لم تستطع الساحة الفلسطينية، طوال العقد الماضي، الخروج من الأزمة المستعصية التي أحاقت بها، بنتيجة إخفاق عملية التسوية (لأسباب إسرائيلية أساسا ومعها أسباب فلسطينية وإقليمية ودولية) بين أسباب أخرى مختلفة أيضا. وعندما حاول الفلسطينيون تجاوز هذا الإخفاق بالتحول نحو الانتفاضة والمقاومة المسلحة (أواخر عام (2000) لم يكتب لهم النجاح بهذا المسعى بحكم محددات السيطرة الإسرائيلية على مقدراتهم وحياتهم وفق اتفاقات أوسلو، وأيضا بحكم تخلف إدارتهم لمواردهم وعلاقاتهم الداخلية ولشكل إدارتهم لصراعهم مع إسرائيل، كما بالنظر لغياب التوافق بينهم على إستراتيجية سياسية وكفاحية واضحة ومحددة لهذه الانتفاضة /المقاومة. بعد ذلك، أيضا، لم تستطع الساحة الفلسطينية تحقيق نوع من القطوع في هذه الأزمة بالذهاب نحو الانتخابات التشريعية، ذلك إن نتائج هذه الانتخابات أفضت إلى تعميق أزمتهم، فبعد الاختلاف والتنازع بين القطبين الرئيسين القائدين في الساحة الفلسطينية (فتح وحماس(، وأزمة ازدواجية السلطة والمرجعية، باتت هذه الساحة أمام أزمة الانقسام بين كيانين ونظامين ومشروعين وشرعيتين. معنى ذلك أن الساحة الفلسطينية، خلال عقد من الزمن، وبسبب خلافاتها المجانية وفوضاها وتخلف إدارتها، فوّتت استحقاقين أساسيين، دفع ثمنهما الشعب الفلسطيني باهظا، من دمه ومعاناته وعمره. الاستحقاق الأول ويتمثل بالانتفاضة (أو عمليات المقاومة (التي جرى تبديدها، أولا، بسبب عدم التحكم بوتائرها؛ وثانيا، بسبب المزايدة والتنافس بين أطرافها المحركة والفاعلة (خصوصا فتح وحماس(، وثالثا، بسبب عدم ربطها بإستراتيجية سياسية واضحة وممكنة. اللافت أن القوى الفلسطينية المعنية لم تقم بعد الانتفاضة (وبالأصح بعد موجة عمليات المقاومة المسلحة) باستخلاص العبر والدروس المرجوة، ولم تقم بمراجعة نقدية جدية ومسؤولة لمجريات هذه المرحلة ومساراتها ومآلاتها، بمعنى أين كنا وأين أصبحنا؟ وما هو الثمن؟. في هذا الموضوع فقد ذهبت السلطة وحزبها فتح، مثلا، إلى التنصل من المقاومة المسلحة وتحميلها وزر كل ماحصل، والاستنتاج من ذلك بأن لابديل عن المفاوضة إلا المفاوضة حسب تعبير الرئيس الفلسطيني محمود عباس ومعنى ذلك أن فتح تنكرت لمسؤوليتها، من موقعها القيادي، عن انفلاش الانتفاضة وضعف التحكم بوتائر الكفاح المسلح، وتناست أن مجموعاتها المسلحة ذهبت بعيدا، وعلى نقيض الإستراتيجية السياسية المفترضة لهذه الحركة أي خيار التسوية وحل الدولتين نحو انتهاج العمليات الاستشهادية للتنافس مع حماس ما أدخل الفلسطينيين بمواجهات مضرة وغير محسوبة مع إسرائيل، أدت إلى استنزافهم وتقويض منجزاتهم، ووضعت علامة شك على صدقية نضالهم من الناحيتين السياسية والأخلاقية؛ كما أنها عززت من مكانة اليمين المتطرف في إسرائيل وحررتها من التزاماتها بشان عملية التسوية. الأنكى من ذلك أن مراجعة هذه الحركة كانت انتقائية وجزئية، بتحميلها المسؤولية عن انهيار الوضع الفلسطيني لخروج الفلسطينيين عن نهج التسوية إلى نمط المقاومة المسلحة، وفقط والواقع فإن الأساس في هذا الموضوع هو افتقاد الفلسطينيين لإستراتيجية بديلة عن التسوية، أو على الأقل موازية لها. بمعنى أن الأولى بالنقد وبعملية المراجعة إنما هو عملية التسوية ذاتها، بالشكل الذي جرت فيه. فمن المسؤول عن عقد اتفاق أوسلو الذي يتضمن مرحلتين تفاوضيتين انتقالية ونهائية الانتقالية لم تنته بعد رغم مرور 17 عاما تقريبا؟ ومن المسؤول عن عدم طرح وقف الاستيطان نهائيا في الاتفاق؟ ومن المسؤول عن عدم توضيح ماهية الأفق النهائي للتسوية؟ ومن المسؤول عن إدارة الكيان الفلسطيني الناشئ السلطة بالشكل الذي تم فيه؟ ومن المسؤول عن حصر رئاسة السلطة والمنظمة وفتح بشخص واحد؟ ومن المسؤول عن تغييب منظمة التحرير لصالح السلطة؟ ومن المسؤول عن غياب المؤسسات وإضعاف العلاقات الديمقراطية والتشاركية وتدني روح التعددية والتنوع في الساحة الفلسطينية؟ وإضافة إلى هذه التساؤلات فإن قيادة فتح، وهي قيادة السلطة، مسؤولة عن غياب روح الاجتهاد والتفكير فيها، فهي لم تطرح أي بديل عن إخفاق عملية التسوية، وإذا كان البديل قد لايتمثل بالضرورة بالتحول لعمليات المقاومة المسلحة بالشكل المنفلش الذي تمت به فثمة بدائل أخرى، ليس من ضمنها الإمعان بالتماثل مع المطالب الأمنية الإسرائيلية، وإنما التحول نحو تمكين الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة، من تنظيم أنفسهم وبلورة أشكال نضالهم ضد مختلف الممارسات القمعية والعنصرية الإسرائيلية. بمعنى أن ثمة بديل عن التفاوض المذلّ والمجاني والعبثي يتمثل بإطلاق الكفاح الشعبي /المدني، أو إطلاق نوع من العصيان المدني في وجه الاحتلال، وليس التماثل مع متطلباته، وخلق نمط من الاحتلال المريح، فهذا النمط لاينهي الاحتلال البتة وإنما هو يشجع على استمراره وكان الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، قبل مجيء قواتوكوادر منظمة التحرير من الخارج اجترحوا أشكال نضالية في الانتفاضة الأولى 1987) (1993 كانت أكثر تناسبا مع إمكانياتهم وظروفهم، وهي أشكال فضحت في حينه الطابع الاستعماري العنصري لإسرائيل، وعززت من تعاطف العالم مع الفلسطينيين. والقصد هنا أن السلطة الفلسطينية معنية ومطالبة بالضرورة بعدم تغييب وضعها كسلطة لشعب تحت الاحتلال، وعدم طمس مطالب التحرر الوطني، لأن الخنوع والتماثل لمطالب الاحتلال الكثيرة والمتوالية، ستؤدي ربما إلى خلق نوع من سلطة مشوهة، وسلطة ذاتية، وربما سلطة وكيلة للاحتلال، بحسب المسارات والتطورات. وفي مجال الخيار السياسي فإن حركة فتح مسؤولة عن حصر خيار الفلسطينيين بدولة مستقلة في الضفة والقطاع منذ العام 1974) أي منذ 35 عاما (وعدم البحث عن خيارات أخرى، علما أن إسرائيل تتملص حتى من هذا الخيار، الذي لا يلبي متطلبات وحدة الشعب الفلسطيني ولايتضمن حق العودة للاجئين، والذي يقوض مفهوم الهوية الفلسطينية، بمعناها الرمزي والبنيوي، الذي صاغته فتح ذاتها. فوق ذلك فإن فتح تتحمل مسؤولية عدم تطوير ذاتها، فهي، برغم إنها في السلطة، تعيش حالا من الهلامية التنظيمية، وحيرة في تحديد الهوية السياسية، وثمة انعدام يقين بشأن الخيارات النضالية التي ينبغي اعتمادها؛ زد على كل ذلك أزمتها القيادية وهبوط مستوى النقاش السياسي فيها، ووجود منافس ند لها) حماس). بالمقابل، فإن حماس تتحمل كثيرا من المسؤولية عن استعصاء الأزمة، فهذه الحركة عززت شرعيتها وصعدت إلى السلطة بدعوى إنها نقيض فتح، بمعنى إنها تتوخى تحرير فلسطين بدلا من الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، وإنها تنتهج الكفاح المسلح لذلك بدلا من التفاوض والتسوية وأنها ستقدم نموذجا قياديا أفضل من فتح التي ذهبت لاحتكار التفرد بالموارد والقرارات والحاصل فإن حماس لم تصمد أمام اطروحاتها هي إذ أنها بعد أن تحولت إلى سلطة في قطاع غزة 2007، تحولت نحو قبول حل الدولة في الضفة والقطاع بمصطلحات أخرى، وهي اقتنعت بضرورة التهدئة والهدنة ووقف المقاومة بالعمليات وبالقصف الصاروخي، باعتبار ذلك يمثل مصلحة وطنية للشعب الفلسطيني ومع تأكيدنا على ذلك فثمة سؤال يطرح نفسه لماذا الآن؟ وبعد ماذا؟ فوق ذلك فإن حماس لم تنجح بتصدير نموذجها، فهي ذهبت للاقتتال وحسم الصراع على القيادة والشرعية بالقوة المسلحة، ثم إنها بنت سلطة أحادية واقصائية وغير تشاركية في قطاع غزة، وصادرت دور كل الفصائل، وهي تقوم بالتماثل مع فتح، بل وبما يزيد عن ذلك، والدليل ممارساتها التنكيل بالفتحاويين في القطاع وتحكمها بالخروج والدخول منه، ومصادرتها للرأي الأخر. أما بالنسبة لاستحقاق الانتخابات، وتطوير النظام السياسي الفلسطيني، فقد خسرته الساحة الفلسطينية كما هو معروف، إذ تحول هذا الاستحقاق إلى كارثة على النظام الفلسطيني وعبئا عليها، بدل أن يكون مأثرة ومكسبا ومدعّما لها. وبالأساس وقبل خسارتها استحقاقي المقاومة والانتخابات فقد كانت الحركة الفلسطينية خسرت ذاتها، ليس بسبب اختلال موازين القوى وضعفها في مواجهة عدوها، فقط، وإنما بسبب عدم قدرتها على تطوير بناها، وتخلف علاقاتها الداخلية، وضعف روح التفكير والاجتهاد السياسي لديها.