ما الذي يمكن أن يُحرّك البِرَكَ الرّاكدَة؟ ما الذي يمكن أن يقطع خيط الصمت الطويل؟ كيف يمكن أن نَفرُكَ المصباحَ فيخرج ذلك الماردُ الغارق في غيبوبته منذ زمن بعيد؟ هل تكفي الدعوة للكتابة حتى يهبَّ لها أصدقاؤنا طائعين؟ هل يمكن أن يسحبوا أنفسهم من أيامهم اليتيمة ويأتوا إلى الورقة متعرّين من كل شيء إلا من صدق الرغبة في تغيير الوقت. هل لديهم متّسع من الوقت؟ بل لعلَّ الوقت هو الشيء الوحيد المتوفّر لديهم حتى فكّروا في اغتياله وشنقه من عقاربه. لسن كاتبات محترفات أو كتابا محترفين بالمعنى الدقّيق للاحتراف، ولكن الأكيد أن البعض منهم، قد حاول ممارسة فعل الكتابة، كتابة الشعر أو الخاطرة، كتابة القصة أو المقالة الصحفية، كتابة الدراسة النقدية أو صياغة البيانات النقابية والسياسية خاصة في مرحلة الدراسة الجامعية... ولا شك أن كل واحدة منهن وكل واحد منهم كان يكتب كتابته الخاصة غير المقروءة في عزلته وركنه القصيّ... خلال تمرينهم الأول انخرطوا جميعا في تعريف مفهوم الكتابة فإذا بنا نحظى بغرق حبري: مقاومة، بناء، تحقيق الذات، حماية للمواقف والقضايا التي تمس الأنا والأخر، تبيان المواقف، مشاركة بقلم حر، منهجية، ترجمة مادية لعملية ذهنية، حب يقفز على كل الحواجز، ثَنْياَنْ الرُّكْبَة، صدق، إبداع،إبلاغ، تأسيس، ذاكرة، تواصل، رقصة القلم، متنفس، إحساس باليتم، احتضان الذات لذاتها، عملية إنتاج، رسالة، تحرر من ثقل الكلمة، مرآة الحقيقة، نحت الشخصية، ألم الأخر، توحد الوعي واللاوعي، حالة تجل، إثارة الأخر، تعبير نفسي وجمالي عن هواجس الإنسان وهمومه، تجربة إنسانية، مخاض، لذة، تحليق، اختلاف، نبش في خبايا الذاكرة، تفكيك... تقاطعات كثيرة وحقل دلالي متنوع ومختلف، وعلى اختلافه فإنه يعكس إيمانا حقيقيا بفعل الكتابة انطلاقا من كونها حالة تجلّي ولذّة يعيشها الكاتب وصولا إلى كونها فعل تأسيس وحفظ للذاكرة ومقاومة للتلف والنسيان... تمرين أوّل عكس اختلاف تناول الكتابة لدى المشاركين وأحيى النقاش التقليدي: هل أن هذا اللون الإبداعي يندرج في مقولة الفن للفن أم يستدعي سارتر بقوة ليؤكد أن الفن التزام؟ وبمجرد خلط الأوراق وبعثرة الكلمات كما في الأسطورة اللاتينوأمريكية أحصينا ترادف كلمة مقاومة فأدركنا ووعيْنا بمدى إصرار الجميع على خوض غمار التجربة. مريم جاب الله، ليلى شيبوب، أمامة الزاير، رجاء الدهماني، أمل الجنيدي، سامية فراوس، سالم العياري، عبد الرزاق السميري، صبري الزغيدي ، لبّوا نداء الورقة دون تردّد؟فكان السؤال كيف ستُستدرج سامية من غوغاء الهواتف الدجّالة وعبد الرزاق من السكون الدائم والسخرية السوداء إلى الكتابة سويا؟ كيف يمكن لأمل طفلة الدهشة وسالم حنكة الجامعة وصدى الشعارات أن يلتقيا لكتابة نص واحد يخون ذلك الكائن النرجسيّ، الأنويّ، عاشق نفسه... كيف لليلى ورجاء وأمامة وصبري أن يُراوحوا بين امّحاء الذات وجموح الكلمة، بين جنون العظمة ونفي الآخر وإلغائه... هل تحتمل إذا نرجسية المبدع تقديم تنازلات قد تخدش أنانيته المعلنة أو الكامنة؟ وتشكّل تهديدا لكيانه و»ألوهته«؟ وكم تراها تحتمل أناه الساحقة من تحديات عندما ينخرط طوعا في ورشة للكتابة الجماعية مع ذوات متعددة وهو يعلم جيدا أن الكتابة الجماعية ملزمة أكثر من الكتابة الفردية أو الثنائية لمَ تتطلبه من جهد ومثابرة وتضحية فعلية وتقاطع أكثر من أنا وإيمان بالكلمة وبالفكرة والهدف المعلن؟ توحّدَ النص وتبعثره إن الكتابة الجماعية مبنية على ثنائية الأخذ والعطاء، الاتفاق والاختلاف وهي تكثيف لأكثر من »أنا« في ذات واحدة هي مجموع ذوات، ومن هنا جاء ذلك التعدد والغنى في الرؤى والأفكار واللغة والدلالات والإيحاءات... تجتهد كل ذات كاتبة ضمنها في كتابة نص ينطلق من هاجس واحد يتوطد عبر السياق الداخلي للتأليف المشترك، لتنصهر في رؤية فتترك للقارئ أن يلاحظ ويؤوّل توحّدَ النص وتبعثره في وقت واحد، توتر إيقاعه هنا وانسيابه هناك، ويستخدم مهاراته لفض الاشتباك بين كاتبين أو أكثر، آخذاً بتشريح النص المشترك بطريقته الخاصة في عملية فصل العبارات والجمل بعضها عن بعض، وتفكيك النص وإعادة كل كاتب إلى لغته وأسلوبه... ليصل إلى روح كل كاتب وكل كاتبة على حده... نصوص تحافظ على تماسكها في السياق العام، للوصول بالمنجز الجماعي إلى غايته الأساسية وهي التفاعل بين الذوات الكاتبة من جهة وبين القراء من جهة أخرى... فيظل النص حيًا متحركًا قابلاً للتغيير... رافضا للتحنيط والتثبيت... تحويل الألم إلى دربة على الحياة ضمن حصص ورشة انجاز هذا الكتاب تم التركيز على تيمة الاختلاف في الكتابة لدى كل فرد مشارك كسرا للحواجز التي تقول إن الكتابة فردية وذاتية بالأساس، ليتم تقديم نصوص مشتركة بصيغة الفرد/الجمع تتوفر على همّ جماعي طافح من خلال كتابة نصوص قد تبدو ناقصة بذاتها غير أنها مستكملة بغيرها. ورغم أن هذه الكتابة شكل نادر وقليل الانتشار، إلا أنها نجحت من خلال حصتين من التجاذب اللغوي والتنافر الكتابي والقهوة السوداء الثرثارة إلى بعثرة نصوص ضدّ الصمت والخمول والانتحار البطيء. نصوص ضد البياض الأبله. نعم هي مشارب وتجارب مختلفة لكن الوجع واحد. كان رهانا حقيقيّا، رهان تحويل الألم إلى دربة على الحياة. أليست الكتابة فعل حياة بامتياز؟ في البداية، حَمّسهم فضاءٌ ارتادََه العديدُ منهم وخبروا مساحة الحرية والنضالية فيه، ذلك الفضاء الذي أعادهم إلى ضجيج النقاشات المدوّية أيّام السّعي إلى تأسيس المنتدى الاجتماعي الشبابي التونسي، فضاء الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، وذلك الفضاء الذي حاصره الأمن ذات اجتماع، فضاء تناصف، فضاءان لطالما أحسّ بعضهم بالانتماء إليه فكريا ومطلبيا، وانتشر في أرجاءه البعض الآخر رغبة في الاكتشاف، فضاء النسويات اللواتي طرحن دائما شعار أن تونس أخرى