للقيروان سحرها الذي يأخذ الألباب ويستولي على النفوس والعقول. هذا سرّ يعرفه من عشق القيروان، وتيمه هواها. عشاق القيروان كثر اذا ما عددتم يهيمون بحب هذه المدينة التي تعرف كيف تحفظ أسرارها ولا تهبها الا لمن آمن بها فأمت له وفتحت له خزائن تاريخها التليد الذي اسس لانبلاج نور الحق في هذه الديار العزيزة المباركة. فمن ابن رشيق الى ابن شرف القيرواني الى ابن خلدون الى الحصري الموجوع بها المفجوع في ولده الذي رثاه بأجمل ما يتمنى كل ميت ان يرثى، وليس نزار قباني آخر عشاق القيروان الذين افتتنوا بها حتى الثمالة فقالها شعرا ذات ربيع قيرواني شكل حدثا ثقافيا تجاوز دوائر النخب الشعرية ومجالسها المغلقة على الطلاسم والأحاجي والتمتمات ليفيض على شوارع القيروان وحاراتها وأزقتها وقبابها ومقابرها واسوارها وفسقياتها، ويعمدها من حرج النسيان ولؤم التناسي.. لقد اعاد قباني بقصائده الغزلية التي تقطر شهدا شاميا وعبقا شرقيا للقيروان أصالتها وعنفوانها، فكانت العروس التي اكتمل بها شعره واكتملت به درّة افريقيا وقبلة المغرب العربي الكبير. ان تتويج القيروان عاصمة للثقافة الاسلامية يعدّ اعترافا متأخرا بمجدها وعراقتها واكتشافا ليس بالجديد لإحدى اهم الركائز التي أسندت رسالة الاسلام الى العالمين، فمن جامعها المعمور تحرج الالاف من الطلاب الذين نشروا رسالة الحق في ربوع افريقيا ومدّوا جسور التوحيد وفتحوا دروبا من التواصل مع الشمال المسيحي، فوهبوا الحضارة الانسانية اجمل اندلس مثلت نموذجا للتعايش الديني والحوار الحضاري والمثاقفة البناءة الراقية التي ازهرت أدبا وفلسفة وعلما وموسيقى مازالت تمثل مرجعا انسانيا ومعينا لا ينضب تعبّ منه المدنيّة المتقدمة ما طاب لها من ضروب الفن والعمارة والروحانيات الصوفية والعلوم العقلية والاشعار والموشحات الاندلسية. من رحم هذه القيروان ولدت غرناطة واشبيلية وقرطبة وبين حاراتها تسامقت براعم علم الاجتماع الخلدوني وتفتق ذهنه عن مقدمة قد يطول بنا الزمن حتى نجد لها جوهرا ومتنا ويوضّح ما أشكل من دلالاتها ومعانيها. هي القيروان اذن لم تصرح بعد بمكنون كنوزها لأننا لم ننجح في فض ختمها وسبر اغوار أزقتها وشوارها وفهم رمزية قبابها وصوامعها ومراقدها وقبورها التي ضمت رفات أنبل الرجال واشرف الاقوام. ألا تستوجب منا هذه القيروان ان نحرق عند قدميها البخور ونخب النذور والعطايا ونسجد خاشعين في محراب قداستها وكمالها ونقف بين يدي صحابتها الأجلاء أبو زمعة البلوي سيدي الصحبي والعبادلة السبع وعقبة ابن نافع لنعترف لهم بأننا كنا ابناء مقصرين لم نراع شيبة الكبر والكبرياء في نواجد قيروانهم التي عتقها الزمن، ولا شموخ العز في صبرها وصمودها ضد عاتيات التغييب والازدراء.