كنّا في إحدى أيّام الصيف جلوسا في حانوت الهادي الحجام في مجموعة من متقاعدي التعليم فالراحة موجودة ولكن الحرارة شديدة والدكان يبرده المكيّف وحديثنا يدور عن خوالي الأيام وليالي زمان ومافيها من خير عميم وغياب للمآسي والآلم فقال صديقنا المختار وهو مفتتح كل حديث ولكل معرفة وريث وقد لقب منذ القديم بالأستاذ الثرثار فافتتح الموضوع وقال إنّ الأفكار صائرة إلى التقوقع وليس لها أي ترقيم أو تموضع فكل هذه الأجيال بعيدة بعد السماء عن الجبال عن الفن الجميل والأدب الأصيل والقراءة الرفيعة والصور العميقة فقاطعه المعلم جلال وهو من ذوي اللسان الفرنسي وتدخلاته لها جمال يحتوي قوّة في البيان وقال باللّه إلى ماذا يعود ذلك يا أستاذ والى أين الملاذ؟ فأجاب الثرثار هو قلّة في الامتناع وكسل في الاستماع فحقا يا جلال قد أصبت الرماية ووضعت بكل عناية اليد والأصابع على المواجع فالفتاة والولد والكل لا يقرؤون كتابا ولا يقلبون ديوانا ولا يحلون لأي موضوع بابا ثم هم لا ينتجون عنوانا. وكيف كنتم أنتم من خيرة المثقفين ولا تزالون من المنتجين فتكلّم بن عمارة وهو عميد الجماعة فقال يا سادة لقد أفسدت الفضائيات وتراكم البورطابلات حركة الشباب. وسدّت هذه الوسائل عليهم الأبواب وخرجت بهم عن الجوهر وسلبت منهم البدائل وجعلتهم يعتقدونها حلاّ لكل الوسائل وياحسرة على أيّامنا واستماعنا للمذياع وتشوقنا للإستمتاع فالعين والفكر صباحا ومساءا في الكتاب والكراس وذلك هو الأساس وبعد العناء وطول المراس نحلق مع الراديون في برامجه الإخبارية والمساجلات الأدبية والمختارات المسرحية ونعتكف عليها كالذاكرين للدعاء ونتسلّى بالإمتناع مع فريد وعبد الوهاب وأم كلثوم ونحن لهؤلاد عابدون. فتنهد عبد الجبار وهو من مديري الابتدائي ومن محبّي الفن الروائي ورغم مداعبته لحبات مسبحته وانغماسه في الأذكار فقال لا تذكرونا يا جماعة بعصرنا الذهبي فتلك فترات حقنتنا تكوينا وشحنتنا تشكيلا وتلوينا وقدت فينا الرؤوس وصقلت منّا الأذواق فلا علم في الكراريس ولا نقل من الأوراق فختم الأستاذ عبد الحميد بقوله أنّ »الراديون« حقا مكتبة تقتنص منها الأذن ما لا يقرأ اللسان وهو مكمّل لما لم تعطه المطالعة وأضاف سي السعيد وهو معلم مخضرم أخذ من القديم والجديد وقال لا نستسلم لهذا التيار والاّ صرنا كمن هزمهم الماغول والتتار فالمذياع مدرسة اجتماعية ولكن برامجه اليوم تحتاج إلى مكنسة آلية ولم يبق أساطين المذياع وغاب الاستماع الواعي وبرامج المرأة والراعي وعوضت هذه البرامج بالجديد والحديث عن الفضاء والنجوم الطوالع بعنوان التجديد الساطع وأين المستمع والمتابع والمشرف الواضع وقارئ الأخبار والمنتج والمبتدئ والمحترف كلّهم لابد من زيارتهم لقبر العروي واستشارتهم له وللمرحوم برهوم في بناء الأسمار وقراءة الأخبار الجدي منها والمروي الأدبي والرياضي وقد غاب في كل فن القدماء وبقي الأدعياء وشتان ما بين الأصيل والمزيف كما بين السبسي والغليون المكيّف وضع بسبسيك المستردام وامْلاَ غليونك بالعرعار والإكليل وفي الليل والنهار فترى نشازا يجري كالأنغام عند كيّاف عليل.