ممكنة، تونس للمساواة والمواطنة الفعلية، تونس للحرية والديمقراطية، تونس ينتفي فيها الفقر والجوع، تونس دون بطالة. حمّسهم تناثر الشموع والورود والموسيقى التركية الهادئة في الأرجاء تلك التي بعثرتها بشعرية عالية يسرى فراوس، فإذا بهم ينسحبون طوعا من ورشة البطالة التي يحيونها غصبا وينضمون تلقائيا إلى ورشة الكتابة إيمانا منهم بأن لا شيء ينزل من السماء، إنما الكل ينبع من الأرض، منهم، من طينهم وعرقهم وسجائرهم وساعاتهم المعطلة. مريم، ليلى، أمامة، رجاء، أمل، سامية، سالم، عبد الرزاق، صبري، معا يبدؤون من أنفسهم لا من الصفر، مؤمنات ومؤمنين بأنه ليس من حسن التدبير في أمر أن يصنعوا خبزا من قمح لم يُزرع بعد... لسن كاتبات محترفات ولا كتّابًا محترفين بالمعنى الدقّيق للاحتراف، ولكن الأكيد أنهم جميعا احترفن واحترفوا الدَّقَّ على الأبواب الخشبية الباردة، احترفوا كتابة مطالب الالتحاق بسوق الإنتاج، احترفوا المطالبة بشكل أو بآخر بحقهم في الشغل، حقهم في الحياة، ولعلّ هذا المنجز يكون أحد طرائق تبليغ الصوت للذين انتهجوا كاتم الصوت... لهذا طرحوا الأحلام والتسويف وراءهم وتجرّؤوا على افتكاك مواقعهم الأصلية، فاختاروا أدواتهم البسيطة وغامروا بالتّسامق من أرضهم، من جراحهم ومن آلامهم أملا في حرث أزمنتهم المُجدبة واستحلاب السحب حبرا أجاجا علّه يُغرقهم في ألوانه ويُبعثرهم في ضوئه وينثرهم في اللامتناهي من آفاقه ليطيروا بأجنحة فراشة إلى سماء أبعد... غامروا بالانتشار مثل أشعة الشمس وتقاطعوا على أرض من ورق وحبر ليعلنوا أنهم هنا سيحتفلون بالحياة ولو كتابة. ... أليست الكتابة فعل حياة بامتياز؟ تدوين التجربة، رفض الحالة من هذا التساؤل بالذات، يمكننا أن نمسك بالخيط الرفيع الذي جمعهم في هذا الكتاب المشترك الموسوم ب: »نحياها نكتب«، فالكل يشترك في تلك التجربة المريرة التي نسمّيها عبورا وتجاوزا »بطالة«، والكل من صاحبات وأصحاب الشهائد العليا المعطلين والمعطلات عن العمل، ضحايا قانون تراكم الرأسمال الوحشي، والفئة الجديدة الملتحقة بصفوف الجيش الاحتياطي من العاطلين، والكل أيضا آمن بإمكانية تدوين تجربته حبرا تعبيرا عن رفض الحالة. ورغم صعوبة المفاتيح الأولى للكتابة، إلا أن ورشة الكتابة التي جمعتهم، حرّكت ما كان ساكنا... وجعلت كل مشاركة ومشارك يفصح عن تفاصيل أيامه من أحلام الطفولة إلى رائحة الأحذية ومن أدعية الأمهات إلى سخط الأحبة فاختلط في لحظات كثيرة الحبر بالدمع تثبيتا لإيمان راسخ بأن الوظيفة الكتابية للكلام الورقي في مثل هذه اللعبة تمثل فعل توازن نفسي على الأقل وقبل أن يكون النص »لحظة تدشينية...