لمَ يغادرنا الأدباء حلقات؟ لِمَ رحيلهم الجماعيّ كالطيور القادمة من الآفاق البعيدة؟ يقتحمون خلوتنا سكوننا ذات مساء ثمّ يغادرونا صوب النداءات الخفيّة. يرحل عبد الرحمان منيف، سهيل إدريس يوسف شاهين. ينهض الطيّب صالح من رقدته الأخيرة يأخذ قلما وبعض الأوراق علّه في سفره الأبديّ يكتب رواية موسم الهجرة الى الجنوب؟ يشعل محمود درويش آخر سيجارة له، بعد أن يتشمّم عبق التبغ يضع ديوان المتنبّي ورواية زوربا في حقيبة جلديّة صغرى ويرحل.. يرحل محمود درويش كما الآخرون راحلون. يلفنا رحيله بعباءة من الحزن ونحن نستمرئ حلاوة تحرير المقاومة للشهداء والأحياء من معتقلات إسرائيل. كان نذير موته خبر مقتضب في جريدة صفراء من جرائد الرصيف تتحدّث عن تحوّله الى الولاياتالمتحدةالامريكية لإجراء عملية جراحيّة على القلب مع التنصيص على خطورتها. ثمّ تتالت الأخبار من نجاح العملية الى الغيبوبة التي صارت انتكاسة لنقف على الموت حقيقة حتميّة ومأساة أبديّة. في أعماقي كنت أحاول نفي الواقع لكنّ الصورة أمامي. وهذا التابوت المحمول على الأعناق كان لا يدع للرغبة متّسعا ولا يتيح للأمنية فسحة. تساءلت كيف لانت الأخشاب وتفسّحت لتسع جسدا في حجم درويش وتضمّ قامة تضيق دونها المدائن شرقا وغربا؟ كيف تحمّلت الارض ان تتفتح قبرا يواري قصائدنا الجميلة وموسيقانا؟ هل آن زمن الراحة يا صديق العربيّ المتعب والمنهك؟ يوارون جسدك، يحثون التراب، يبكون حزنا وفرحا كان ثمة حاجز شفاف بيني وبين الصورة وفي رأسي طنين يأتي من بعيد بعيد. وأنا غارق في تيهي وحيرتي: أنّى يستقرّ الحال بك في قبر لم ترغب في موقعه وفي مدينة رام الله على قداستها لم تشأ ان ترقد رقدتك النهائيّة فيها. كان يفترض ان تنام في قرية البروة او في قرية جديدة بين أفراد عائلتك. لقد عشت يا صديقي منفيّا داخل الوطن وخارجه وكنت منفيّا في الحياة وفي الممات. فطوبى لشاعر القضيّة والمنفى والحريّة. طوبى لشاعر ضاق به المكان من مخيّم اليرموك الى شقّة بباريس ومن عمّان الى بيروت ومن الجزائر الى تونس، عفوا لا توجد أرض تحتمل قداستك ولا تقبل مدينة ان تلوّث روحك الطاهرة أتربتها. فطوبى لك. كان لابدّ أن تموت حتّى نكتشف حجم التضامن العربيّ الذي لم يفكّ حصار ياسر عرفات ولا خفّف من جوع الاطفال في غزة المحاصرة من قبل الاشقاء والاعداء. كان يجب ان تموت حتّى يتداعى الحكّام العرب الموالون للقضيّة الصهيونية والمعارضون لها والواقفون بين هذا وذاك لتقديم التعازي وذرف الدموع، وقد تكون دموع فرح يا صديقي فلا تغترّ. هل كان موتك نبوءة أخرى من نبوءاتك أم رؤيا من رؤاك؟ هل كان من الواجب ان تموت حتّى نكتشف حجم الثوريّة لدى الكثير من المثقفين العرب أو أنصاف المثقفين وأشباه المثقفين الذين ما أدانوا يوما الكيان الصهيوني ولا خرجوا في مسيرة أو مظاهرة مساندة للمقاومة. والآن تداعوْا حزنا مسيحيا وثوريّة غيفاريّة وطفقوا يشقّقون العبارة ويفتّقون الكلمة لرثائك وتأبينك. فطوبى لهم بموتك الذي سيمنحهم خصالا ليسوا أهلها ويتيح لهم شيئا من الزهو كما يزهو بوسام جنودنا البواسل في الثكنات والأعمال المدنيّة. الشهادات والاعترافات حولك وعنك كثيرة في كلّ الجرائد والمجلاّت في برامج التلفزة والاعلانات في دورالثقافة المغلقة منذ انقراض الديناصورات وفي مهرجان تشجيع السياحة والنهوض بالفنون الشعبية لست أنفي ان بعضها صادق وأغلبها عنوان لثورية غائبة!! فكّرت فيم عساي أكتب عنك أو حولك. وما عساها تقول الكلمات تقول في الوريث الوحيد لأشعار المتنبّي ومخطوطات »تمبوكتو« و»مزامير داوود« وتراتيل »كوبلاي خان«؟ هل نرثيك أم نرثي أنفسنا. أم نرثي هذه الأمّة الموزّعة بين الجغرافيا والقصّاب والجلاّد؟ كيف تركتنا لمدن تصدّر شهداءها لتستورد الويسكي؟ وتدفن من بقي منهم ليلا وتمحو أسماءهم نهارا لتعود نقيّة بهيّة كما تريد لها تل أبيب أو روماالجديدة. وحدها بيروت ظلّت عصيّة وفيّة رغم عصابات »الهجانا« والحمد للّه أنّك لم تمت حتّى رأيت المقاومة تبعث الشهداء من مقابر الأرقام وسجون اللدّ وبئر سبع والنقب. وشكرا لقنصليّة روماالجديدة التي أجّلت تأشيرتها وموتك حتّى تشهد انتصارات تموز. يا صديقي العربيّ سجّل أنا عربيّ ورقم بطاقتي خمسون ألفا ماذا ترك لك الطبيب من صور تختزنها الذاكرة؟ وما حملت معك من منفاك القديم إلى منفاك الجديد: سجون الاحتلال أم دبّابات عميل الموساد تخترق الاجساد والبيوت المتداعية، ذات سبتمبر أسود وكم هي سوداء شهوركم مع الأخ العربيّ ؟؟؟ ماذا أخذت معك؟: هتاف المعجبين بشعرك الثوريّ ام نواح الثكالي والحزانى في بيروت عام 1982؟ هل تذكر يا صديقي شاعر القصيدة والقضية خليل حاوي الذي رأى أن يرحل عن مدائن الاقزام التي تتهاوى كالمومسات دون غزل.. الشعراء الكبار لا يستطيعون العيش مع العملاء والاقزام، ولا يسبحون في البرك الآسنة والبحيرات الملوّثة؟ هل ستحمل معك كتب ادوارد سعيد ام جثث صبرا وشاتيلا؟ وما تراك تطالع في منفاك الجديد؟ عصر الطوائف والمماليك ام تواريخ الشهداد في تلّ الزعتر ودير ياسين؟ . نحن من نحن؟ هنود عرب؟ أم سكّان »أنديجان« ستقضي عليهم نزلات البرد الوافدة من الاباء البيض؟ هل ستجد في قبرك مكانا »لسرير الغريبة« وانت تنام في أرض صرت عنها غريبا لانّ »نفتالي« و»جلعاد« و»السامريّ« قد نهبوها. ومع ذلك سوف يمضون وتبقى. هل قلت: »عابرون في كلام عابر؟« لا. بل خالدون في كلام سرمديّ خالد. سوف يذهبون وتبقى قصيدة تبني موسيقاها بعيدا عن تجّار النثر الذين يسترون جهلهم شعارير لا يعرفون أبجدية اللغة ولهب القضيّة. مخادعون يرشون الحاكم العربيّ ليفوزوا بدار أو كرسيّ، ويقال شعراء في مقاهي الأرصفة والجرائد الصفراء!!. يا صديقي الذي لا أصدقاء له، لم يحنْ زمن رحيلك. فثمّة عصفورة في الجليل تنتظر منك أن تبني عشّها. وفي بيت المقدس عاشقة تحلم كلّ ليلة بسريرك. كيف ترحل وفي بيروت شهداء ومقاومون يبحثون في ديوانك عن آيات منسيّة تعيدهم الى الحياة؟.. وأنّى تموت وفي بغداد »كويفير« بذل الفراش والزوجة والعدنانيّة »لليانكي«؟. كيف ترحل ودعاة اللاءات الشعرية الثلاث ينتشرون في المدنية كالذباب: لا للموسيقى. لا للقضية. لا للمعنى. لا ترحل ففي مدائننا »شعارير« أميّون يفخرون بأميّتهم وفي نوادينا كتّاب لا يصرّفون من الافعال الاّ الأجوف والناقص. أهي الصدفة أن تموت في أرض لم تعترف بإبادة قبائل »الشيروكي« و»النافاهو«؟ أهي الصدفة أن ترحل من بلاد سرقت من إفريقيا أبناءها ومن بابل تاريخها؟ هل كان موتك حتميّة شعريّة أم سياسيّة؟ هل هو حقيقة أرضية أم حبكة سماويّة؟ ومع ذلك أرى ما لا يُرى... كان لابدّ أن تموت ما دامت فلسطين محتلة وما دام ولاتها المنصبون بامر من روماالجديدة لا يجدون في الارض متّسعا يواري جثّة »هابيل الشعراء«؟. أعرف أنّ الموت لا يكون لغير الأحياء، وأنّ الأحياء، إمّا مقاومون أو شهداء فآختر منفاك مع أيّّهم شئت.