الإيقاعات ليست مجرّد نقرات وضرب على الدف أو الطبل أو الدرامز، الإيقاعات أعمق من ذلك بكثير هي لغة قائمة بذاتها، تعبير عمّا يعتمل بنفس الفنّان من هواجس، هي مسرحة لهواجسه ورقصات تترجمها أنامله وكفّيه. الإيقاعات عقيدة يعتنقها العازف فينثر بها رسائل السلام والأمل ويعرّي بها معاناة المعذّبين في الأرض، يترجم كفاحهم وتشبّثهم برغبتهم في الحياة، والموسيقي العالمي عماد العليبي اعتنق هذه العقيدة، وبثّ في اختتام أيام قرطاج الثقافية للإبداع المهجري رسائل عميقة كالهوية، متشعّبة كالحياة.
على ركح قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة، أطلّ عماد العليبي مصحوبا بثلاثة عازفين فرنسيين على البيانو والترومبيت والغيتار باص، ولّى وجهه شطر الإيقاع وشرع في مغازلة آلاته، ومراقبة حركات عماد العليبي على المسرح كفيلة بإبراز مدى عشقه للإيقاعات، اهتززات جسده، بريق عينيه وتلك الابتسامة الخجولة التي ترتسم على محياه وهو يلامس الآلات الإيقاعية.
العليبي حينما يعزف، لا يتّكل على يديه وأنامله فحسب بل يسخّر كلّ جسده ليبلّغ رسالة مفادها أنّ العزف لغة جسد، تعبير عن كينونة الفنان وامتداد لذاته، وإيقاعاته التي تسكنها روح الموسيقى التونسية لا تعترف بالحدود الجغرافية، منفتحة على موسيقات لعالم من الجاز والروك والالكترو والفلامنكو، إيقاعات امتزجت بنغمات الترومبات والبيانو والغيتار باص فولّدت موسيقى متفرّدة، موسيقى حمّالة هوّية وتواقة إلى الحياة.
واللافت في عرض عماد العليبي حضور الفنّان النيجيري من الطوارق "أنانا هارونا" الذي أثرى العرض بطابعه المميّز، و"أنانا هارونا" هو مؤسس فرقة " كيل أسوف" وهي فرقة تمزج هي لأخرى بين أنماط موسيقية مع الحفاظ على روح الأمازيغ والطوارق فيها.
إيقاع فريد تشكّل على ركح قاعة الأبرا، امتزجت فيه أنغام غيتار "أنانا هارونا" و "صخب" إيقاع عماد العليبي، وأنين البيانو وصرخات ترومبات "ميشال مار"، وأهات الغيتار باص، واختلطت مشاعر الشحن بالحماسة وتحرّت كثبان رمال الصحراء بين الإيقاعات.
كان صوت الفنان النيجيري، ممتدا في عمق الصحراء، يحاكي صوت الرياح إذ لامست الهجير، يترنّح بين الأنغام الحزينة وصخب الإيقاعات، وبعيدا عن موسيقاه العذبة وصوته الذي يحمل هويته الامازيغية، وانتماءه الصحراوي، كان لباسه أيضا مثيرا ومميزا، السروال والقميص الطويل وغطاء الرأس الذي يميز قبائل الطوارق، وهو أمر إن دلّ على شيء فيدلّ على أنّ الحبل السري الذي يربطه بالصحراء لا ينقطع بمجرّد العيش في بلد أوروبي.
وفي قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة، رفرف العلم الأمازيغي وتوشّح به " أنانا هارونا"، فما كان العرض الذي قاده عماد العليبي مجرّد عرض تتراقص فيه الأجساد على وقع الإيقاعات بل كان بوابة للصحراء وعوالمها، الأزياء التي ارتداها الأفارقة الحاضرين، والإيقاعات الافريقية الصاخبة، حملت الصحراء بتفاصيلها إلى قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة.
والعازفون ترجموا حكاية امتداد الإنسان في أرضه وهويته إلى موسيقى ألغت حواجز اللغة والانتماءات، وجمعت الجمهور على قاعدة شعور مشترك أثار الأرواح والأجساد التي تفاعلت مع الإيقاعات رقصا.