه ومجالاته وابتكار أشكال نضالية تضامنية تحمي حقوق الشغالين وتعيد الاعتبار للعمل كقيمة إنسانية.
وفي هذا المجال يندرج تفتح الحركة النقابية العالمية على مؤسسات المجتمع المدني، كما أنّ ما شهدته فيانا العاصمة النمساوية في مطلع شهر نوفمبر الماضي من تأسيس للاتحاد النقابي الدولي يمكن أن يشكّل قفزة نوعية على درب تعزيز جبهة التضامن النقابي الدولي.
إنّ تأسيس الاتحاد النقابي الدولي الجديد والذي تولّد عن اندماج اكثر من 300 منظمة نقابية من أكثر من 170 بلدا في منظمة موحّدة من أجل إنجاز أهداف وبرامج مشتركة إنما يمثّل النواة الصلبة على المستوى الدولي لقيام تضامن عالمي واسع حول الحركة النقابية بمشاركة منظمات وجمعيات وقوى سياسية تقاسمنا نفس الأهداف وتعمل وفق نفس المبادئ من أجل عالم أكثر توازنا ومساواة وعدلا وسلام.
لقد أيّد اتحادنا قيام هذا الاتحاد النقابي الدولي الجديد وكان لنا شرف تحمل المسؤوليات القيادية به ونحن نسعى لأن نجعل منه إطارا أكثر قوّة في تفعيل التضامن الدولي لمقاومة الآثار المدمرة للعولمة وكل أشكال الهيمنة الإمبريالية والعنصرية.

قضايانا العربية والسلم العالمي
إنّ تواجدنا في المنظمات الدولية لا معنى له إن لم يكن من أجل إبلاغ وجهة نظر عمالنا وشعوبنا والدفاع عنها في كل ما يتعلق بالقضايا القطرية والقومية والدولية. وفي هذا المجال استطعنا تحقيق عديد النجاحات سواء فيما يلقاه اتحادنا من تقدير من قبل الحركة النقابية الدولية أو فيما يخص التحول الكبير في الرأي العام النقابي الدولي في خصوص قضايا أمتنا العربة وبخاصة في مسألة الصراع العربي الصهيوني ومسألة احتلال العراق. والكل يذكر كيف جمّد الاتحاد علاقاته مع السيزل سنة 1984 احتجاجا على رفض اللجنة التنفيذية مناقشة القضية الفلسطينية. واليوم يصدر المؤتمر التأسيسي للاتحاد النقابي العالمي الجديد مواقف معارضة للاحتلال سواء بفلسطين أو العراق ويطالب بإنهائه فورا في هذين القطرين وتمكين الشعب الفلسطيني من بناء دولته المستقلة.
كما لا ننسى مناهضة الحركة النقابية العالمية بكل مكوناتها للحرب على العراق ومشاركتها في المظاهرات والتحركات لمنع العدوان على العراق ووضع حد لاحتلاله. كما تجلّت هذه المواقف مرة أخرى عند العدوان على لبنان حيث كان الموقف النقابي قويا في تضامنه مع الشعب اللبناني.
وقد لعب الاتحاد دورا محوريا في تحديد مواقف نقابية عربية واضحة من مجمل الوضع العربي والدولي وفي تنسيق الجهود والمشاركات الدولية للاتحادات النقابية العربية من خلال تفعيل دور الاتحاد الدولي لنقابات لعمال العرب والاتحاد النقابي لعمال المغرب العربي حتى يكون للعمال العرب صوت واحد وموقف واحد في كل ما يتعلق بدعم نضال أشقائنا في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا حتى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وتحرير الجولان وجنوب لبنان وحتى دحر الاحتلال الأمريكي والبريطاني عن العراق وحماية وحدة شعبه وأرضه.
إننا نعمل من أجل وحدة الموقف النقابي العربي تجاه كلّ القضايا العربية والدولية، كما نعمل مع الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب من أجل إشاعة الحريات والحقوق النقابية بالوطن العربي ودعم نضالات النقابيين العرب من أجل حقّهم في التنظم النقابي المستقل والديمقراطي. وفي هذا المجال نحيي الإنجازات التي تحققت على هذا الطريق في الخليج العربي في البحرين وعمان بما يعزز دور الحركة النقابية العربية في صياغة قوانين التحولات الاجتماعية بوطننا العربي وفي حشد طاقات أمتنا لخوض معركة التحرير والتنمية والديمقراطية.

التطلع نحو المستقبل
إن مسؤوليتنا ونحن نعقد هذا المؤتمر تاريخية.. إنّنا بصدد تكريس القيم النبيلة التي تأسس عليها اتحادنا وفي نفس الوقت نقطع خطوة هامّة على درب توضيح الرؤية المستقبلية التي تؤمّن لاتحادنا مزيدا من الإشعاع ولعمّالنا المزيد من المكاسب.
