بالنظر لما يثيره الموضوع من إشكالات معرفية عدة وضرورة البحث عن مقاربات وبدائل ارتأيت فى هذه الورقة المختصرة تناول المسالة من زاوية الكشف عن المشاغل الحقيقية التى ينبغي على المثقف العربي الاشتغال عليها واختراق عوالمها فى مواجهة اشد تمظهرات الإرهاب خطورة على العقول والنفوس والمشروع الديمقراطي برمته ما اصطلح على تسميته بالإرهاب الجهادي السيبرنى والتي أحبذ استعاضته بعبارات "الإرهاب التكفيري السيبرنى". جميعنا تقريبا مدركين بدرجات متفاوتة الخلفية السيبرنية العميقة للإرهاب التكفيري بما يوفره العالم الافتراضي من إمكانات واسعة من دعاية واستقطاب وتمويل، وأن جغرافيا الإرهاب بالعراق وسوريا وليبيا تعرف اليوم انحسارا كبيرا ليصبح المجال السيبرنى مرشح فى المدى القريب للتحول إلى الحاضنة الكبرى لهذه الجماعات فى أضخم هجرة وإعادة انتشار سيبرني على الإطلاق ستسجلها حتما يوميات الحروب السيبرنية المعاصرة . بالمقابل نشهد أن المشروع الديمقراطي الذي بدأ بتلمس طريق تحققه فى التجربة التونسية مصاب اليوم بحالة من الكساح الفكري فى التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة..ففى مواجهة الارهابى التكنوقراط، المتخصص فى شؤون السيبرنيقا، تقدم عددا من مؤسساتنا الجامعية والبحثية نموذجا من المثقف المتثاقف، المتحفي المنشأ الذي لم يتجاوز بعد فلك الأصالة والمعاصرة ومدارات الكونية والخصوصية، توقفت به ساعة الزمن فى أفضل الحالات عند ديالكتيك هيغل وعضوية غرامشى، فى حين أن البشرية منذ ثمانينات القرن الماضي دخلت حقبة جديدة تعرف بعصر "الإنسان الكونكتكيس" المرتبط عضويا بشبكة الانترنت أين يحتل علم السيبرنتيقا مكانة محورية إلى جانب الفيزياء الكوانتية والهندسة الوراثية وغيرها من العلوم الحديثة... الم يكن محقا الفيلسوف الألماني الكبير "هايدغر" عندما أعلن سنة 1966 عن نهاية الفلسفة وبداية عصر السبرنطيقا ؟ فاستراتجيات الاتصال والاقتصاد والاجتماع الحديثة تستمد حيويتها واستدامتها من الشبكة العنكبوتية بما يؤشر فى المنظور المتوسط إلى ولادة مجتمع مغايرا تماما بإحداثيات تواصلية جديدة يمتزج فيه البشرى بالتقني إلى مستوى من التماهى المدهش والمخيف فى نفس الوقت..كما تقر جميع مدارس الدفاع الكبرى ومؤسسات التفكير الاستراتيجي فى العالم على أن الفضاء السيبرنى يعدّ اليوم مجالا جيواستراتيجيا حيويا مستقلا بذاته قادرا بخصائصه السيبرنية العالية على توجيه وقيادة المجالات الأخرى البرية والجوية والبحرية ... فالسبرنتيقا التى ابتدعها أفلاطون فى إشارة منه إلى موجّه السفينة، وصاغ مفرداتها الحديثة عالم الرياضيات الامريكى نور برت فينر Norbert Wiener فى منتصف القرن الماضي التى عرفها " بعلم القيادة أو التحكم في الأحياء والآلات ودراسة آليات التواصل في كل منهما "، وطورها عمالقة التكنولوجيا والميديا " غوغل وأخواتها" واستفادت من مخرجاتها أجهزة الاستعلام فى العالم والجماعات الإرهابية وفلول من الجريمة السيبرنية المنظمة تعتمد مثلها مثل وسائل الإعلام بالأساس على المعلومة من حيث المبدأ والتحكم والضبط من حيث الهدف والغائية، وكليهما يلعبان دورا رئيسيا في تحديد وتوجيه السلوكات الاجتماعية إلى درجة نشهد اليوم تحول الوسائط الإعلامية ذاتها إلى آلية من آليات التحكم السيبرنطيقي الرهيب. من المفارقات أنّ هذا الأمر تفطّن له الإرهابيين السيبرنين جيدا فى حين غاب عن ذهن العديد من مثقفينا..فالارهابى بحكم تكوينه العلمي والتقني (فى معظمهم خريجي مدارس هندسة وعلوم) ونزوعه الفطري نحو عوالم الايدولوجيا والواب الملغزة والمرمزة بما توفره من خطوط تواصل واتصال مؤمنة باستخدام ممرات وقنوات سرية عبر "متصفح تور" الشهير وغيرها يجد فى الشبكة العنكبوتية منظومته البيئية المثالية منها يستمد مقومات وجوده ودونها لن يكون له اى وجود أو حتى مجرد صدى وجود... من باب التنسيب تقتضى الإشارة هنا إلى أن ظاهرة الإرهاب التكفيري السيبرنى لم تبلغ مستوى من التمكن السيبرنى العالي الحرفية التى يخولها للقيام بضربات سيبرنية منظمة وموجعة من شانها شل شبكات الاتصال أو الدفاع لأي دولة - على غرار ما وقع فى استونيا سنة 2007 التى عرفت توقف للحياة بالكامل بفعل هجمة الكترونية روسية غير مسبوقة باستخدام آلية "تعطيل الخدمات الاتصالية عن العمل" - لتظل مخاطرها تراوح المجالات الدعائية لا غير، لكن لا شيء يمنعها من تحقيق نقلة سيبرنية حقيقية لترتقي إلى مصاف الفاعل السيبرنى الرئيسي والمؤثر خاصة عندما تجد الدعم والمساندة من مجموعات خطرة من الهاكرز المعروفة بقدراتها التخريبية العالية فى لحظة من لحظات التقاطع الموضوعي المصلحى فيما بينهما . فعندما يتصدر صفحة الفايسبوك الرسمية لإحدى هذه المجموعات النشطة الحديث النبوي الشريف : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان " لتختم نفس الصفحة بعبارات التهديد والوعيد " بأن اليوم حرب شاشات وغدا حرب رشاشات" ندرك تمام الإدراك مدى تزاوج البعد التقني بالأبعاد العقائدية لدى هذه الكائنات السيبرنية المتعطشة للدماء الماسكة بتقنيات السيبرنتيقا والمتخفية خلف قناع الدفاع عن المقدس . فمن خلال استخدامهم الهوليودي لتقنيات المزج المتطورة للصورة والصوت والنص المكتوب تهدف بنيتهم الدعائية والاتصالية إلى خلق هوية جمعية تكفيرية ترفض المجتمع الراهن باعتباره غارق فى الجاهلية وتبشر باقتراب ملحمة آخر الزمان ملحمة "دابق" وقيام الخلافة الاسلاموية التكفيرية فى كل بقاع العالم. فالإعلان بان " اليوم حرب شاشات وغدا حرب رشاشات" يكشف بوضوح الخيط الرفيع الفاصل بين ما يحدث اليوم بالشبكة وما سيحدث سويعات أو غدا على ارض الواقع ، فالمعركة تديرها الشاشات كإحدى وسائط الميديا الحديثة لتحسمها فيما بعد الرشاشات الغادرة والسيارات والأجساد المفخخة... "فاللسان" الذي ورد فى الحديث النبوي الشريف يقابله فى القاموس الارهابى مصطلح "الشاشات".. و"الرشاشات" رديفها عبارة "فليغيره باليد" لدفع المنكر الكبير عند هؤلاء وهى الدولة بشكل عام والمشروع الديمقراطي بشكل خاص. ففى استعارة للعبارة الشهيرة ما العمل ؟ نجد أنفسنا فى مفترق الطريق فإما مواصلة الإمعان فى إعلان حالة العصيان عن كل تحول تقنى وعلمي والتمترس داخل دارة فكرية ماضوية مغلقة وإما المبادرة بالانخراط الواعي فى عالم السيبرنتيقا بتداعياته الارتدادية الايجابية والسلبية التى لا تعرف التوقف ..فإما الموت بمعناه الحقيقى والرمزي وإما الحياة بأفقه الواقعي السيبرنى. وفق هذا الطرح الجديد لمسالة وجود وديمومة المشروع الديمقراطي من عدمه، ليست لدينا العديد من الخيارات سوى التعامل مع ظاهرة الإرهاب السيبرنى بأدوات والأنساق الفكرية والتقنية المتاحة للسبيرنطيقا. فالتصدي للإرهاب التكفيري السيبرنى وملاحقته لن ينجح دون العمل بشكل متواتر على الثنائية السيبرنية التالية : - المواجهة المعلوماتية الأمنية من خلال استخدام آليات الرصد والاختراق لهذه الشبكات للكشف عنها ومزيدا من الانفتاح والتعاون بين مؤسسات الدفاع والأمن المتخصصة فى المواجهة السيبرنية ومختبرات البحث العلمي بغرض تصميم أنظمة امن معلوماتي من "جدران نارية" وغيرها أكثر قدرة وفاعلية على تحقيق سلامة وحماية اعلي لعمل الخوادم الكبرى للشبكات، والعمل على استحداث جيل جديد من "محركات البحث الذكية" القادرة على اختراق "الواب الخفي أو العميق" الذي يشكل أكثر من 80 بالمائة بما يعتمل داخل الشبكة والتي خلف أسواره المنيعة تتحرك بحرية فرق الموت لمنظومة الإرهاب السيبرنى... - المواجهة السيبرنية المواطنية للإرهاب بوضع استراتيجيات ومقاربات تربوية جديدة منها "التربية على الميديا والمعلومات" التى تهدف إلى تنشئة جيل مواطني سيبرنى يتمتع بحس نقدي عال لما يدور داخل الشبكة قادر على مكافحة جميع مظاهر الراديكالية والتشدد مهما كان مصدرها او غائيتها. "فالتربية على الميديا والمعلومات" تعدّ اليوم مشغلا فكريا على غاية من الأهمية وفرصة للمثقف العربي للتدارك الابستيمولوجى قبل فوات الأوان. فالمثقف العضوي الجديد هو ذاك القائد السيبرنى بصيغة الجمع، المتعدّد الاختصاصات، المؤلّف من فرق متكاملة من الباحثين فى علوم الحاسوب والفيزياء الكوانتية وشؤون الأمن والدفاع وعلوم الإعلام والميديا والانتربولوجيا الثقافية واللسانيات الحديثة وعلم النفس الاجتماعي وغيرها من الروافد العلمية ... فى الختام سيظل المشروع الديمقراطي دون محالة يراوح مكانه إن لم نحقق قدرا كاف من التمثل للثقافة السيبرنية علنا نظفر هذه المرة بمكان "امن" تحت سحبها الغائمة المتحركة ...