« ومن رحم ورشة الكتابة الجماعية أٌنجز هذا الكتاب، في إطار ما يسمى »الكتابة بأربعة أياد« وفقا للتعبير النقدي الفرنسي، ضاربا اللاّفعل والصمت عرض الحقيقة، وبه اغتيلت العزلة الفردية لكل معطل عن العمل باعتبارها السبب الرئيسي في إضعافنا وفاء لقاعدة الأنظمة الرأسمالية »فرّق تسد«. لِيَغْفِر لنا القُرّاء سوداوية الحقل الدلالي (أغلال، حالة ترقب ، دمار، احباطات، فقاع، حابسة وتمركي، قهر، تهميش، إرهاب، كارثة، غيبوبة، انهيار، توقف عن الحياة...) وغيرها من عبارات الألم المعتّقِ فما هي إلا شيء من الوجع الذي خشينا للحظات أن يثنينا عن الإيغال في مقاومة الرّكود والبياض لكنها بفضل الكتابة انتشرت بإيقاعات متقاربة ومتباعدة على صفحات هذه النصوص بعد أن اجترح كل مشارك ومشاركة نصا محمّلا بالدّلالات الإرسالية وثرّيا بالوقائع المعيشة حتى نتعرف على سخاء المعنى من مختلف تلك التجارب الفردية للبطالة. هكذا لم يكن نص رجاء الدهماني تأثيثا للوهم وتوقّفا بين السماء والأرض مثلما كتبت، بقدر ما كان تخفّفا من ثقل سنوات العطالةّ التي أذبلت بستانها الوردي، وسباحة في دائرة الطموح الشاسعة، كما كانت أمل الجنيدي وفيّة لاسمها فجاء نصُّها رافضا لانتظار يد القدر، وتحطيما للسلاسل، وخروجا من الزنبقة... كما أن الحرج الذي أصاب صبري الزغيدي أمام أولئك الذين ماتوا بالرصاص في مدينة الرديف وقتلوا بسبب بحثهم عن كرامة مفقودة؟ غير أنه لم »يحرث البحر« ورسم خطه على هذا المنجز تخليدا لشبان الحوض المنجمي ورفضا لعلبة الموت التي يتحرك فيها... حفز التأويل وعصف الأفكار ان مثل هذه التجربة بتفاصيلها ونتيجتها وبمَ ستؤجّجُه من تأويلات عدّة وردود فعل متباينة، قد حقّقت حفزا مضاعفا وعصفا لأفكار كانت مركونة بأدراج ذاكرتنا الجمعية ومعششة بذاكرة كل واحد منا... رغم أن كل مشاركة وكل مشارك لم يخف رغبته في إثبات ذاته ككائن حبري وأسلوب مختلف من خلال نصه الشخصي وهو ما زاد الكتاب ثراء... ورغم التشابه الظاهري في الأسلوب الأدبي الغالب على النصوص المنجزة لتقارب الحقول الدّلالية، وتشابه الوضعيات الاجتماعية للمشاركات والمشاركين، فقد تجاوزوا ذلك بعدم إعطاء صورة عن آفة البطالة تتجسد في الأرقام والإحصائيات وفي الخطب والوثائق، لأن ذلك عمل يتكفل به خبراء الاقتصاد وعلماء الاجتماع والسّاسة، واحتكم بالمقابل كل مشاركة ومشارك للتفاصيل اليومية المعطوبة بالعطالة المزمنة أو المتقطعة... فكانت النصوص نبضا جماليا حيا لا مراءاة فيه ولا مجاملة... ولئن قيل في ألمانيا أنه »بعد أداء رقصة السمبا من قبل جماعة بدون أوراق ورقصة الرومبا للمشردين جاء الآن دور رقصة السالسا للعاطلين«، فاني أقول بأنه حان وقت الانخراط الواعي والإرادي للمعطلات والمعطلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا في شكل نضالي مغاير يلحُّ علينا بشكل مطرقي وهو رقصة القلم على البياض ولا شك أن هذه المغامرة التي دعت إليها جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات في إطار الجامعة الشبابية الثانية ستكرّر هنا وهناك وستطرق أوجاعا وأحلاما أخرى ... لأن الكتابة هي فعل حياة بامتياز.