وإنّ ثقتنا كبيرة بأن تعلّقكم باتحادكم وإيمانكم بمبادئه السامية وحرصكم على وحدته واستقلاليته سيكون خير ضامن لا فقط لإنجاح هذا المؤتمر بل وأيضا لتجسيم أهدافه وقراراته.
إنّنا نعوّل على تضامنكم لتكونوا دوما في مستوى ثقة العمال وانتظاراتهم حتى يبقى اتحادنا فضاء موحّدا تتفاعل فيه كل الأفكار في كنف الديمقراطية، ونحن لن نستطيع تحديث العمل النقابي إلا بفسح المجال واسعا أمام الشباب والمرأة للانتساب وتشجيعهم على تحمّل المسؤولية النقابية وعدم وضع العراقيل أمامهم وعلينا القيام بمبادرات جريئة في هذا الاتجاه حتى نواجه تحديات المرحلة القائمة بحماس الشباب وعزم المرأة وتفاؤلهما الواعد.
لقد ولّى زمن الخصومات الإيديولوجية العقيمة، كما انتهى زمن الارتجال والعفوية، إنّ الواقع الجديد يقتضي منّا التحلي بقدر كبير من العقلانية واعتماد طرق عمل عصرية في إطار نظرة شاملة لتأهيل الواقع النقابي حتى يواكب نسق التحوّلات التي يشهدها الاقتصاد والمجتمع.
إنّ الحماس والإندفاع والتطوّع لخدمة الشغالين خصال لا بدّ منها لشحذ الروح النقابية، لكنّها لا تكفي لصنع نقابات قويّة ومؤثرّة في الواقع، كما انّ المزايدات اللفظية وغيرها من التكتلات الفئوية والانتماءات الضيقة تؤدي إلى إضعاف النقابات وعزلها عن قواعدها ومنخرطيها.
إنّ قوّة النقابات تكمن في جماهيريتها، وفي قدرتها على البقاء مدرسة مفتوحة، مدرسة تفتح أبوابها لكل الشغالين والمناضلين، مدرسة تحتضن كلّ أبناء وبنات تونس العاملة، فلا إقصاء، ولا انغلاق، ولا احتكار للمسؤوليات، ولا نعرات جهوية مقيتة، ولا تطاحن ولا انقسام، ولا تسابق محموم من اجل المواقع والمنافع، بل فضاء رحب لتلاقح الأفكار ومجال واسع للتآخي والتنافس النزيه من أجل تقديم أفضل البرامج والحلول التي تخدم مصالح الشغالين.
لقد شكّل اتحادنا منذ نشأته مدرسة وطنية كبرى أسهمت في تشكيل ملامح هذا الوطن وصياغة تاريخه الحديث وعلينا أن نحافظ على هذا الرصيد الذهبي وتنميته بإسهاماتنا القيّمة، إنّ لكل جيل خاصيته ودوره في إثراء مسيرة هذه المنظمة، وعلى الجيل الراهن والأجيال الصاعدة أن تكون في مستوى الأمانة الموكولة إليها، أمانة حمل المشعل وإذكاء الروح النقابية، أمانة تعزيز حاضر المنظمة وتأمين مستقبلها، إن كلّ جيل نقابي يواجه اختبارا قاسيا للحفاظ على تماسك المنظمة واستقلاليتها، ومثلما نجحت الأجيال السابقة في هذا الامتحان العسير علينا نحن أيضا أن نكون في مستوى ثقة الشغالين بتعزيز وحدتنا والحفاظ على مكتسباتنا ومواصلة إعلاء راية هذه المنظمة بتدعيم حرمتها وحمايتها من كل السلوكيات التي تعيق شبابها وحيويتها.
فإلى الأمام على درب تلبية طموحات الشغالين، وإلى الأمام على درب تحقيق التنمية العادلة، وإلى الأمام على درب بناء مجتمع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإلى الأمام على درب التضامن مع شعوبنا العربية وكافة الشعوب المناضلة من أجل الحرية والكرامة، وإلى الأمام لتعزيز التضامن النقابي العالمي، وإلى الأمام حتى يكون مؤتمرنا هذا بوابة كبرى تفتح آفاقا أرحب أمام مناضلينا ومناضلاتنا لدفع المسيرة النقابية وتحقيق المزيد من المكاسب للشغالين والوطن.
عاش الاتحاد العام التونسي للشغل حرا وديمقراطيا ومناضلا وعاشت تونس عزيزة، منيعة أبد الدهر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.